رجاء الناصر ـ مخلص الصيادي
مايو 18, 2023154 13 دقائق
الحركة الشيوعية
الحلقة الأولى: نظرة عامة على ولادة الحركة الشيوعية في الوطن العربي
مقدمة :
في كل البلدان المضطهدة توجد حركتان يزداد افتراقهما كل يوم:
** الأولى هي حركة البرجوازية الديموقراطية القومية التي تمتلك برنامج استقلال سياسي، ونظام برجوازي.
** وأخرى هي حركة الفلاحين والعمال الجاهلين والفقراء من أجل انعتاقهم من كل أنواع الاستغلال.
وتحاول الأولى قيادة الثانية، وغالبا ما نجحت بذلك بقدر معين، لكنه ينبغي على الأممية الشيوعية، والأحزاب المنتسبة إليها، أن تحارب ذلك الاتجاه، وتسعى إلى تنمية مشاعر الطبقة المستغلة لدى الجماهير العمالية في المستعمرات. وإحدى أعظم المهمات بهذا القصد هي تشكيل الأحزاب الشيوعية التي تنظم العمال والفلاحين وتقودهم إلى الثورة الجمهورية السوفياتية.”1″
ما إن اتخذ هذا القرار من قبل الدولية الثالثة التي ضمت الأحزاب الشيوعية الملتفة حول الحزب الشيوعي السوفياتي في مؤتمرها الثاني المنعقد في موسكو عام 1920، وتم التأكيد عليه في “مؤتمر باكو” الذي عقد في نفس العام، حتى نشطت الأحزاب الشيوعية في تأسيس وتدعيم وجود أحزاب شيوعية في كافة أرجاء العالم ومن ضمنها الوطن العربي.
وقد كان دور الحزب الشيوعي الفرنسي كبيرا في تنفيذ هذه المهمة، كذلك كان الحزب الشيوعي اليهودي، والشيوعيون الأرمن… وساهم في هذه المهمة أيضا الشيوعيون الروس.
1ـ بيانات وموضوعات ومقررات الأممية الشيوعية المؤتمران الأول والثاني ص216ـ ترجمة طلال الحسيني ـ دار الطليعة ـ بيروت
ففي عام 1920 أسس الحزب الشيوعي الفرنسي فروعا له في كل من تونس والجزائر والمغرب، كما تبنى الشيوعيون الفرنسيون الحزب الشيوعي اللبناني ـ السوري، بعد تأسيسه بإشراف الفرع الفلسطيني للحزب الشيوعي اليهودي ” بوعالي تيسيون”، أما الشيوعيون الأرمن فقد نقلوا مع المهاجرين الأرمن خلاياهم فشكلوا منظمة الشيوعيين، الأرمن في لبنان وسوريا” حركة سبارتاكوس”، التي انضمت إلى غيرها من الحلقات وشكلت “الحزب الشيوعي السوري اللبناني”، كما نشط الأرمن في الحلقات الماركسية في مصر.
أما الحزب الشيوعي اليهودي فإضافة لتأسيسه الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي كان يطلق عليه أسم” حزب العمال الاشتراكي” من المهاجرين اليهود إلى فلسطين أصلا فإنه ساعد على تأسيس الحزب الشيوعي المصري عبر “جوزيف روزنتال” أحد اليهود النشيطين المهاجرين إلى مصر، كما ساعد كل من “جوزيف بيجر، وجاكوب نيبر” على تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني عام 1924.
كما أن فريقا من البحارة الروسي ذوي الميول الثورية من طاقم الطراد الروسي “بيريسيفيت” الذي انفجر بلغم الماني قرب بور سعيد قد أثر أثناء وجوده في مصر على مزاج شريحة من المصريين وعلى مزاج الجنود البريطانيين”1″.
