صالح عوض
صحيفة رأي اليوم
تبدو لي عملية اغتصاب الإسلام كما أي دين أو فكرة أخطر بكثير من أي اغتصاب يحصل على وجه الأرض لما يترتب عليه من مفاسد ومظالم وضياع الرسالة وغياب الأمل.. وذلك لسبب موضوعي أن الإسلام هو الأعمق في وجدان الشعوب ومشاعر الأفراد، والمرجع العميق لمنظومة القيم والمفاهيم الشخصية والمجتمعية.. لذلك فإن عملية اغتصابه تشل الفرد والمجتمع وتوجه الى انهيار الشعب والأمة، بل قد تحولها الى نقيض المهمة الحقيقية، ومن هنا تبدو لي عملية تحرير الإسلام من مغتصبيه مهمة كبيرة وثقيلة لعلها أكبر وأخطر من كل عمليات التحرير التي خاضها البشر.. وسيظل هذا الموضوع ماثلا -شئنا أم أبينا- أمامنا في أي مستوى كان عملنا وسنضطر الى الاصطدام أو الخنوع أو البحث أو التأقلم مع ما يقدم لنا من إسلام وهنا نتوزع على ملحد ومؤمن ومتبع ومساير و منافق.. وتصبح عملية الاقتراب من مفاهيم ما لاستكشافها أو تدبرها عملية محفوفة بالمخاطر كأنها حزمة متفجرات أو حقول ألغام يكفي أن لا يتفهمها بعض الدهماء حتى ترتد تكفيرا وتفسيقا و كأن الدين مجموعة تمتمات وطلاسم يمنع الاقتراب من تفكيكها..
وقفة منهجية:
هنا لابد ان نتفق على أن الأديان والأفكار الانسانية جاءت من اجل سعادة الانسان وجعلت مقصدها الرحمة بالبشر روحيا وماديا ولقد نصت صريح آيات القرآن الكريم على هذا المقصد، قال تعالى: “وما أرسلناك الا رحمة للعالمين” والايات متعددة في هذا المعنى أما سلوك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكان تجسيدا للنصوص القرآنية في الرأفة بالحيوان والشجر والبشر وهكذا كان اخوانه الأنبياء من قبل سيرتهم فيها معالم بارزة لمنهج الرحمة، وعلى هذا فان أي دين يتم تقديمه لنا خاليا من الرحمة انما هو من صناعة أمزجة بشرية منحرفة.. ولقد بلغت الرحمة في الإسلام الى ان جعل كل امر تنعقد فيه مصلحة العباد انما هو شرع من الله سبحانه وتعالى..
والنقطة الأخرى التي ينبغي التوقف عندها مليا لجعلها مبدأ ثابتا هي امر القراءة.. القراءة والوعي والفهم فلقد بدأ الإسلام بكلمة اقرأ وجاءت “اقرا” في أول آية تنزل من القرآن في حالتين الأولى: أن اقرأ غير هيّاب من أحد بل مستندا إلى القوة الأعظم الخالقة لكل شيء والقراءة الأخرى: إن اقرأ في هذا الملكوت والفلك والعوالم وبهذا فأنت حر متحرر ملتزما فقط بالعلم والعقل وان تصل الى أي مدى فذلك درب الصالحين من العباد فإن أصابوا فأجران وان اخطأوا فأجر.
واقع الإسلام:
كما كل شيء جميل ومهم في هوية الأمة وشخصيتها أصابه التشويه والانحراف والنقصان في وجدان الامة من خلال عمل منظم منهجي اشترك فيه المستشرقون والمنهزمون والمترفون وأصحاب المصالح الباطلة تمت عملية متكاملة لإقصاء الإسلام الذي وحد العرب ونهض بهم وصنع بهم أعظم حضارة بشرية.. وأصبح الإسلام مصفوفا في خزانات المستغلين يستحضر وقت الغرض وأسوأ ما مر بنا هو ان يصبح الإسلام بيد الامبريالية الامريكية تخوض به حروبها ضد الكتلة الاشتراكية كما حصل في أفغانستان حيث تم لي معاني القران والإسلام و فاندفع الاف الشباب العرب يدفعون دمهم في حرب الشياطين.. والامر تكرر مرات ومرات عديدة في سورية والعراق والجزائر وليبيا وسواهم.. حيث أصبح دين الرحمة ومنهاج السلام والعفو والعمران أداة فتاكة للتدمير والتخريب والتقتيل..
ان هناك صور عديدة من صور اغتصاب الإسلام وفي مثل هذه الحالة يكون العنف والتطرف والبشاعة و القسوة والشقوة نتاج هذه الصور التي نعاني منها اليوم اكثر مما نعاني من أعداء الامة الخارجيين.. فالطائفية والحزبية التي تخض المشرق العربي والإسلامي بعنف حيث قد تمكنت الطائفية والحزبية من تمزيق اهاب الإسلام وطمس روحه بالنسبة لاتباع الطوائف والأحزاب فاصبحوا يقتلون باسم الإسلام ويرتكبون كل المجازر والعنف والجرائم باسم الإسلام..
