د. محمد السعيد إدريس
كشفت أجواء المونديال العالمى لكرة القدم الذى أنهى أعماله مؤخراً فى قطر عن ثلاثة ظواهر شديدة الأهمية؛ الظاهرة الأولى أن مزاج الشعب العربى من المحيط إلى الخليج “مازال عروبياً” بامتياز. الظاهرة الثانية أن فلسطين مازالت مستحكمة بالضمير والعقل العربيين، وأن العالم على استعداد هو الآخر للاستجابة لهذا التوجه العربى بقدر قوة واستمرارية هذا التوجه العربى.
أما الظاهرة الثالثة فهى أن الثقافة العربية- الإسلامية بمقدورها أن تحظى بالاحترام والتقدير العالميين إن هى أجادت التعبير عن نفسها. وجاءت مخرجات ونتائج القمة العربية – الصينية التى عقدت بالمملكة العربية السعودية (9/12/2022) وما سبقها من قمتين أخرتين مع الصين، واحدة سعودية والأخرى خليجية (8-9/12/2022) لتضيف ظاهرة رابعة وهى أن الصين تقدم للعرب، وللمرة الأولى منذ سقوط النظام العالمى ثنائى القطبية، فرصة تاريخية للإنعتاق من التبعية المذلة للغرب وخاصة للولايات المتحدة، والنهوض كشريك فاعل فى منظومة التفاعلات العالمية.
هذه الظواهر تضعنا أمام حقيقة مهمة وهى أننا، كعرب، نعيش لحظة فارقة فى تاريخنا تقول أنه “لم يكن هناك زمن كانت فيه الحاجة ماسة إلى (العروبة) كما هى الآن”. هذه الحقيقة تؤكدها حزمة من التطورات العالمية والإقليمية تقول كلها أن هذا هو أوان التوجه نحو إطلاق مشروع وعى جديد فى منطقتنا يستند أولاً وأخيراً على تحديث واستنهاض دعوة “العروبة”.
أول هذه التطورات المحفزة للعرب كى ينخرطوا فى التأسيس لمشروع عروبى للنهضة هو ذلك الصعود الحضارى الآسيوى مقابل الانحدار والتهاوى الحضارى الغربى. صعود حضارى آسيوى مدعوم بنهوض قوى آسيوية كبرى اقتصادياً وعسكرياً خاصة الصين والهند واليابان. وانحدار حضارى غربى خاصة فى “منظومة القيم” الأخلاقية مصحوب بتهاوى وأفول المشروع الأمريكى المتحالف مع أوروبا. كل الإحصائيات والشواهد تؤكد أفول المشروع الأمريكى وجاءت الحرب الروسية فى أوكرانيا لتعلن التحدى الروسى أمام النظام الأحادى القطبية، ولتضع أوروبا، للمرة الأولى، فى صدام تاريخى مع الولايات المتحدة بسبب الأعباء المفروضة على أوروبا فى الحرب الأوكرانية.
هذا التطور يحمل إشارات للعرب تقول أن زمن المراهنة على “الحليف الأمريكى الأوحد” قد انتهى، وأن فى مقدور العرب، إن استطاعوا النهوض، أن يكونوا شريكاً فى نظام عالمى جديد آخذ فى التشكل. إلى جانب هذا التطور المحورى تجئ تطورات أخرى لا تقل أهمية مثل الكارثة البيئية ومثل الثورة التكنولوجية وخاصة ثورة الاتصالات لتؤكد أن العرب مجتمعين يمكنهم التفاعل بإيجابية مع هذا النوع من التحديات العالمية، وهى تحديات تفوق قدرة أى دولة عربية منفردة.
تكتمل هذه التطورات بما يحدث حالياً من حالة نهوض فى الأمم على مستوى العالم مقرونة بحالة غير مسبوقة من التكتل وتأسيس الكتل الاقتصادية – السياسية وسيطرة التوجه التكاملى والاندماجى. الملفت هنا أن العالم الإسلامي يشهد العديد من مشاريع النهوض لأمم إسلامية مثل إندونيسيا وماليزيا وإيران وتركيا وتبقى الأمة العربية حالة منفردة من الانفراط والتراجع الحضارى.