كما نشطت الدعاية السوفياتية في اكتساب الجماهير العربية في محاولة لتسهيل نشر الأفكار الماركسية… إلا أن هذه المرحلة لم تشهد أي تأثير فعلي في الجماهير العربية، حيث اقتصرت عضوية معظم هذه الأحزاب على المواطنين الأجانب من الأرمن، ولم يتم نشاط جدي بين المواطنين العرب حتى منتصف العقد الثالث من هذا القرن، وكانت البدايات في مصر ثم في سوريا ولبنان، ثم بدأ الحزب الشيوعي الفلسطيني يسعى لاكتساب الأعضاء العرب، وكذلك بالنسبة لفروع الحزب الشيوعي الفرنسي في بلاد المغرب العربي.
لكن إلى جانب هذا النشاط الحركي للأحزاب الشيوعية العالمية، كانت هناك بدايات لإرهاصات فكرية داخل قطاع المثقفين العرب، ففي أواخر القرن التاسع عشر بدأت ملامح حركة نهوض بتأثير الفكر الليبرالي الغربي، هذه الحركة التي قامت على أيدي بعض دعاة الإصلاح من الدارسين في أوروبا والمتأثرين بالحضارة الغربية، والذين رأوا بالاقتداء بالغرب أسلوبا ومنهجا للخلاص من التخلف الذي قبع فيه الشرق خلال أربعة قرون من الزمن. وكانت أهم المؤثرات لدى هؤلاء المصلحين هي الثورة الفرنسية الكبرى ومبادئها الليبرالية في الحرية الاقتصادية والديموقراطية البرلمانية الدستورية، وتعدد الأحزاب، والعلمانية في بعض صورها.
1ـ لوتسكي ـ تاريخ الأقطار العربية المعاصر ـ ص 21 دار التقدم
لكن هؤلاء المصلحين لم يستطيعوا أن يؤثروا في عمق المجتمع، وقد لاقت دعاواهم معارضة قوية من مراكز اجتماعية منها ما هو رجعي سلفي، ومنها ما هو تجديدي ديني متطور.
وكان لبعض هؤلاء المصلحين احتكاكات أعمق بالمجتمع الأوربي، ولم يقفوا عند سطح الأحداث، وإنما تفاعلوا مع المدارس الجديدة فيه، ورأوا في التيار الاشتراكي قوة جديدة قادرة على تحقيق التقدم الذي يسعى إليه الشرق بنفس الوقت يلتقي مع قواعد العدالة التي تنبع من قيم الشرق.
وكان من أهم أولئك المثقفين الاشتراكيين “سلامة موسى”، و”نيقولا حداد “، و” عزيز ميرهم”، و”يوسف إبراهيم يزبك”، و” اسكندر الرياشي”. “1”
ولكن أفكار هؤلاء لم تكن شعبية، فهي أفكار غربية إذ المسألة الكبرى التي كان يعاني منها المواطنون العرب كانت هي المسألة الوطنية، وقضية التحرر من الاستعمار، أما المسألة الاجتماعية فقد كانت متأخرة، كما أن التركيب الاجتماعي الطبقي لم يكن واضحا ومبلورا، فالمجتمع العربي مجتمع زراعي ومديني غير مصنع، كما أن هؤلاء الدعاة كانوا بمعظمهم من الأقليات، مما جعل تأثيرهم في المجتمع “العربي الإسلامي بأغلبيته” تأثيرا محدودا.
وقد استغل الشيوعيون هذه الارهاصات واعتبروها مدخلا لحركتهم، واستفادوا من النشاط (الصحفي) لهؤلاء المثقفين المفكرين، حتى أن بعض هؤلاء المثقفين كانوا على رأس أحزابهم، ولكن إلى جانب هؤلاء المثقفين نشط الشيوعيون في صفوف الطبقة العاملة التي كانت ما تزال في مراحل نشاطها، بل تكوينها الأولي.
في هذا المناخ كانت بدايات الحركة الشيوعية، وتركت هذه البدايات بصمتها على مسيرة الحركة الشيوعية في الوطن العربي حتى اليوم.
وقد لاحظت قيادة الأممية الشيوعية مصاعب الولادة، فأخذت تضغط على الأحزاب الشيوعية بالتوجه إلى المواطنين العرب، ولكن هذا الانتقال اقتضى وقتا طويلا، ففي الحزب الشيوعي الفلسطيني بدأ تنظيم العمال العرب عام 1924، ولكن تعريب الحزب تأخر حتى منتصف الثلاثينات، كما أن تحول الفروع المغربية والتونسية والجزائرية إلى فروع مستقلة تأخر حتى عام 1936.