من هنا لابد من التفكير في هذه المسألة على اعتبارات عديدة فليس هناك احد في منأى من ارتدادات تحريف الإسلام واغتصابه، فالواجب الوطني والقومي والنضالي يحتم الدفاع عن الإسلام وتحريره من المغتصبين، وهنا ننطلق من اللحظة الأولى لتحديد مقاصد الإسلام ومنهجيته في التعامل مع الانسان والكون والحياة.. وهذا يكشف زيف الطوائف والأحزاب ويجلي المعاني الحقيقية للإسلام رحمة للعالمين وتعايش سلمي وامن في الاسرة البشرية يقوم على العهود بحق الاعتقاد والاختلاف والحريات العامة والتعاون والتساند والتصدي للظلم.. حينذاك يصبح الإسلام قوة تحريك للوجدان والضمير الفردي والجمعي نحو بناء العمران وحماية الانسان والفعل الإيجابي في الحياة البشرية وعنصر أساس في الحفاظ على السلم الدولي كما يمثل الحبل المتين لوحدة الامة والشعب وإرساء علاقات إنسانية نافعة بين بني البشر.. انه حينذاك يكون قوة خير وسلام وحق.
نظرة أولية للاسلام:
فرضت الرسالة الصلاة والزكاة على أتباعها، أمرتهم كذلك بتدبر التاريخ والسير في الارض لاستكشاف حقائقه وكيف انتصرت أقوام وانهزمت اخرى وفي ذلك بحث عن السنن والنواميس واخذ العبرة ولم يكتف الامر بالقانون بل اتجهت الرسالة باتباعها الى قراءة السير والاحداث الكبرى في المسيرة الانسانية لاسيما قصص سادة البشرية من انبياء ورسل ومواجهتهم لقوى الباطل كما شرحت لنا الظواهر التاريخية الملتبسة والمعقدة فأشارت الى خطورة الحاكم الطاغية ورمزت له بفرعون و طبيعة المجتمع الفاسد الملتوي فطرحت قضية بني اسرائيل مع موسى وقضية قوم لوط مع سيدنا لوط حتى غدت آيات السير والقصص أكثر من ثلثي القرآن الكريم، بإشارة لا تخفى دلالتها ان آيات التفكر والتدبر في التاريخ اكثر واوسع من آيات العبادة في الصلاة والصيام والحج.
وكذلك فتحت هذه الرسالة اعين اتباعها وربطت مشاعرهم بما يجري في زمانهم من صراعات اقليمية ودولية وقياس خطواتهم على ضوئها وشرحت لهم الاشارات الواضحة في تقدم أقوام وهزيمة أقوام بل وحددت لهم سنوات ذلك كما حصل في قصة حرب الروم والفرس، وجعلت ذلك قرآنا يتلى ويتعبد به.
هناك أيضا اشارة بالغة الاهمية لمنهجية الرسالة فهي بسطت القوانين والسنن في عملية استشراف للمستقبل ووضع الخطة الاستراتيجية لمواجهة المستجد من التحديات فاشارت الى صراعات الامة الحادة مع خصومها عندما يتحالف الاستعمار والصهيونية ويتبعهم تبع من اراذل الامة وسقطها، وفي داخلها وضعت قوانين الانتصار التي تحمي مسيرة الامة وحذرت من عوامل الهدم والانهيار وحددتها، وعلى الصعيد الخارجي اشارت بجلاء الى معارك الامة الفاصلة مع العدو الخارجي فكانت سورة الاسراء والمائدة والحشر تخصيصا للاستشراف.
ادراك التاريخ واستخلاص عبره فرض على اتابع الرسالة، و رؤية الواقع كما هو و مآلاته انما هو آية من آيات الله، كما ان الاستشراف وعلمه وعد ويقين ومعجزة تزود المؤمنين بالرسالة يقينا وثقة وتفاؤلا.. وكل هذا آيات تتلى وهي باب من باب العبادة والتدبر المأمور بها.
ومن هنا بالضبط نفهم قوله سبحانه: ” ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكى”.. ومن هنا نفهم اشارته لبني اسرائيل بأنهم كالحمار يحمل أسفارا.. او اشارته لمن لا يعي الرسالة بأنه كالأنعام بل اضل سبيلا!
أي رسالة هذه بهذا الحجم “التاريخ والكون والمستقبل” اختصروها واختزلوها الى بضع آيات وحركات وتمتمات؟ ليتحقق الفراغ المذهل في مهمة الإسلام فيملاه الحاقدون والاشرار بأفكارهم السقيمة فيصبح ظاهر الإسلام مغطيا لكل جرائمهم.
أي رسالة هذه يتم تحجيمها الى مستوى طقوس تخرج الرسالة عن دورها ووظيفتها..؟ فيركب الإمبرياليون على ظهر الإسلام ليدخلوا به حرب التطاحن ضد استقرار الدول وامن الشعوب وسلامة الوجدان.
الاسلام اكبر يا سادة مما كنا نعرف واوسع واشمل فيه انباء ما قبلنا وحال ما حولنا وخبر مستقبلنا وهذا ليس من فضل القول ولا زيادة المعرفة بل هو الدين الذي يرفع الانسان الى مستوى الوظيفة الربانية على الأرض.. هكذا نحرر الإسلام من الاغتصاب وهكذا يحررنا من التيه والهامشية والتفرقة والتخلف.