إذا كان مشروع النهوض العروبى هو “الخيار الحضارى- الاستراتيجى” الأوحد أمام العرب فعن أى عروبة نتحدث، وأى مشروع عروبى نريد؟
قد يعتقد البعض، عن خطأ فى الإدراك، أننا نتحدث عن التزامات مفقودة وغائبة عند نظم الحكم العربية. فالمشروع العروبى المستقبلى الذى نعنيه لكونه “مشروعاَ حضارياً، وهكذا يجب أن يكون، فإنه بالضرورة يجب أن يكون “مشروعاً شعبياً”، لأن العروبة التى نريدها “جديدة وتحديثية” هى القوة التاريخية الوحيدة القادرة على تمكين الأمة العربية، بكل مكوناتها، من ولوج فجوة التبعية والتخلف والانحطاط إلى الانعتاق نحو مستقبل حضارى تكون فيه الأمة قادرة على صنع التقدم وامتلاك أدواته، وأن تكون شريكاً فى صنع المستقبل العالمى كغيرها من الأمم التى انخرطت فى مشروعات النهوض.
ولكى تستطيع الأمة العربية ذلك عليها أن تبدأ أولاً بثلاث مصالحات تاريخية ؛ المصالحة الأولى مع الدولة الوطنية العربية التى تعرف عادة بـ “الدولة القطرية” ومع الهويات الوطنية فى الدول العربية. فالتناقض الغريب الذى سبق أن استحكم بالفكر القومى ، سواء فى عهده الرومانسى أو فى عهد الدول التى اعتنقت الهوية القومية العربية والفكر الوحدوى بين الدعوة إلى الوحدة العربية أو الاتحاد العربى وبين الدول الوطنية العربية أساء للدعوة الوحدوية بقدر ما أساء للدول الوطنية. فالدول الوطنية القوية والمتماسكة بهوياتها الوطنية ليست عقبة فى قيام الوحدة العربية، بقدر ما هى أهم مقوماتها. حقيقة ذلك تتأكد من الأخطار التى تتعرض لها دول عربية حالياً من دعوات لإعادة التقسيم على أسس طائفية أو دينية أو عرقية، ورفع شعارات لهويات فرعية وكيف أن هذه الدعوات بقدر ما هى خطر على استمرارية وبقاء الدول العربية والحفاظ على وحدتها بقدر ما هى خطر يهدد أمل تحقيق الوحدة العربية.
المصالحة الثانية مع الثقافة والحضارة الإسلامية، والعودة إلى التلاحم بين العروبة والإسلام، فالمشروع العربى من المستحيل أن ينجح وأن يحلق بجناح واحد، مستحيل أن تتحقق نجاحاته بالعروبة دون الإسلام إذا كنا نتحدث عن مشروع حضارى له هويته الحضارية، وهنا من الضرورى التمييز بين هذه الدعوة وبين العلاقة مع مشروعات ما يعرف بجماعات “الإسلام السياسى” التى لها مشروعها الذى ينكر بل يكفر المشروع القومى العربى. هذه المصالحة كانت الفكرة المحورية فى المؤلف المهم لأستاذنا الدكتور عصمت سيف الدولة المفكر القومى المرموق الذى حمل عنوان “العروبة والإسلام” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية فى بيروت. هذه المصالحة تعنى قطع أى علاقة بين الدعوة القومية العربية وبين ما لحق بها من اتهامات فى عهدها الرومانسى من عداء للدين، والتقاء مع العلمانية بمفهومها الشائع وغير الصحيح.
أما المصالحة الثالثة فهى مع العالم من منظور الوعى بحقائق التطورات العالمية وما يشهده العالم سواء على صعيد الثورات العالمية المتزامنة: ثورة العولمة والثورة التكنولوجية الرابعة وثورة الاتصالات ، أو على صعيد التنافس على هيكلية النظام العالمى من أجل إقامة نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب أكثر عدالة وديمقراطية ، عالم تلعب فيه الحضارات الشرقية أدواراً فاعلة، يجب أن يكون مشروعنا القومى جزءاً أساسياً منه وغير منعزل عن تفاعلاته ، بالشكل الذى يجعل هذا المشروع شريكاً فى تلك التفاعلات، وأن يعيد للحضارة العربية الإسلامية مكانتها التاريخية.
على ضوء هذه المصالحات الثلاث تتحدد معالم ما نريده من “عروبة جديدة تحديثية” على أساس من هوية قومية عربية متجددة. هذه العروبة يجب أن ترتكز على دعامتين أساسيتين ، أولاً ان تكون ديمقراطية متحررة من كل قيود التسلط والاستبداد، وأن تكون ثانياً دعوة شعبية بالشعب وللشعب وليست دعوة سلطوية أو حتى نخبوية، طالما أنها تستهدف التأسيس مجدداً لمشروع حضارى للنهضة .
يبقى السؤال الأهم وهو ما هى مقومات هذا المشروع الحضارى الذى نأمل تحقيقه من خلال الدعوة للعروبة الجديدة التحديثية؟ هذه هى قضيتنا المحورية .