1ـ كان سلامة موسى اشتراكيا إصلاحيا، متأثرا بالمدرسة الفابية، أما يزبك فقد دعا إلى الماركسية، وساهم في تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني، أما عزيز ميرهم فكان متأثرا بالاشتراكية الأوربية… يقول إسكندر رياشي عن ظروف تحوله الاشتراكي ” في باريس كرهت كل شيء إلا جمال المرأة، وبؤساء مدينة النور، ووجدت في وطن روسو، وجوريس وأناتول فرانس، أن الرأسمال هو أساس كل عمل مادي، فكرهت الرأسمال وصرت اشتراكيا”، وأصدر الرياشي صحيفة (الصحفي التائه) التي بشرت بالأفكار الاشتراكية.
من جهة أخرى فإن مهمة تنظيم الاتصال بين الشيوعيين المصريين، وتشكيلات الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي كانت تقع على عاتق الحزب الشيوعي في فلسطين، وقد حاول هذا الأخير إقامة اتحاد يجمع مختلف المجموعات الشيوعية في المشرق العربي، فنظم ورعى شبكة التواصل مع الشيوعيين المصريين، كما نظم الحملات الدعائية لنصرتهم في مواجهة ملاحقات السلطة المصرية، وساهم في إعادة ربط الاتصالات التي انقطعت بين القيادة الأممية الشيوعية في موسكو، وبين الحزب الشيوعي المصري، ولعبت “شارلوت بنت جوزيف روزنتال” دورا مهما في هذا الشأن.
كما أشرف الحزب الشيوعي الفلسطيني على توحيد الفصائل الماركسية في لبنان، وتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني، وأصبح “جاكوتير” عضوا في اللجنة المركزية لهذا الحزب مسؤولا للاتصالات الخارجية فيه.
لكن الأممية الشيوعية لم توافق على منح الشيوعيين الفلسطينيين هذا الدور، وعن هذا يتحدث “أبو زيام” مسؤول الحزب الشيوعي في فلسطين: ” إن الأممية الشيوعية كانت تعتبر متطلباتنا السياسية والمادية طموحة جدا، لقد كنا نمثل حزبا صغيرا يتحمل مسؤوليات جسيمة في الوقت نفسه، ولكنه في دوائر الأممية كانوا يرفضون منحنا الإمكانات الضرورية لإنجاز مهماتنا، لقد كان عيبنا الأساسي أننا لم نكن نمثل سوى حفنة صغيرة من اليهود !، صحيح أن الحزب كان يضم بين صفوفه عددا من العرب، وكان يعمل على تطوير نشاطه بين السكان العرب، غير أن ذلك كان يتم ببطء شديد، ولم تكن الأممية الثالثة راضية عن النتائج التي حققناها في هذا المجال”1.
وفي العام 1929 تم الاعتراف بالحزب الشيوعي اللبناني، ودعم هذا الفرع علاقاته مع الحزب الشيوعي الفرنسي في محاولة حاسمة منه للتخلص من هيمنة الفرع الفلسطيني.
مهام الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي
كما هو واضح من مقررات الأممية الثالثة، ومن اجتماع باكو فإن سياسة الأممية الشيوعية في المشرق العربي كانت تهدف إلى تحقيق هدفين أساسيين:
الأول: دعم النضال المعادي للإمبريالية الذي تخوضه الحركات القومية التحررية تحت قيادة البرجوازية الوطنية، ودفع هذه الحركات للتحالف مع الاشتراكية المنتصرة في روسيا السوفياتية ومع حركة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية.
