محمود منير
العربي الجديد
16 سبتمبر 2024
إلياس خوري… خطوات في أرض صبرا وشاتيلا (لوران دينيمال)
في كتابه “النكبة المستمرّة” (دار الآداب، 2023)، يستذكر الروائي اللبناني إلياس خوري، الذي رحل أمس الأحد، مجزرة صبرا وشاتيلا؛ حيث ذهب إلى المخيّم في 16 أيلول/ سبتمبر 1983 لإحياء الذكرى السنوية الأُولى لضحايا المجزرة، حين اعتقد أنّه يرى مناماً لما شاهد نساء متّشحات بالسواد وهنّ يلوحّن بالأعلام الفلسطينية ويزغردن.
مشهدٌ أصابه بالدهشة والعجز عن الفهم، فأتاه جواب إحداهن: “انتصرنا”، ثم أضافت: “صار عندنا مقبرة لأولادنا، أخيراً انتصرنا”، وقادته النسوة إلى أرض فارغة وخالية من أيّ إشارة تدلّ على هويتها، وهي المقبرة الجماعية التي دُفن فيها 1500 ضحيّة في “صبرا وشاتيلا”. “الانتصار” مفردةٌ سينتظر المثقّف والكاتب؛ فلسطيني الروح والانتماء – كما كان يصف نفسه – تسعة أعوام حتى يفهم دلالاتها.
لم تكن رحلته إلى فلسطين مجازاً عابراً في نصٍّ سردي أو مقال، إنما كانت رحلة بحثية معرفية معمّقة خلّقت شخصياته المركّبة وأحداث معظم رواياته؛ بدءاً من “باب الشمس” (1998) وليس انتهاء بثلاثية “أولاد الغيتو: اسمي آدم” (2016)، و”نجمة البحر” (2019)، و”رجل يشبهني” (2023).
في العودة إلى الزغاريد والانتصار، اكتشف إلياس خوري خلال جمع حكايات النكبة لأكثر من سبع سنوات من أجل بناء “باب الشمس” الصدمة التي أحدثها غياب المقابر في حياة الذين عاشوا كارثة 1948، حيث “تُركت الجثث في أزقّة القرى أو في العراء، لأنّ الناس كانوا غير قادرين على دفن قتلاهم تحت رصاص قوّات الاحتلال وأوامرها الصارمة بضرورة المغادرة”.
آمن بالمشاركة في توثيق الاسم المغيَّب والأرض المصادرة
وأدرك أنّ هذه الصدمة التي تعود جذورها إلى 1948 ستستيقظ عام 1982، حين تُركت جثث مئات الضحايا لتتعفّن في أزقة مخيّمَي صبرا وشاتيلا قبل أن يقوم الصليب الأحمر بإلقائها في حفرة المقبرة الجماعية بعد رشّها بالكلس والمبيدات، ليخلص خوري إلى أنّ “النكبة الفلسطينية ليست ماضياً نتذكّره، وإنما هي الكلمة التي تُلخّص الحياة تحت الاحتلال وفي مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين في فلسطين والشتات العربي المجاور”.
كلمةٌ فهمها خوري، الذي وُلد في حيّ الأشرفية البيروتي والتحق بـ”مركز الأبحاث الفلسطيني” في الثالثة والعشرين من عمره، وهناك حظي برفقة أنيس صايغ الذي رسّخ لديه فكرةَ المثقّف المستقلّ الناقد غير الخاضع للسلطة، بل هو خادم للناس في تركيز على مناقبية أخلاقية ميّزت غالبية الذين عملوا في المركز، بعد أن فرّقتهم الدروب، وأنّ المعرفة شرط أساسي للتحرّر الوطني.
ربما كانت حدّة خوري أخفض من معلّمه صايغ في صدامه مع قيادات منظّمة التحرير الفلسطينية، لكنّه لن يتخلّى عن وعيه النقدي للمقاومة، ومحاولته الدؤوبة لمراجعة تجربتها، وظلّ محافظاً على قناعته بأنّ الثورة مشروع وطني يحتمل التأويل والاجتهاد، رافضاً أيّة ذريعة لقمع المختلفين بالرأي والموقف مع قيادتها، ولم يغفل في الوقت نفسه عن تشريح ما واجهته من حصار ومحاولات ابتلاع الأنظمة العربية لها.
في كتاب “النكبة مستمرّة”، يرى خوري أنّ “الفشل العربي في احتواء النكبة ومحاصرتِها كان العلامة الأُولى على أنّ النهضة العربية كانت مهدّدة بالتحوّل إلى عصر انحطاط جديد، وقد قام الاستبداد بتعميم هذا الانحطاط الذي حطّم المراكز المدينية، وأخذ المشرق العربي إلى الحضيض”، لافتاً إلى أنّ “المشرق العربي الذي أسلم قياده لأنظمة الاستبداد العسكرية والنفطية، سيجد نفسه أمام لحظة تفكّك عشوائية أوصلته إلى ‘اتفاقيات أبراهام’ التي أعطت إسرائيل يداً حرّة في التصرّف في المناطق الفلسطينية المحتلّة”.
آمن إلياس خوري بأنّ النكبة كتابٌ مفتوح، وأنّ عليه أن يشارك في توثيق الاسم المغيَّب والأرض المصادَرة؛ فلسطين، وأن يؤكّد أنّها “تاريخٌ يُصنع الآن”، في إشارة لاستمرارية النكبة ومرورها بمجموعة منعطفات حادّة لم تنته، وأنّ مفاتيح فهمها تتمثل بـ: “الذاكرة”، و”الأرض”، و”البقاء”، و”الأقدام السوداء”؛ في إحالة إلى التطهير العرقي في القدس ونظام كولونيالي وتمييز عنصري في الضفّة الغربية وتحويل قطاع غزّة إلى غيتو مقفل، والتعامل مع فلسطينيي 48 مواطنين من الدرجة الثانية ووضعهم في دائرة الاتهام، و”المرئي المحجوب”، قاصداً سعي الاحتلال إلى أن يجعل الفلسطيني في أرضه محجوباً ولا مرئياً.
فلسطين خوري طريقٌ للتفكير في الاحتلال بوصفه تركة الاستعمار الغربي وأداته المستدامة، وتأمُّل في بنية الاستبداد العربي التي جرّفت وجودنا الحضاري وهشّمت معانيه، ورؤيا آمن بها وأعاد التذكير بها في مقال نشره في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بعنوان “إنّها فلسطين.. شيء لا يوصف”، حين يقول: “شعب فلسطين لن يموت. وحدكم تفتحون للعرب أفقاً وحاضراً ومستقبلاً”.