كتب: احمد ابوخليل (مؤلف وكاتب) عالم الاجتماع الأردني
الشراع 29 تشرين الثاني 2024
صحفي وأنثروبولوجي أردني، مهتم بصحافة الفقر والتنمية ودراسات التاريخ الاجتماعي. عمل كاتب عمود يومي في صحيفة «العرب اليوم» لفترة 17 عامًا، وأصدر مجلة «المستور» …
(في الصورة) آلاف اللبنانيين يتوجهون إلى سورية
أطمح بقراءة رايقة وهادئة لما يلي:
غريب!
تصلنا مشاهد عودة اللبنانيين إلى قراهم في جنوب لبنان والضاحية. وأغلب تلك المشاهد تحمل صور ناس مندفعين ومحتفين يرفعون أعلام بلدهم وحزبهم، ومصرين على العودة حتى إلى ركام منازلهم، معتبرين أنهم منتصرون، وذلك بعد أن يقدموا تعريفهم لمعنى النصر الذي يقصدونه.
يحصل ذلك، فيما يصر آخرون عن بعد، وبعضهم بيننا هنا، على تخطيئ أولئك الناس ونكران مشاعرهم، ومطالبتهم بإبداء مشاعر الهزيمة والحزن والكآبة.
يتكرر الموقف تجاه الناس في غزة، وسوف يتكرر بشدة بمجرد انتهاء القتال.
يحتاج الأمر إلى قراءة نفسية لهم في الميدان، ولنا عن بعد أيضأ.
كل من الطرفين يرى نفسه يتصرف منطقيا: بالنسبة لنا، فإن من يفقد الأبناء والآباء والإخوة والأخوات والأحباء والأصدقاء قتلى وجرحى، أو يخسر بيته وكل مقومات حياته، فعليه بالضرورة ان يكون حزينا مهزوما، ومن غير الطبيعي أن يبدو مندفعا مبتهجا منتصرا.
إن عناصر بناء هذا الموقف واضحة: كان لديك ابن وأخ واخت وأب وام وفقدتهم، وكان لديك بيت وقد تدمر، وكانت لديك حياة منتظمة وقد تبعثرت، فمن الطبيعي أنك مهزوم.
غير أن الأمر بالنسبة لهم مختلف. لقد خاضوا تجربتهم الخاصة في الحياة عبر عقود طويلة عرفوا فيها معنى الخضوع للعدو، وكانت لديهم بيوت مستباحة، ومقومات حياة يحصلون عليها عبر ممرات الإهانة والذل، كانوا باختصار يعيشون وفق رغبات عدوهم وشروطه.
لكن القسم الأكبر منهم رآى واكتشف وعرف بعمق أن الحياة وفق هذه الشروط مرفوضة ولا معنى لها.
في لبنان بالذات ترافق ذلك مع ثقافة خاصة عميقة عند أهل الجنوب وأهل الضاحية ، وهي ثقافة ذات صلة بقضايا رفض الظلم والذل ومعاني التضحية والفداء… وغير ذلك. ولكنها تفاعلت مع الظروف اللنيانية والنموذج اللبناني وتركيبته الداخلية وسيرته التفصيلية.
بالمناسبة تحمل غزة وأهل غزة من سكانها الأصليين ومن اللاجئين إليها في مخيماتها، تجربة موازية وبمواصفات خاصة، لكنها تنتمي إلى السياق ذاته.
وهذا بالطبع، لا ينفرد به اللبنانيون والغزيون، بل يشتركون فيه مع الشعوب التي تمر بالتجارب ذاتها مثل الشعب السوري عبر مراحل الثورة السورية منذ عام 2011 ولا زال.
في مثل هذه الظروف، يختلف معنى ملكية المنزل والسيارة، ولا يعود الأبناء ممتلكات ولا الأسرة حيازة وحق تصرف.
هنا يقبل اللبناني والغزي العيش بكرامة على أنقاض منزل مدمر، ويفضل ذلك على حيازة قصر يعيش فيه مهانا. تصبح العلاقة مع الناس والأشياء من نوع جديد.
لقد رأيت بعيني عام 2006 في قرية عيتا الشعب أقصى الجنوب اللبناني، ذلك المواطن الستيني الذي وجدته مصرا على المبيت على أرضية بيت محطم بعد أن كنس الركام والتراب عن مساحة تكفي فقط لفرشة صغيرة، وعبثا حاول أبناءه ثنيه عن ذلك رغم انهم كانوا يتفهمونه ويقضون وقتهم معه فوق ركام مجاور.
لا أستطيع أن أنسى الختيارة التي كانت تمشي وحيدة في إحدى القرى هناك، ولما رآها سائق الباص تأسى لحالها لأن العدوان دمر غرفتها التي تعيش فيها وحيدة، ولما انحرف نحوها وقال لها: “بعوضك الله يا حجة”، لم تنظر نحوه طويلا، واكتفت بحركة بظاهر يدها وهي تقول: “فدا الشباب”، وواصلت مسيرها.
بل تعالوا نتأمل مشهدا أكثر عمقا رأيناه في غزة. تذكرون البيت الذي استشهد فيه القائد الكبير (السنوار). لقد أسرع مالك البيت إلى إعلان ابتهاجه بأن الأقدار شاءت أن يكون بيته هو خيار السنوار للحظة الأخيرة في حياته، رغم أن العدو دمر البيت كليا. إن هذا المواطن الغزي، لم يعط الأولوية لحزنه على بيته، بل حمد الله وفرح لأن حدث الشهادة كان من نصيب بيته.
يوجد كتاب للمحلل النفسي الشهير إريك فروم اسمه “الامتلاك والوجود”، وقد اشتغل الكاتب في ميدان التحليل النفسي للأفراد والجماعات أيضا.
ويصنف الكتاب الناس في نمطين رئيسيين: النمط الامتلاكي مقابل النمط الوجودي. وكل منهما يحمل لنفسه ولحياته فهما مختلفا.
انظروا الفرق بين ان ترتدي كنزة صوف حاكتها أيدي والدتك، أو بالمقابل أن ترتدي كنزة من أرقى وأفخم ماركات الملابس. في الحالة الأولى أنت وأمك في تجربة وجود خاصة، بينما في الثانية أنت تعيش حالة امتلاك.
أنظروا إلى عائلة لديها بضع عشرات من أشجار الزيتون ويتعب كل أفرادها كي يتذوقوا زيتهم الخاص، بينا يبتهج أخرون بأن بمقدورهم شراء أفخم الزيوت بزجاجات راقية بدل هذه العبوات التنكية الكبيرة المشكوك فيها. في الأولى علاقة وجود وفي الثانية امتلاك.
أخيرا..
لاحظوا المشهد المقابل عند العدو. ففي حين كان ألوف اللبنانيين يسرعون إلى بيوتهم المدمرة، كان مستوطنو شمال الكيان يرفضون تطمينات العودة ويشكون فيها ويشترطون أن تكون كل شروط الحياة متوفرة وبأمان.
إن اللبنانيين يعيشون تجربة وجود مع أرضهم، بينما يعيش الاسرائيليون علاقة تملك مع مستوطناتهم وبيوتهم.
في غزة، نرى وسنرى، ما يوازي وما قد يتفوق على ما نراه عند اللبنانيين.
الكلام يطول كثيرا، ولكنها أيام ينبغي فيها أن نعلن امتناننا لإخوتنا في لبنان وغزة. على الأقل أن نحترم حقهم بتشكيل المشاعر التي يختارونها.