1ـ د. ماهر الشريف ـ الأممية الشيوعية وفلسطين ص 256، دار ابن خلدون بيروت 1980
والثاني: دفع وتأسيس أحزاب شيوعية تكوين قادرة على تجاوز الظروف الموضوعية الصعبة، والانخراط بنشاط في النضال الوطني التحرري الذي تقوده البرجوازية، وتعمل على ربط مهام التحرر الوطني، بمهام التحرر الاجتماعي، من خلال دعم الحركة الفلاحية، والنضال ضد الفئات الاقطاعية”1″
وعلى ضوء هذا التكليف وضعت الحركة الشيوعية في الوطن العربي مهامها الأساسية التي تحدد في:
** تكوين الوعي الطبقي لدى الطبقة العاملة، ونشر الفكر الاشتراكي العلمي بين صفوف العمال.
** التأكيد على المطلب الوطني في محاربة الاستعمار، ومساندة الاتحاد السوفياتي، باعتباره بؤرة الاشتراكية الرئيسية في العالم.
وقد سيطرت على هذه الأحزاب مقولة المؤتمر السادس للدولية الثالثة التي جاء فيها ” إنه من الممكن للمستعمرات نظرا لأوضاعها الاقتصادية الفريدة وللأوضاع العالمية أن تتجاوز مرحلة الرأسمالية إلى الثورة الاشتراكية، إلا أن هذا لن يتم دون المرور أولا بالثورة البرجوازية الديموقراطية، التي ستهيئ في نهاية الأمر الأقطار المستعمرة للثورة البروليتارية وتعتبر هذه المرحلة الانتقالية مرحلة حتمية”.
تطورات الحركة الشيوعية العربية وانتشارها
عرفنا أن أول فرع شيوعي تأسس في فلسطين عام 1920، وقبل ذلك تأسست فروع الحزب الشيوعي الفرنسي في بلدان المغرب العربي الثلاثة، وفي عام 1924 تأسس الفرع السوري / اللبناني الذي بقي خاضعا للحزب الشيوعي الفلسطيني حتى العام 1929، وإن فروع المغرب تحولت الى فروع مستقلة في العام 1936، وفي هذه الفترة تأسس الحزب الشيوعي العراقي، بقيادة “عبد القادر إسماعيل”، كما تأسس بعد ذلك فرع مستقل للحزب الشيوعي في الأردن، واستطاع الشيوعيون المصريون المساعدة في بناء الحزب الشيوعي السوداني عام 1946 بقيادة “عبد الخالق محجوب، والشفيع أحمد”، وبعدها تشكلت أحزاب شيوعية صغيرة في معظم الأقاليم العربية،
1ـ المرجع السابق ص 271
وبقيت الأحزاب الشيوعية في سوريا والعراق والسودان أقوى هذه الأحزاب وأكثرها تأثيرا في الحياة السياسية في هذه الأقاليم.
لكن في مواجهة هذا التوسع عانت هذه الأحزاب من العديد من الأزمات التنظيمية التي جاءت انعكاسا لمؤثرات خارجية وداخلية.
فقد تعرضت معظم هذه الفصائل إلى انسلاخات ( تروتسكية) ضعيفة التأثير، ولكنها فيما بعد تعرضت أيضا لانقسامات حادة بتأثير الصراع “السوفياتي ـ الصيني”، فحدث في العام 1964 انقسامات في الأحزاب الشيوعية في العراق والسودان والأردن،، كما تعرض فرع العراق إلى سلسلة من الانقسامات على يسار وعلى يمين القيادة السوفياتية، أما الحركة الشيوعية في مصر فلم تستطع تجاوز واقع التشرذم منذ نشأتها الأولى، فإلى جانب الحزب الشيوعي المصري، وُجدت دائما العديد من الفصائل الأخرى، ولا تزال وحدة الحركة الشيوعية في مصر مفتقدة حتى اليوم.
وفي لبنان تمزق الحزب الشيوعي أكثر من مرة، وانقسم الحزب الشيوعي في فلسطين إلى أكثر من جناح واستقر على اتجاهين، اتجاه الشيوعيين العبريين، واتجاه الحزب الشيوعي العربي الذي انقسم بدوره إلى مجموعات متعددة.
وفي السودان تعرض الحزب هناك إلى انقسام جديد بعد حركة 1969، وفي سوريا بدأ الحزب منذ مطلع السبعينات يتعرض إلى سلسلة من التمزقات حول مسائل داخلية، مما أدى إلى وجود خمسة أحزاب شيوعية.
