موقع “درج”
مناهل السهوي – كاتبة وصحفية سورية
06 ، 03 ، 2024
في غزة، وُضعت المساعدات الجوية في كراتين صغيرة حتى تصل إلى عدد أكبر من السكان، لكن ذلك لا يلغي الطريقة الاستعراضية للطرود المتساقطة من السماء وللناس الذين يركضون خلفها، الذين يعود معظمهم خاوي اليدين.
ينتظر الناس الطعام المتساقط من السماء، تنظر العيون نحو الأعلى بينما ترمي الطائرات طروداً تحملها مظلات ضخمة، تراقب مسار المظلات وتجري خلفها. يغوص الأطفال في مياه البحر ويلوّحون للصيادين القادمين مع طرود الطعام… قد يبدو المشهد توثيقاً للحظة إنسانية مؤثرة وعميقة، يجد فيها الجياع الطعام القادم من دولة مثل أميركا، لكن الحقيقة أكثر قتامة، فالمشهد المتواري خلف طعام المظلات يحوي الكثير ليُروى. فلماذا الإنزال الذي يحصل في غزة لا إنساني واستعراضي؟
انضمت واشنطن في 2 آذار/ مارس الماضي، إلى عمليات إسقاط المساعدات الجوي على سكان غزة، والتي نفذتها سابقاً دول عربية مثل الأردن ومصر والإمارات، وكذلك فعلت فرنسا.
جانتي سويريبتو، رئيسة منظمة إنقاذ الطفولة، وصفت عمليات الإنزال الجوي في غزة بأنها “مسرحية”، وحذّرت من أنها تغذي الفوضى على الأرض، وقالت إنه عُثر على مورفين مخصص للمستشفيات في أماكن بعيدة منها.
لمَ استبعاد المنظّمات الإنسانيّة؟!
استبعاد المنظمات الإنسانية من عمليات الإنزال الأخيرة في غزة، يحرم الناس من توزيع المساعدات بالتساوي، بالإضافة إلى أن الناس ليسوا مدرّبين على استقبال مساعدات قادمة من الجو (لا أحد بشكل عام مدرّب على هذا النوع من “المساعدة”)، ما يجعل عملية الحصول على الغذاء مصبوغة بالذل ومخاطر التدافع والسباق نحو طرد من المساعدات.
يبدو أيضاً، أن هذا الاستبعاد مقصود، إذ تحاول أميركا خلق صورة من الإنسانية المزيّفة بعد تورّطها غير المشروط في تمويل إسرائيل بالأسلحة والدعم الدولي، فكيف بإمكان دولة أرسلت أكثر من 10 آلاف طن من الأسلحة الى إسرائيل لتقصف الفلسطينيين بها، أن تعود وترسل أغذية لأهل غزة؟
جاء قرار عمليات الإنزال الجوي الأميركي بعد يوم من مجزرة “الخبز”، حيث قُتل أكثر من 100 فلسطيني بنيران إسرائيلية بينما كانوا يحاولون الحصول على الطعام من شاحنات المساعدات. أثارت الكارثة إدانات حادة من أطراف عدة، بمن فيها حلفاء إسرائيل، ودعت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا إلى إجراء تحقيق.
وجود منظمات إنسانية للعمل على توزيع المساعدات ضروري، كما لا يجب أن تتولى جهات عسكرية المهمة. فعلى سبيل المثال، حصلت واحدة من أكبر عمليات الإنزال التي قام بها برنامج الأغذية العالمي، في مدينة دير الزور السورية، بعد حصار تنظيم الدولة (داعش) والجماعات المسلّحة لها لأكثر من عام.
كان التحدي الحقيقي حينها الوضع الأمني المتقلّب والخطير، وفي النهاية تمكّن البرنامج من التنسيق مع متطوعين على الأرض. ولتجنّب أي مخاطر تتعلق بسلامة الطائرات أو المتطوعين، غيّر المسؤولون على مدار 15 شهراً، مواقع الإنزال الجوي أربع مرات بسبب الهجمات الوشيكة أو الفعلية.
أجرى برنامج الأغذية العالمي 309 عمليات إسقاط جوي على مدينة دير الزور بأكثر من 6500 طن متري من السلع الإنسانية. من هنا، تظهر الأهمية القصوى لوجود منظمات تنسّق عمليات الإنزال وتتولى توزيعها على الأرض. وليس استبعاد أميركا منظمات وسيطة أو الاستعانة بالمتطوعين على الأرض، سوى إمعان في إذلال السكان وتركهم في أوضاع لا إنسانية.
جانتي سويريبتو، رئيسة منظمة إنقاذ الطفولة، وصفت عمليات الإنزال الجوي في غزة بأنها “مسرحية”، وحذّرت من أنها تغذي الفوضى على الأرض، وقالت إنه عُثر على مورفين مخصص للمستشفيات في أماكن بعيدة منها.
