من كتابة سبق
السبت 08 / مارس / 2025
في عالم تتزايد فيه التهديدات الجيوسياسية، تُواجه بريطانيا معضلة وجودية تهدد أركان استراتيجيتها النووية منذ الحرب الباردة، هي الاعتماد المُطلق على الولايات المتحدة لإدامة ترسانتها النووية. فمع تصاعد التصريحات المناهضة لحلف الناتو من قِبل الرئيس دونالد ترامب، وفضائح اختبارات “ترايدنت” الفاشلة، تطفو على السطح تساؤلات محرجة : هل باتت لندن مُجبرة على البحث عن شركاء جدد؟ أم أن رهانها على واشنطن سيستمر على الرغم من التكلفة السياسية والعسكرية؟
أزمة ثقة
وأثارت تصريحات السير ديفيد مانينغ، السفير البريطاني السابق بواشنطن، عاصفة من التساؤلات حول مصير التعاون النووي عبر الأطلسي. فالاتفاقية الموقَّعة عام 1958 – والتي تتحكم أمريكا بموجبها في تصميم الصواريخ البريطانية وصيانتها – لم تعد تُناقش في أروقة لندن كـ”ضمانة استراتيجية”، بل كـ”قيد مُهدِّد للأمن القومي”.
والقلق الأكبر يتمحور حول إمكانية انسحاب ترامب المفاجئ من الناتو، أو تعليق توريد الصواريخ لبريطانيا، خصوصًا بعد فشلين مُحرجين لاختبارات إطلاق “ترايدنت” خلال عامين فقط، وفقًا لصحيفة “الجارديان” البريطانية.
تكاليف باهظة
والخيار الأوروبي البديل – على الرغم من جاذبيته السياسية – يحمل تحديات مادية هائلة. فاستبدال الغواصات النووية “فانغارد” المُتهالكة يتطلب استثمارات تُقدَّر بعشرات المليارات، فضلاً عن الوقت الطويل لبناء بنية تحتية نووية مستقلة.
والمُفارقة أن لندن – على الرغم من تصريحاتها عن “الردع النووي المستقل” – لا تملك سوى 50 صاروخًا من مخزون أمريكي قديم، وفقًا لدراسات جامعة برادفورد. هانز كريستنسن، الخبير في اتحاد العلماء الأمريكيين، يلخِّص الأمر: “البريطانيون يطلقون الصواريخ وحدهم، لكن كل ما تحته خط أحمر أمريكي”.
تعاون أوروبي
وهنا تبرز فرنسا كـ”ورقة رابحة” محتملة. فتصريحات إيمانويل ماكرون الأخيرة عن توسيع المظلة النووية الفرنسية لتشمل أوروبا، إلى جانب إشارات ألمانية لتمويل مشروعات نووية مشتركة، تُشكل فرصة تاريخية للندن.
والسير مالكولم ريفكايند وزير الخارجية البريطاني الأسبق، يُحذِّر : “أوروبا قد تصبح عُرضة للابتزاز الروسي إذا تخلت أمريكا عنا”، لكن التعاون مع باريس ليس سهلاً : فالتكنولوجيا النووية الفرنسية محروسة بصرامة، وتطوير رؤوس حربية جديدة للطائرات – بدلاً من الغواصات – قد يستغرق عقدًا كاملاً.
مخاطر التردد
والحكومة البريطانية تحاول كسب الوقت، فتصريحات متحدث داونينغ ستريت عن “الثقة الكاملة في واشنطن” تتعارض مع تسريبات عن مباحثات سرية مع فرنسا. الدكتورة ماريون ميسمر من “تشاتام هاوس” تكشف : “لندن تخطط لسيناريو الانفصال عن أمريكا، لكنها تخشى إثارة غضب ترامب أو إغراء بوتين”.
وفي المقابل، يُشدد كالفين بيلي، عضو لجنة الدفاع البرلمانية، على أن تحالف “أوكوس” مع أمريكا وأستراليا يضمن استمرارية العلاقة، لكنه يعترف : “القارة العجوز يجب أن تُنقذ نفسها بنفسها قريبًا”.
السيناريو الأسوأ
والسيناريو الأسوأ – وفقًا لتحليلات مؤسسة “راند” يتمثل في انهيار التحالف الأطلسي خلال عهد ترامب الثاني، ما يُجبر بريطانيا على خيارين : إما إنفاق 40 % من ميزانيتها الدفاعية على برنامج نووي مستقل، وإما الاندماج الكامل مع المنظومة النووية الفرنسية.
واللافت أن برلين – لأول مرة – تُعبِّر عن استعدادها لتمويل جزء من التكاليف، فيما تُحذِّر موسكو من “عواقب أي تحالف نووي أوروبي موحَّد”، فهل ستنجح لندن في إعادة اختراع نفسها كقوة نووية أوروبية؟ أم أن عصرها الذهبي كـ”شريك أصغر” لأمريكا قد يُطوى إلى الأبد؟