ومن جهة أخرى قامت الأحزاب الشيوعية العربية المعتمدة من قبل القيادة السوفياتية بتأليف لجنة تنسيق بينها حيث تقوم بإصدار مواقف مشتركة من الأحداث التي تمر بها الأمة العربية.
مواقف الأحزاب الشيوعية العربية من قضايا النضال العربي
لقد ناضل الشيوعيون العرب بصلابة وفي ظروف غير مواتية لتحقيق المهام التي حددتها لهم الأممية الثالثة، وكما ذكرنا فقد نشطوا في اتجاهين اثنين:
الاتجاه الأول: النضال النقابي والمطلبي في سبيل بلورة وعي طبقي بروليتاري، وقادوا العديد من الإضرابات والتظاهرات العمالية، وساهموا في تأسيس العديد من النقابات، واستطاعوا أن يحققوا إنجازات مهمة في بعض المناطق، فقد سيطروا على معظم النقابات العمالية في السودان، وأثبتوا وجودا محدودا في بعض النقابات في سوريا ولبنان، وفي بعض التجمعات العمالية الطلابية في مصر، كما سيطروا على الحركة النقابية والمهنية في العراق لفترات طويلة.
الاتجاه الثاني: النضال من أجل الاستقلال، فقد ساهم الشيوعيون في الدعوة إلى الاستقلال، وشاركت بعض عناصرهم في بعض الثورات الوطنية، إلا أن هذا النضال اتخذ سمة التردد في مرحلتين: الأولى اثناء قيام الحكومة الشعبية الموحدة في فرنسا التي شارك فيها الحزب الشيوعي الفرنسي في الحرب العالمية الثانية، حيث كان هم الأحزاب الشيوعية مساندة الحزب الشيوعي الفرنسي وعدم إحراج موقفه ضمن الحكومة، فأخذت مناداتهم بالاستقلال تتحول إلى دعوة سلمية”1″.
وفي مرحلة مشاركة الاتحاد السوفياتي للحلفاء في الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور، انصب جهد الشيوعيين في دعم التحالف المعادي للنازية، وأخذت هذه الدعوة أولوية على تدعيم النضال ضد الاستعمار”2″.
ووقف الشيوعيون مواقف مترددة من الكفاح المسلح الذي خاضته شعوب المغرب العربي وخاصة الثورة الجزائرية الكبرى.
لقد كان نضال الشيوعيين من أجل الاستقلال متفقا تماما مع مقولاتهم بأن استقلال شعوب المستعمرات سيفقد القوى الإمبريالية إحدى أهم مصادر قوتها، مما يسهل عملية الإجهاز عليها وانتصار الثورة الاشتراكية العالمية.
إلا أن الأحزاب الشيوعية اصطدمت مع إرادة الكتلة الشعبية الجماهيرية في الوطن العربي في مجموعة من المسائل الوطنية الجوهرية من أهمها:
أولا: الموقف من القضية الفلسطينية
منذ البداية وقف الشيوعيون ضد الصهيونية، التي رأوا فيها نهجا قوميا برجوازيا، وحاربوا النزعة الاستقلالية لدى اليهود الصهاينة بمن فيهم جماعة “البوند”، أي الجناح الاشتراكي الديموقراطي، كما أنهم أدركوا منذ البداية طبيعة العلاقة بين الصهيونية والإمبريالية، فوقفوا ضدها، ولكنهم رأوا أن حل مشكلة اليهود ضمن رؤيته العالمية، أي بوحدة الطبقة العالمية ضد الإمبريالية، وناضلوا من أجل كسب الحركة العمالية الصهيونية إلى جانب نضال البروليتاريا العالمية، ورأوا في الطبقة العالمية اليهودية قوة منظمة وقادرة، ومن هنا اعتقدوا بإمكانية الاستفادة من الطبقة العمالية اليهودية في إنضاج وعي بروليتاري عالمي.
