د. علي محمد فخرو – قناة الشروق
الأربعاء 17 أغسطس 2022
إذا كنت تريد أن تعرف مدى بشاعة ومأساة ما فعلته بعض أنظمة الحكم العربية بشعوبها فما عليك إلا أن تزور مدن الغرب الأوروبي لترى بؤس حياة أولئك الضحايا. دعني أصف ما شاهدت وعرفت في مدينة إنجليزية تقع على حافة لندن.
في الشوارع والأسواق والمطاعم يتعرف الإنسان على ألوف الوجوه التي طالما شاهدها عبر حياته في مدن الوطن العربي: من سوريا والعراق ولبنان واليمن مصر والمغرب العربي وحتى الخليج العربي وغيرهم. وجوه متعبة، أو شاحبة، أو مبتسمة باستسلام وخضوع، أو متسكعة في الأزقة أو على حواف الطرقات الصاخبة، أو وجوه أمهات متعبات يهدئن جيوش الأطفال من ورائهن، بوجوه نسيت الفرح وبعيون زائغة لا تفهم ولا تتعرف على ما يدور من حولها من سلوكيات وأحاديث.
تستوقف أحدهم أو إحداهن من أين الأخ أو الأخت؟ من ذاك البلد العربي المأزوم أو ذاك الوطن المهدم المسحوق، يأتيك الجواب. هل أنت هنا منذ زمن طويل؟ يصلك الجواب منذ عشر، عشرين، ثلاثين، أربعين سنة. أما إن تجرأت وسألت عن مصادر عيشهم هم وعائلاتهم فستكون قائمة طويلة من الوظائف الخدمية المتواضعة أو الإعانات الحكومية أو ما يرسله الأولاد العاملون في بلدان اليسر من هبات لتقيهم مصادر التسول أو بيع الشرف أو خيانة الضمير.
وبين الحين والآخر تتساقط الدموع أو تسمع الآهات بشأن أم مقعدة جائعة أو أب مصاب بمرض الخرف ويعيش حالة العزلة التامة في المكان والزمان.
تقف أنت مشدوها ومفجوعا وغضبانا ولاعنا يعقبه طرح السؤال على نفسك: مدن الغرب يزورها في طيلة أيام السنة الملوك والأمراء والرؤساء والوزراء وكثير من المسئولين، فهل يا ترى تجول أحدهم أو مرافقوهم أو حتى خدمهم في شوارع مدن الغرب ليشاهدوا تلك الوجوه الهائمة العابسة المكسورة والتي كان ظلمهم وطمعهم وفسادهم وجهلهم وتحزباتهم الطائفية والقبلية سببا في وجود تلك الوجوه في المنافي والأعمال التي لا تسمن ولا تغنى من جوع؟
أجزم بأن الجواب هو كلا ثم كلا، فهؤلاء من كبار القوم، المتربعين على كراسي الحكم، الساكنين أفخر البيوت والفنادق في المدن الأوروبية يتنقلون فقط بواسطة سياراتهم الفارهة الغالية الثمن، محروسين من قبل حراس يقظين قساة موالين بعمى الضمير ونيران الخوف من عقاب السيد وما وراء السيد. هؤلاء من المترفين يفعلون أكثر من ذلك: إنهم يلومون الملايين المهاجرة ويتهمونها بأنها قليلة المروءة والعرفان بالفضل وبالتالي تستحق المصير الذي وصلت إليه.
ظاهرة المهاجرات والمهاجرين الهائمين العرب، الذين يكتوون بنيران الغربة والتسولات المذلة والعيش في أكواخ الفقر وعيش الفتات، أصبحت محنة عربية قومية كبرى، لتضاف إلى محن الوطن العربي الكثيرة ولأنها كذلك تحتاج أن تواجه لا من قبل كل قطر على حدة، ولا من قبل المساعدات الأجنبية المقدمة بألف شرط مذل، وبالطبع ليس من قبل القوى الاستعمارية والصهيونية التي تعرض بانتهازية وحقارة المساعدة في الأمر.
عيب على الجامعة العربية ومؤسسة قمة الرؤساء العرب أن يجلسوا متفرجين ينتظرون الفرج. عيب على المزكين ألا تشمل أموال زكاتهم حل المساهمة في حل هذه الظاهرة. عيب على شرف هذه الأمة أن تقبل بأن يكون مصير الملايين من شعوبها بهذه الصورة البائسة، وأن تقوم بعض الأنظمة السياسية الأوروبية بواجب المساعدة بصورة أكبر عطاء والتزاما أخلاقيا ودينيا. عيب على وزراء التربية العرب أن لا يفعلوا شيئا لأطفال المهاجرات والمهاجرين الغاطسين في الأمية الأبجدية العربية والمهددة هويتهم العروبية وثقافتهم التاريخية المشتركة. عيب على بعض أغنياء العرب أن تذهب أموالهم لمساعدة فقراء الكيان الصهيوني الحاصل على بلايين المساعدات من كل حدب وصوب وتناسيهم للمهجرات والمهجرين والمهاجرات والمهاجرين العرب. عيب .. وعيب .. وعيب.
وأخيرا عيب على علية القوم العرب أن يزوروا مدن الشتات لملايين العرب دون أن يتنازلوا ويمشوا في شوارع تلك المدن ليشاهدوا عار العرب، وهوان العرب، مبثوثا في كل بقعة من بقاعها.