باسل خليل
رجل قادم من عمق العمل السياسي ومعتركه.. يحمل همّ وطنٍ مثخن بجراحه، مثقل بنزيفه الذي دام لمدة أربعة وخمسين عاماً من التصحر السياسي وإقصاء الآخر. وكان هذا الرجل أحد ضحاياه الذين اعتقلهم النظام الأسدي البائد لأنه طالب بدولة تحترم الإنسان وكرامته تحت سقف القانون بغض النظر عن انتمائه الديني أو العرقي أو السياسي. إنه الأستاذ أحمد العسراوي الذي لبى دعوة منتدى الكواكبي للحوار الثقافي وألقى محاضرة بعنوان: (سورية على طريق الخلاص وإعادة البناء). في دار الكتب الوطنية في حلب بتاريخ 17 نيسان 2025 في الذكرى التاسعة والسبعين لجلاء المستعمر الفرنسي عن سورية. وكان بداهةً أن يذكر الأبطال السوريين الذين حققوا هذا الجلاء وبطولاتهم العظيمة.
كما كان لا بد أن يذكّرنا بالمفكر الكبير عبد الرحمن الكواكبي ومآثره المشهودة له في نقد الاستبداد وطباعه. هذا المفكر الذي انجبته مدينة حلب ذات المكانة الرائدة في تاريخ الحركة الوطنية في سورية.
وعندما دخل المحاضر أحمد العسراوي في صلب موضوعه ذكر أن ما حققته الفصائل المسلحة المعارضة في 8كانون الأول بإسقاط النظام إنما جاء على هرم من التضحيات الشعبية السورية خلال أربعة عشر عاما. وقد ظهر لهذه القوى الثورية حالة انكشاف سورية أمنياً وعسكريا ومجتمعيا بعد سقوط النظام البائد وفشل كل الجهود العربية والدولية في إعادة تأهيله. ورأى أن إعادة سورية إلى بداية الطريق الصحيح يحتاج إلى جهد جبار يتمثل في خطوط عامة أهمها:
1-تأمين وحدة سورية والتصدي لمشاريع تقسيمها…
2-توفير الأمن الوطني للداخل…
3-إعادة بناء القوات المسلحة (جيش محترف. أمن. شرطة)…
4-توفير الحد الأدنى من مستوى الحياة الكريمة للمواطن السوري..(كهرباء،خبز،غاز،ماء،مواصلات، عمل..الخ).
5-إعادة بناء العلاقات الإيجابية مع المحيط العربي والدولي..
6-التصدي لكل المحاولات المبذولة لتركيب سلطة تستجيب لمفاهيم مجتمعية تعمل على تفجير الصراعات بين مكوناتها..
7-وضع أنظمة وقوانين تعزز الشفافية والمحاسبة والمساواة والعدل.. أي الحوكمة التي تستند إلى أسس قانونية..
ثم تطرق المحاضر إلى الثغرات التي لوحظت في بيان الإعلان الدستوري الذي أصدرته الإدارة الجديدة وهي:
1-مركزة السلطات في يد الرئيس..
2-تجنب الحديث عن مفاهيم الديمقراطية والتعددية الحزبية وتداول السلطة وعدم الوضوح بالحفاظ على أصول الثروة بما فيها القطاع العام..
3-الالتزام تجاه القضايا القومية.
دعا المحاضر إلى ضرورة إعادة السياسة إلى الحياة العامة والمجتمع وتفعيل التفكير والسلوك الإيجابي في كل الجوانب السياسية والفكرية واكتشاف أفضل السبل لتحقيق أهدافنا الوطنية وإنجاز التنمية المستدامة..
وفي نظرته للمرحلة القادمة (مرحلة الدستور الدائم والحياة السياسية والاجتماعية المستقرة) عددَ المحاضرُ أولوياتها في البنود التالية:
1-الالتزام بالعمل على توفير كل السبل للحفاظ على ما تم تحقيقه بعد 8كانون وهنا الفشل ممنوع وعلى الجميع أن يتحمل مسؤولية هذا الفشل (إن حصل) وفي المقدمة الحكومة الجديدة.
2-تأمين وحدة سورية الجغرافية والاجتماعية على قاعدة المواطنة والجميع متساوون تحت سقف القانون.. وتجريم الطائفية.
3-بناء جيش وطني وأمن وطني عام بمشاركة كل المكونات..
4-العمل الدؤوب على تحقيق العدالة الاجتماعية.
5-العمل السريع على إغلاق ملف المغيبين قسراً وكشف مصائرهم..
6-بناء حياة سياسية صحية قائمة على مفهوم الديمقراطية وآلياتها… وتشجيع منظمات المجتمع المدني واستقلاليتها..