1ـ في كتاب نضال الحزب الشيوعي من خلال وثائقه يقول خالد بكداش في معرض تأييده للمعاهدة الفرنسية السورية التي رفضت من قطاعات شعبية واسعة:” أما الذين يحاربون مبدأ التحالف مع فرنسا، ويسعون بكل الوسائل لعرقلة تحقيقه، هم هتلر وموسيليني من جهة، والفاشيست الفرنسيون ـ أي عملاء هتلر في فرنسا ـ من جهة أخرى، ، وعملاء الرجعية الإنجليزية التي تريد الانفراد بالسيطرة على الشرق العربي من جهة ثالثة، ومع كل هؤلاء بعض الشباب العرب الذين لا يدركون معنى الخطر الفاشي، وأهواله، ويجمحون وراء رغباتهم الخيالية، ولا يفهمون ارتباط مصير بلادنا بمصير الحركة الشعبية الديموقراطية في فرنسا، وكل بلاد العرب”
2ـ جاء في عملية نقد ذاتي منشورة في كتاب نضال الحزب الشيوعي ما يلي:” إن الأحزاب الشيوعية العربية وقعت في تناقض من جراء الشعارات الستالينية حول أولويات النضال ضد الفاشية، في وقت تناضل فيه الشعوب العربية ضد الاستعمار الإنكليزي والفرنسي”.
ومن هذا المنطلق لم يروا في الهجرة اليهودية إلى فلسطين عملية سلبية، فسعوا إلى استثمارها ودفعها في خدمة أهداف الثورة العالمية، وفعلا أسس الشيوعيون اليهود المهاجرون إلى فلسطين أول حزب شيوعي عمالي في المنطقة، كما ساعد هؤلاء على إقامة أحزاب شيوعية في سوريا ومصر، ومن هذه النقطة بالذات حدث الشرخ الأول بين الجماهير العربية وبين الرؤية الشيوعية لقضية الاستيطان.
الجماهير العربية رأت في هذا الاستيطان اعتداء عليها، ولم تفرق فيه بين يهودي رأسمالي ويهودي عامل أو ماركسي، ورأت في الدعوة للنضال المشترك بين العمال العرب واليهود في مواجهة المستغلين اليهود والعربي طمسا لبديهية “أولوية الاستقلال الوطني” وإزاحة الاعتداء الصارخ الناجم عن الاستيطان ذاته.
ورغم هذا الخلاف فقد كان العداء المشترك بين الأحزاب الشيوعية المحلية والحركة الوطنية العربية للاستعمار الأوربي، وللفكر الصهيوني كافيا ليطغى على هذا الاختلاف، إلا أن مسارعة الاتحاد السوفياتي للاعتراف بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود عام 1948 وتأييده فيما بعد لقيام دولة “إسرائيل”، وانسحاب هذا الموقف على الأحزاب الشيوعية العربية التي أعلنت تأييدها للموقف السوفياتي، ولإقامة دولة “إسرائيل”، وقيام بعضها ـ الحزب الشيوعي العراقي ـ بتنظيم تظاهرة لتأييد هذا الموقف، اعتبر من قبل المواطنين بمثابة الخيانة العظمى للقضية العربية التي قدمت آلاف الضحايا في سبيلها، ولم تجد مبررا لهذا الموقف، فعلى المستوى النظري ذاته كانت “الدولة الإسرائيلية” المعترف بها من قبل هؤلاء الشيوعيين هي دولة الصهيونية التي تدعي الشيوعية معاداتها”1″.