لماذا الإنزال استعراضيّ؟
اللجوء الى الإنزال الجوي يجب عادة أن يكون الحلّ الأخير، لسببين أولهما، أنه الوسيلة الأكثر كلفة لتوصيل المساعدات، وثانياً الكميات الصغيرة نسبياً التي يمكن تسليمها في كل رحلة بدلاً من قافلة الشاحنات. ولا يلجأ برنامج الأغذية العالمي الى هذا الخيار إلا إذا فقد كل الطرق الممكنة، وهو ما حدث في المناطق النائية في جنوب السودان عام 1985، حين ضربت المجاعة الناس، ولم تتوافر أي طرق من المطار إلى القرى النائية لإيصال المساعدات، فلجأت المنظمة إلى الإنزالات الجوية.
في غزة، الإنزال الجوي ليس الخيار الأخير، إذ إن قوافل المساعدات تنتظر عند معبر رفح بين الحدود الفلسطينية -المصرية، لكن تعنّت إسرائيل يمنع دخولها وتوزيعها. وبالطبع، هذا ليس غائباً عن أميركا والدول العربية التي قامت بعمليات الإنزال، والتي تعلم أن الضغط على إسرائيل لفتح المعبر هو أكثر فاعلية من رمي الطعام بطريقة استعراضية.
من جهة أخرى، تحتاج عمليات الإنزال سلسلة طويلة من التحضيرات، كما يحتاج العاملون إلى مهارات، إذ يجب على الطيارين المدربين تدريباً خاصاً معايرة الارتفاع الذي سيسمح للحاويات، التي يحتوي كل منها على مظلة خاصة بها لتخفيف الهبوط، بالوصول إلى الأرض سليمة من دون أن تتلف، بالإضافة إلى الحرص على عدم الهبوط بطريقة خاطئة وإصابة المتطوعين أو المسؤولين الذين ينتظرون في الأسفل لبدء المهمة. لهذا، يبدو رمي المساعدات في البحر في غزة أكثر أماناً للحفاظ على ما تحتويه من جهة، ولحماية السكان المتجمهرين بانتظار الطعام من جهة أخرى.
الإنزالات الجوية ليست الطريقة المثلى لإيصال الطعام إلى الجياع، فتكلفة إسقاط الغذاء من الجو باهظة للغاية، إذ تبلغ نحو 1000 دولار لكل طنّ من الطعام، بينما كلفة نقل الطعام بالشاحنات أقل بنسبة تصل إلى 80 بالمائة.
في العادة، تلوّن جهات إسقاط المساعدات الطرود بألوان تشير إلى ما في داخلها، فعلى سبيل المثال يشير الأحمر الى حليب الأطفال، والأخضر الى مستلزمات الدورة الشهرية، لكن ذلك لا يحصل في غزة ولا يوجد أصلاً متدربون للتفريق بين الألوان إن وجدت. لذلك، يفاجأ رجل بحصوله على كرتونة فوط صحية أو عجوز بتلقّيها طرد حليب أطفال، وهو ما يثير نوعاً من السخرية بين السكان الجائعين.
النساء الأقلّ حظاً
قد تساهم الإنزالات الجوية في عرقلة الحلول المستدامة أو حتى السياسية، على سبيل المثال، إذ أشار عدد من المتخصصين إلى أن استخدام الطائرات العسكرية لتوصيل الغذاء في السودان في عام 1985، كان آخر القرارات بشأن الطرق البديلة وحجب حقيقة عدم وجود نظام توصيل مباشر من المطارات إلى سكان الريف في البلاد.
في الحالة الفلسطينية، قد يخفف إنزال المساعدات من الغضب الشعبي في الدول المشاركة بالإنزال، وقد يوهم العالم بأن الناس في غزة يحصلون على المساعدات الضرورية. لكن الواقع هو العكس، إذ أسقطت أميركا 38 ألف وجبة بينما يقبع أكثر من مليوني فلسطيني تحت وطأة الجوع، وإذا اقتسموا الطعام قد يحصل واحدهم على لقمة فقط!
في غزة، وُضعت المساعدات الجوية في كراتين صغيرة حتى تصل إلى عدد أكبر من السكان، لكن ذلك لا يلغي الطريقة الاستعراضية للطرود المتساقطة من السماء وللناس الذين يركضون خلفها، الذين يعود معظمهم خاوي اليدين. مع التذكير بأن النساء هنّ الأقل حظاً في الحصول على المساعدات، فحسب هيئة الأمم المتحدة للمرأة، 87 بالمئة من النساء في غزة أفدن بأنهن يجدن صعوبة أكبر في الحصول على الغذاء مقارنة بالرجال، ويلجأ بعضهن إلى البحث تحت الأنقاض أو في صناديق القمامة. وفي حالة الإنزالات الجوية، ستكون فرص النساء أقل في الحصول على الطعام، لعدم قدرتهن بدنياً على التدافع أو الجري.
لا يمكن سوى التذكير بأن نصف مليون شخص في قطاع غزة على أبواب مجاعة، حسب وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، مارتن غريفيث، الذي أضاف قائلاً إن نصف مليون غزّي “يفتقرون إلى أبسط الحاجات الأساسية، من غذاء وماء ورعاية صحية”.