7-بناء منظومة عمل اقتصادية توفر للجميع الكفاية والعدل والبيئة المناسبة للاستثمار. إن النظام الاقتصادي الحر لا يمكن أن يوفر أي أساس حقيقي لنهضة سورية، إنه يسمح بنمو رأسماليات طفيلية لا تقدم لوطنها أي خير.. ما يحقق النهوض الاقتصادي هو التكامل بين القطاعات الأربع: العام والخاص والتعاوني والوقفي.. وجلب الاستثمارات الخارجية..
8-تعزيز كل الفرص لإعادة بناء منظومة التعليم على قاعدة كفاءة قطاع التعليم الحكومي واستعادته لمكانته..
9-صون وتعزيز الثروة الوطنية وعدم التفريط بها..
10-تعزيز الموقف التاريخي الثابت لسورية تجاه أمتها العربية وقضيتها المركزية القضية الفلسطينية..
11-العمل المكثف مع كل القوى الوطنية حتى يتضمن الدستور الدائم كل هذه الأهداف..
في الختام أكد المحاضر على:
سورية واحدة أرضاً وشعباً. واضحة الهوية. يعطيها تنوع مكوناتها مزيدا من القوة ليقوم نظامها على مفاهيم المواطنة والعدل والمساواة أمام القانون وعلى التعددية السياسية والتنافس وفق برامج تستهدف رفعة الوطن وكرامة السوري. وحرمة دم السوري تتقدم على كل شيء.
بعد انتهاء المحاضرة فتح مدير الحوار الباب لمداخلات الحضور فكان أول من تقدم إلى المنصة الأستاذ مروان قواص(رئيس فرع حلب للمنظمة العربية لحقوق الانسان) فقال: السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. أوافق أن تكون السلطة ذات لون واحد في بدايتها لتبقى متماسكة.. ولكن في المستقبل لا أوافق..
السلطة طرحت الليبيرالية الاقتصادية فلنجربها ولكن يجب أن يوازيها ليبيرالية سياسية ونكون أحرارا في مراقبة الدولة.
هاشم مستو(حزب الإرادة الشعبية) تكلم عن القرار2254 وضرورة تطبيق بنوده وفق الراهن.. ثم نبهنا الى أن السوريين لا يملكون ترف الوقت في الإنجاز.. وأشار الى مواجهة العدو الصهيوني.
د.ناصر حلوبي(منتدى سورية النهضة) ركز على الثقة بين السوريين وقال: اللون الواحد لم يأتِ إلا من قلة الثقة. وبناء الثقة ضروري جدا لاسيما لجيل الشباب الذي لا يشارك في الفعاليات المجتمعية ويفضل الهجرة.. نطالب بإعادة الثقة بين الحكومة والشعب.
د.فارس الأصفري(منتدى الكواكبي) قال:
في ظل حكم اليسار افتقدنا الشفافية والآن سورية في نقطة تحول جذرية ولا يجب أن نقيم لون الحكومة بل المهم هو كيف تحكم هذه المؤسسة أو المجموعة. والديمقراطية بنيت بعد صراع طويل بين الحق والباطل وعلينا أن نوحد جهودنا في تحقيق أساسيات تحولنا من خلال عمل سياسي مدني سلمي يحترم الحريات..
الشاب المشاكس إبراهيم محمد أكد على تعزيز الهوية الوطنية السورية بغض النظر عن الفروقات الدينية والقومية وطالب بحل كل الأحزاب القومية وإنشاء أحزاب تطورية تنموية وطنية.
إبراهيم فاعور(حزب سوريا المستقبل) طالب بحوار وطني شامل للوصول الى سورية مزدهرة..
ماهر رجب(علوم سياسية) تحدث عن إشكالية فهم السوريين للنظام الاقتصادي وما هو الأفضل لهم(الرأسمالي أم الاشتراكي) ونوه الى أن العقل العربي يعالج الفكرة من حيث منجزها دون البحث في سياق تطورها التاريخي. والاقتصاد الغربي تطور باتجاه معاصر(نظام مختلط) ونحن لا زلنا نعيش الصراع حول المصطلحات (الديمقراطية.. الإسلام السياسي.. مسألة الحكم..) دون فهم تطورها التاريخي. الديمقراطية اليوم تحولت إلى مفهوم عريض، ويمكن استخدامها بمرونة حسب الواقع.
أنا أدعو بصراحة الى النظام الاقتصادي المختلط، بحكم أنني عشت في الشمال قبل سقوط النظام البائد وأعرف هيمنة حيتان الاقتصاد، حين كانت هيئة تحرير الشام تشرف عليه وأنا ضد الرأسمال المطلق.
وسيم الحاج (مدير منظمة مدنية) أعتبر أن جذر المشكلة في سورية يكمن في انطفاء الحياة السياسية وعدم وجود المسؤولية المجتمعية.. ويجب التعويل على المجتمع المدني لأنه هو مسار البناء.. ودعم هذا المسار سيعزز الثقة في المجتمع ويمهد لعودة الحياة السياسية بعقلية تشاركية مدنية..
