د. محمد السعيد إدريس – جريدة الأهرام
الثلاثاء 26 من جمادي الأولى 1444 هــ 20 ديسمبر 2022 السنة 147 العدد 49687
فرضت القمم العربية الثلاث التي عقدت مع الصين يومي الخميس والجمعة (8-9 ديسمبر الجاري): القمة السعودية – الصينية، والقمة الخليجية – الصينية، والقمة العربية – الصينية فرضيتين أساسيتين يجب التعامل معهما بجدية. الفرضية الأولى تقول إن العرب في مقدورهم أن يكونوا كتلة موحدة، وأن في مقدورهم إقناع دول العالم أن تتعامل معهم على هذا النحو باعتبارهم كياناً عربياً، وهنا يبرز أمر «الهوية العربية» التي جرى تجاهلها أو نسيانها على مدى عقود فى مقدمة كل حوار مع الذات أولاً ومع الغير ثانياً.
وفى ظل هذه الفرضية التي تكشفت بجلاء فى الحوار مع الصين، يجب أن يتعامل العرب مع بقية دول العالم باعتبارهم «وطناً عربياً» أو على الأقل «عالماً عربياً» وليس مجرد «منطقة» منزوعة أو مشوهة الهوية كما جرى على ذلك الإعلام العالمي وشاركه بكل أسف الإعلام العربي والنخب العربية. أما الفرضية الثانية فهى أن الصين وما ورد على لسان الرئيس الصيني «شى جينج بينج» من تعهدات وطموحات بشأن التعاون الصيني في كافة المجالات على أساس من الندية والاحترام المتبادل والثقة تؤكد أن الصين يمكن أن تكون خياراً استراتيجياً للعرب، بل أن تكون شريكاً استراتيجياً، وأن الأجواء الجديدة لما يمكن تسميته مجازاً بأجواء «الحرب الباردة العالمية الجديدة» تعطى للعرب فرصة تاريخية للانعتاق من قيود شراكة أمريكية -غربية.
فالقمم الصينية الثلاث مع العرب التي استضافتها المملكة العربية السعودية فتحت آمالاً واسعة لمستقبل عربي أكثر إشراقاً وازدهاراً عبر عنه ولى العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في ختام القمة الثالثة (العربية – الصينية) بقوله إن العرب «سيسابقون على النهضة والتقدم». وقال: «نؤكد للعالم أجمع أن (العرب) سوف يسابقون على التقدم والنهضة مرة أخرى. وسوف نثبت ذلك كل يوم». هكذا فرضت أجواء القمة نفسها على كلمة ولى العهد السعودي فتحدث عن «العرب» هكذا، ولم يتحدث عن «دول عربية».
هذه النقلة الكبيرة في الإدراك للذات وفى الطموح بالمستقبل دعمتها ما ورد على لسان الرئيس الصيني «شى جينج بينج» الذى اعتبر أن «قمة الرياض العربية- الصينية للتعاون والتنمية» هي «حدث مفصلي في تاريخ العلاقة بين الجانبين» وأنها «ستقود العلاقات والتعاون بين الصين والدول العربية نحو مستقبل أجمل»، وأكد أهمية التمسك بالاستقلالية وصيانة المصالح المشتركة، مشدداً على دعم جهود الدول العربية «لاستكشاف طرق التنمية التي تتماشى مع ظروفها الوطنية، والتحكم في مستقبلها ومصيرها»، ما يعنى أن هذا النموذج الجديد من الشراكة العربية – الصينية لا يقوم على فرض الوصاية والهيمنة، بل على احترام الإرادات العربية والخصوصيات .
وهنا جاء حديث الرئيس الصيني عن الحرص على «تعميق الثقة الاستراتيجية المتبادلة، وتبادل الدعم الثابت في المساعي العربية للحفاظ على السيادة وسلامة الأراضي والكرامة الوطنية. وفى كلمته أمام القمة الخليجية – الصينية كان الرئيس الصيني حريصاً على الحديث عن التقارب الحضاري التاريخي- الصيني – العربي، وعن تدعيم جوهر «الحضارة الشرقية»، وليس ما يطرحه الغرب من «صراع بين الحضارات» و«فوبيا العداء للإسلام».
