بكر صدقي – القدس العربي
22 – فبراير – 2023
انتشرت على وسائل الإعلام التركية صورة لمتجر أدوات منزلية امتلأت رفوفه بالأواني الزجاجية من أطباق وكؤوس وغيرها. الخبر المذهل هو أن المتجر موجود في مدينة مرعش التي كانت من المدن الأكثر تضرراً في الزلزال المزدوج الذي وقع في بلدتين قريبتين، بازرجك وألبستان، صباح السادس من شهر شباط/فبراير الجاري.
وتشير التقديرات إلى دمار نحو ثلث العمران فيها. فالبناء الذي يقوم المتجر في طابقه الأرضي لم يصب بأي ضرر، في حين انهار المبنى المجاور له ومبان أخرى في جواره القريب، بل إنه لم تقع على الأرض وتتكسر قطعة خزف واحدة! رداً على سؤال أحد الإعلاميين له عن سر صمود بنائه، صرح صاحب المتجر والبناء أنه لم يفعل شيئاً سوى التقيد بالمعايير المطلوبة في البناء.
فمنذ الزلزال الكبير الذي ضرب قسماً من مدينة إسطنبول في العام 1999، فرضت الحكومة معايير صارمة للبناء تجنباً لوقوع كارثة جديدة. لكن شركات البناء والمقاولين قلما يتقيدون بتلك المعايير تفادياً لتكاليفها الباهظة، وتتجه أصابع الاتهام نحوهم ونحو السلطات العامة التي منحتهم تراخيص البناء. بل أكثر من ذلك تصدر الحكومة كل بضع سنوات عفواً عن مخالفات البناء فتمنح التراخيص للأبنية المخالفة.
وتشمل الأخطاء نوعية الأرض ومواد البناء التي لا تستجيب لشروط مقاومة الزلازل في بلد قائم على خريطة زلزالية خطرة ويحفل تاريخه الحديث بالزلازل المدمرة. كذلك تتهم الحكومة بأنها صمت آذانها عن تحذيرات خبراء الزلازل الذين حذروا من وقوع الزلزال وآثاره التدميرية المتوقعة. أضف إلى ذلك أن الحكومة تجبي من جميع المواطنين ضريبة خاصة بالزلازل، من المفترض أن ينفق قسم من حصائلها على تقوية الأبنية القائمة لتصبح مقاومة للزلازل.
ثمة تعبير شائع في الرأي العام التركي يعبر عن هذه المشكلة: «الزلازل لا تقتل، البناء غير السليم هو الذي يقتل». ولم يقتصر ما دمره الزلزال على أبنية سكنية رخيصة لا تتوفر فيها شروط الأمان، بل ثمة مرافق عامة كحال مدرج مطار أنطاكية ومستشفيات ومدارس وغيرها، من المفترض أنها خاضعة لشروط صارمة ورقابة أثناء التنفيذ.
وقامت الشرطة باعتقال عدد من المقاولين ممن بنوا أبنية انهارت أثناء الزلزالين، بغاية امتصاص الغضب الشعبي. لكن هذا الغضب لم يقتصر على هذا الجانب، بل شمل أيضاً ارتباك السلطات العامة أمام الكارثة وبطئها في الاستجابة لمتطلبات مواجهتها من حيث عمليات البحث عن أحياء تحت الأنقاض وإنقاذهم، ومساعدة الناجين على الابتعاد عن مناطق الخطر وتأمين مستلزمات الحياة بالحد الأدنى من إيواء مؤقت ومعالجة الجرحى والطعام والشراب وغير ذلك.
عبرت وسائل إعلام عن استغرابها لعدم الاستعانة بالجيش وهو القوة البشرية الأكثر تنظيماً وعدداً ويملك وسائل للتحرك السريع
عبرت وسائل إعلام عن استغرابها لعدم الاستعانة بالجيش، وهو القوة البشرية الأكثر تنظيماً وعدداً ويملك وسائل للتحرك السريع كالطائرات المروحية وحاملات الدبابات التي يمكن استخدامها لنقل آليات رفع الأنقاض. علماً بأن الوالي في كل ولاية (محافظة) له صلاحية الاستعانة بالجيش في حالات الكوارث الطبيعية، من غير الحاجة للرجوع إلى قيادة الجيش أو الحكومة. كذلك تأخرت الاستعانة بعمال المناجم الذين لديهم خبرات في التعامل مع عمليات الإنقاذ من تحت الأنقاض. هناك من عزوا غياب المبادرة وتحمل المسؤولية بالنظام الرئاسي الذي جمع كل السلطة في يد رئيس الجمهورية، وبات جميع المسؤولين يخشون المبادرة على مسؤوليتهم، حتى لو سمح القانون لهم بذلك.
الغريب أنه تم إعلان حال الطوارئ في اليوم الرابع على الزلزال المزدوج، وقالت الحكومة في تسويغ ذلك إنه لمنع عمليات السلب والنهب. يذكر أنه وقعت عدة حوادث تنكيل بأشخاص كانوا بقرب أبنية منهارة ينتظرون صدور صوت من أحبة لهم ما زالوا تحت الأنقاض، لمجرد الاشتباه بأنهم موجودون هناك للسطو على أغراض من البناء المنهار. وتعرض سوريون لاعتداءات مماثلة أو لحالات تمييز بفعل محرضين استغلوا المأساة لاستئناف ما كانوا يفعلون في الظروف العادية. ومن أغرب ما قيل بهذا الخصوص إن «السوريين سيحتلون البيوت التي سيغادرها أصحابها الأتراك إلى مدن أخرى، وأن ذلك سيؤدي إلى تغيير ديموغرافي في بعض الولايات المنكوبة وبخاصة ولاية «هاتاي» (لواء اسكندرون).
واجهت الحكومة الانتقادات الموجهة إلى أدائها بضيق صدر، فركز الإعلام الموالي على وصف الزلزال بأنه «أكبر كارثة طبيعية على مدى قرن» وتوعد بعض أركانها المنتقدين بالمحاسبة القضائية لاحقاً، كما تم التضييق على موقع تويتر ومواقع تواصل اجتماعي أخرى بذريعة مواجهة التضليل الإعلامي والأخبار الكاذبة. الأغرب من ذلك أن جهات موالية أطلقت حملات ضد منظمات مجتمع مدني وجمعيات مستقلة بادرت بجمع تبرعات وتقديم المساعدة للمنكوبين، خشية أن تظهر هذه المبادرات عجز الجهات الحكومية وضعف أدائها.
في المقابل لا بد من ذكر روح التضامن العالية التي سادت في المجتمع التركي بمختلف طبقاته وانحيازاته السياسية والإيديولوجية، في مواجهة الكارثة الإنسانية. استنفر الجميع، أفراداً ومجموعات ومنظمات مجتمع مدني ونقابات مهنية، الجميع يريد أن يفعل شيئاً للمساعدة على تخفيف المعاناة عن المتضررين.
كذلك استجابت نحو مئة دولة لنداء الحكومة التركية بتقديم مختلف أنواع المساعدات، وأهمها فرق إنقاذ محترفة، كأنما لإزالة أوهام بارانوئية شائعة تشكك في كل ما هو أجنبي، شعارها «ليس للتركي صديق غير التركي نفسه». برغم ذلك لم يخل الأمر من إطلاق البعض سيناريوهات عجيبة تتحدث عن مخطط غربي لاستغلال ظروف الزلزال للقيام باحتلال تركيا!
كاتب سوري