وقد اعترفت الأحزاب الشيوعية فيما بعد بخطأ موقفها حيث جاء في كتاب “نضال الحزب الشيوعي” الصادر عن الحزب الشيوعي اللبناني: “إن الحزب لم يستطع أن يقرر كما ينبغي الأبعاد الحقيقية السياسية والقومية التي يمكن أن يؤدي إليها على المدى البعيد نجاح المؤامرة على فلسطين بإنشاء كيان مصطنع على أرضاها”. ولكنها رغم هذا الاعتراف لا تزال ترى في “دولة إسرائيل” أمرا واقعا لا يمكن تغافله، وإن كانت تنادي بإسقاط الصفة الصهيونية عن هذه الدولة من خلال دعم الطبقة العاملة في نضالها الطبقي الأممي…. وفي هذا يقول الأمين العام للحزب الشيوعي السوري خالد بكداش: “إن (إسرائيل) هي واقع موضوعي لا يمكن ولا يجب نفيه،
1ـ كتاب قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري
هذا هو الموقف النهائي، إن هذا لا يمكن أن يلغي أن (إسرائيل) أوجدت كقاعدة عدوانية للإمبريالية، وأنه يجب على الطبقة العاملة الإسرائيلية قيادة النضال ضد البرجوازية التابعة للإمبريالية وإقامة المجتمع الاشتراكي بالتحالف مع الطبقة العاملة العربية… إن القضية الفلسطينية تحل بقيام أنظمة شعبية طبقية، في “إسرائيل” والدول العربية المجاورة، إن النضال الطبقي في ” إسرائيل لإلغاء الصهيونية ومنع الصهيونية من التوسع على حساب الأراضي العربية، وإزالة آثار العدوان سلما أو حربا…. وتشكيل دولة فلسطينية في الضفة والقطاع هي المطالب الرسمية للحزب الشيوعي السوري..”
ومن هذا الاعتبار فإن الشيوعيين لا يزالون يرفضون مقولة أن الصراع مع العدو الصهيوني هو “صراع وجود لا صراع حدود”، وهم يؤيدون مبادرة سلمية دولية عادلة لحل هذا الصراع.
ولكن هناك العديد من الفصائل الشيوعية المنشقة تجاوزت هذا الطرح وتجاوزت الموقف الشيوعي الرسمي وأعلنت انضمامها الى القوى المطالبة بإنهاء الوجود الصهيوني وتحرير كامل التراب الفلسطيني.
ثانيا: الموقف من القومية العربية والوحدة العربية
وقفت الأحزاب الشيوعية العربية ضد قضية الوحدة العربية بصلابة ودون تردد، فقد اعتبر الشيوعيون أن الدعوة القومية هي دعوة برجوازية، تجب محاربتها، كما رفضوا مقولة أن “العرب أمة واحدة”، فقد رأوا أن عوامل تشكل القوميات لم تتوفر في الأمة العربية، وقالوا عنها إنها لا تمتلك وحدة المصالح الاقتصادية التي تعتبر العامل ألأهم بين عوامل تشكل الأمم حسب النظرية اللينينية ـ الستالينية للقومية.
وترجموا هذه الرؤية النظرية إلى مواقف عملية، فقد عارض الشيوعيون السوريون واللبنانيون الوحدة “السورية ـ المصرية”، عام 1958، ودعوا إلى محاربتها، واستطاعوا أن يجروا بقية الأحزاب الشيوعية إلى موقفهم، وعمل الشيوعيون على منع العراق من الانضمام إلى هذه الوحدة بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958، كما أعلنوا تأييدهم للانفصال، عقب انقلاب 28 أيلول / سبتمبر في سوريا، رغم أن قيادة الانفصال قيادة رجعية ذات توجهات “رأسمالية ـ إقطاعية”، بينما كانت دولة الوحدة ذات نهج اشتراكي، ودعموا التوجهات الإقليمية في كافة الأقاليم العربية… لكن هذا الموقف بدأ يتعرض لبعض التعديلات في مرحلة متأخرة … في مرحلة الانحسار القومي. وبدأت أحزابهم تنتقد تلك المواقف.
ففي عملية نقد ذاتي يقول الشيوعيون اللبنانيون: “لقد سيطرت نظريات ستالين حول المسألة القومية على الماركسيين العرب، واعتبرت المسألة برجوازية، والنضال القومي هو نضال بين الطبقات البرجوازية، وأن المشاحنات القومية تحول أنظار البروليتاريا عن مشاكلها، وكان واجب الشيوعيين تبديد الضباب القومي”. كما وصفت ذات الوثيقة هذه المواقف بكونها:” مواقف انفعالية لا تملك أساسا واقعيا، من هذا الموقع أيد الشيوعيون الانفصال، وكان في أساس موقفهم هذا التفكير القديم كحركة التحرر الوطني، فلم يستطيعوا أن يروا الملامح الحثيثة للطابع الجديد الذي اتخذته حركة التحرر الوطني المعاصرة، في ظروف تصفية نظام الحكم (الكولونيالي) في مرحلة انتقال البشرية من الرأسمالية إلى الاشتراكية” “1”.