وجاء «إعلان الرياض» الذى صدر في ختام القمة العربية- الصينية ليؤكد أولاً حرص الجانبين على تعزيز الشراكة الاستراتيجية القائمة على التعاون الشامل والتنمية المشتركة لمستقبل أفضل، والالتزام بمبادئ الاحترام المتبادل لسيادة ووحدة الأراضي وسلامتها الإقليمية وليؤكد ثانياً أن القضية الفلسطينية تظل قضية مركزية فى الشرق الأوسط، وهى التي تتطلب إيجاد حل عادل ودائم لها على أساس «حل الدولتين» ، من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
أمام هاتين الفرضيتين سيكون أمام العرب (الدول والشعوب) مواجهة مصير العلاقة مع الغرب وبالتحديد مع الولايات المتحدة، وما يربط دولاً عربية بـ «شراكات استراتيجية» مع الولايات المتحدة. هل سيكون خيار العرب هو الجمع بين الشراكتين الصينية والأمريكية؟ وإذا كان هذا هو الخيار في ظل روابط وقيود أمنية تربط دولاً عربية بالولايات المتحدة هل ستقبل الولايات المتحدة بهذا الخيار؟ ، وكيف سيكون فى مقدور العرب التنسيق بين الشراكتين؟ الأسئلة مهمة، إجاباتها يمكن الاستدلال عليها من الأجواء المحمومة والساخنة للقمة الأمريكية – الأفريقية الثانية (بعد قمة 2014 في عهد الرئيس باراك أوباما)، التي عقدت بعد أيام معدودات من اختتام القمم العربية – الصينية في الرياض، وبالتحديد فى الفترة من (13- 15 ديسمبر الجاري). فهذه القمة الأمريكية – الأفريقية جاءت لمواجهة تمدد النفوذ الصيني والروسي في القارة الأفريقية، وبالتحديد لاستعادة الثقة الأمريكية مع أفريقيا واحتواء النفوذ الصيني، وقد تجلى ذلك فى قرار وزير الخارجية الأمريكي أنتونى بلينكن إنشاء ما سموه فى واشنطن بـ «تشاينا هاوس» (البيت الصيني) لتنسيق المنافسة مع الصين.
وقال بيان للخارجية الأمريكية إن «(تشاينا هاوس) سيكفل قدرة الحكومة الأمريكية على إدارة منافستنا بشكل مسئول مع جمهورية الصين الشعبية، وتعزيز رؤيتنا لنظام دولي مفتوح وشامل». حجم الإغراءات الأمريكية لأفريقيا فى هذه القمة كان غير مسبوق، لكنه يبقى دون حقائق التعاون الصيني مع أفريقيا، وجاء يفرض «مواجهة التأثير الصيني الخبيث على القارة الأفريقية»، وفق تعبير جون كيرى الناطق باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، أجواء تلك القمة جعلت الرئيس الرواندى بول كاجامى يعرب عن استيائه من فكرة أن بلاده وآخرين في القارة «يعلقون بين الولايات المتحدة والصين».
وقال كاجامى خلال حديث على هامش تلك القمة استضافته مؤسسة «سيمافور» الإخبارية « لا أعتقد أننا في حاجة إلى أن نتعرض للتنمر في الاختيار بين الولايات المتحدة والصين». كما عبر الرئيس السنغالى ماكى سال ، الذى تتولى بلاده رئاسة الدورة الحالية للاتحاد الأفريقي عن الإرادة الأفريقية إزاء الأجواء الأمريكية المحمومة لفرض الاختيار بين الصين والولايات المتحدة على الأفارقة بقوله : «نريد شراكة من دون ان يقول لنا أحد ما نفعل أو ما لا نفعل». إجابات أفريقية تفسح مجال الاجتهاد أمام العرب لحسم خياراتهم بين الشراكتين.