كما قام الشيوعيون السوريون بنقد مماثل كان أعمق اثرا، فقد انقسم الحزب الشيوعي السوري حول هذه المسألة ـ ومسائل أخرى ـ إذ بينما اقتصر نقد جناح خالد بكداش على بعض المواقف العملية، واستمر في إصراره على مواقفه النظرية حيث يقول: “يرى الحزب الشيوعي السوري أن العرب على طريق تكوين الأمة، حيث التشكيلة العربية تملك وحدة اللغة والتاريخ والأرض، ولكنها لا تملك المصالح الاقتصادية الركن الأهم بين عوامل التشكيل القومي… إن النضال من أجل الوحدة القومية ليس من مهام الشيوعيين، وإنما من مهام الحركة البرجوازية”، “2” فإن الجناح الأخر عمق نقده، وتبنى القضية القومية، حيث جاء في برنامجه السياسي: “إن وحدة اللغة والتاريخ والأرض والتكوين النفسي المشترك، يجد تعبيرا له في الثقافة المشتركة، وتوفر إمكانات التكامل الاقتصادي… كل ذلك يجعل من العرب أمة واحدة تناضل من أجل كيان مستقل موحد، ومن أجل تصفية الاستعمار والصهيونية والرجعية، إن التقدم الاجتماعي في دولة عربية كبيرة، وديموقراطية شعبية معادية للاستعمار والرجعية، يجري بلا شك بصورة أكبر وأسرع وأعمق وأشمل منه في دويلات وكيانات صغيرة، ولهذا السبب فإن النضال من أجل الاشتراكية، ومن أجل الوحدة لا بد أن يسير جنبا إلى جنب”. وتراوحت مواقف الأحزاب والفصائل الشيوعية العربية بين هذين التيارين، كما ولدت فصائل ماركسية جديدة تجمع بين الماركسية والقومية في علاقة جدلية أطلق عليها اسم تيار الماركسيين العرب.
قضايا أخرى:
وهناك العديد من المسائل التي وقف فيها الشيوعيون موقفا مختلفا عن رأي الكتلة الشعبية الأساسية في الوطن العربي:
1ـ نضال الحزب الشيوعي من خلال وثائقه مرجع سابق ص 206
2 ـ من كلمة خالد بكداش في المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري ـ وثائق المؤتمر
** منها الموقف من سلخ لواء الاسكندرونة في سوريا عام 1939، حيث كان مواقفهم مترددة، وغير صلبة.
** ومنها الموقف من ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941 حيث وقفوا معها في البداية باعتبارها حركة ضد الإنكليز، لكن سرعان ما تغير موقفهم، وأعلنوا استنكارهم للحركة باعتبارها حركة ” نازية”.
** ووقوفهم إلى جانب التيار الانفصالي اللاقومي في السودان في صدامه مع القوى الاشتراكية القومية في مرحلة بداية السبعينات.
** ومنها موقفهم من النظام ومن الثورة الأريتيرية، حينما تحول موقفهم إلى معاداة هذه الثورة الهادفة إلى تقرير المصير وذلك بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة في اثيوبيا.
** وموقفهم من انفصال الصحراء الغربية عن المغرب حيث أيدوا انفصال الصحراء بحجة قيام نظام تقدمي فيها.
** ومنها تأييدهم نظام السادات بعد انقلاب 15 مايو / أيار 1971، ضد المجموعة الناصرية.
لكن مقابل هذه المواقف ناضل الشيوعيون بصلابة ضد سياسة الأحلاف في مرحلة الخمسينات، كما أيدوا سياسة الحياد الإيجابي التي انتهجتها بعض الدول القوى العربية، وساندوا صمود الثورة العربية في مواجهة الغزو الصهيوني، ودعوا إلى إقامة تحالفات وطنية في مواجهة الاستعمار والرجعية، وساعدوا الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، ونادوا بدعم حركات التحرر الوطني الصديقة، ويشارك الشيوعيون اللبنانيون في المقاومة اللبنانية للعدو الصهيوني بعد غزوه الأخير للبنان.