د.علاء الدين قولي(منتدى سورية النهضة) رأى أن الحكومة الحالية تفاجأت بمجتمع متمرد عصي على الحكم.. والاعلان الدستوري كان مفاجئاً لنا وباعد بين المجتمع والدولة ولابد من تشكيل جسر بين القاعدة والقيادة.. هناك تقصير واضح لدى القيادة في هذا التجسير بسبب عدم الكفاءة ربما أو قلة الخبرة.. ونحن كمجتمع مدني يجب أن نقوم بالسبر المجتمعي وتقريب المفاهيم المختلف عليها والوصول الى حلحلة حقيقية لمشكلات الطوائف والأقليات.. أمامنا عدو ومجتمع دولي ضاغط..
د.فاروق اسليم (كلية الآداب) كان صارما في تحديد نقاط الخلل والرد على بعض المداخلات قائلاً: هناك من تحدث عن إلغاء الأحزاب القومية، وهذا تعدٍ على الحرية، فالشعب هو الذي يقرر ما يناسبه. كما هناك من اعتبر الأحزاب اليسارية استبدادية، أقول له وهل الأحزاب اليمينية ليست استبدادية! العقلية العربية هي في بنيتها استبدادية ويجب تغييرها..
طرح الدكتور سؤالاً أساسياً وعمليا وهو:
ماذا علينا أن نعمل؟ وأجاب عليه بمقترحاتٍ هي:
اقترح لو كان هناك محاضر آخر من جنس آخر ومن الشباب أيضاً.. عدم وجود الشباب يعني أننا غير مقنعين لهم! ماذا نفعل لهم؟ ليبقوا في الداخل، ويعود من هم في الخارج؟ أولئك كنز سورية العلمي والاقتصادي والفكري..
وبخصوص الثقة كان لابد من زيارات بين المحافظات.. نحن لانعرف بعضنا وتحكمنا تصورات مسبقة..
وضاح الشبلي(حزب سوريا المستقبل) أكد الحاجة إلى عقل جمعي كسوريين بعد زوال العصر القومي.. بعد سقوط النظام لم أجد نفسي حرا في اختيار الرئيس وكتابة الإعلان الدستوري.. نحن بحاجة إلى دولة ديمقراطية تعددية تكون فيها المرأة إلى جانب الرجل..
د.سعد الدين كليب(كلية الآداب) أشار إلى موضوع تكرر ويتكرر حيث أوضح: كثيرا ما نترنم بمصطلح الوحدة أو التوحيد..! ما المانع أن لا تكون هناك وحدة وأن نكون متنوعين.. نحن مجتمع متنوع دينياً، طائفيا، قوميا.. وسياسيا وثقافيا، فلماذا نصر على توحيد هذا المجتمع؟ ولنطالب ب(مجتمع المواطنة) وحسب.. ينبغي أن نكون مواطنين في بلد يحترم مواطنيه بأي شكل كانوا..
رانيا بجك.. المرأة الوحيدة التي تجرأت وصعدت المنبر لتؤكد على دور المرأة في تربية الشباب الذي هاجر. تقول بألم وحزن: بقيت الأمهات التي تعبت ولا أحد يسمعهن ويفكر بهن ويلتفت لأمنياتهن في عودة المغيبين قسراً.(السيدة رانيا لديها ابن مفقود في ألمانيا حتى اللحظة).
سعد الدهان: طالبَ بتحقيق العدالة الاجتماعية والاستفادة من أحكام الإسلام (الزكاة مثلا) والعودة الى الأخلاق والحوار كمجتمع مدني وهذه المرحلة فرصة ذهبية يجب استغلالها. وتمنى من الأحزاب الموجودة أن تشارك المنتديات في هذا الحوار..
ناصر حمو(رئيس اللجنة الإعلامية في منتدى الكواكبي) ختم المداخلات قائلا باختصار شديد: آن الأوان للأحزاب أن تعيد قراءة ماضيها وأن تعيد انتاج ايديولوجياتها وبرامجها السياسية بما يتواءم مع الظروف الجديدة..
ثم أجاب المحاضر على مداخلات الحضور.
محاضرة غنية جداً، حفرت عميقاً في جذور الأزمات التي تعيشها سورية ووضعت تصورات مهمة وقيّمة لها، وحلول وطنية اشتركت في صياغتها أطياف واسعة من المثقفين والسياسين في المجتمع السوري، بما يمكن أن يشكل (عقلاً جمعياً) للنهوض بسورية وتقدمها لتكون في مصاف الدولة العصرية.
ملاحظة: لأجل النزقين الذين يملون القراءة الطويلة، قمت بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي لإجراء ملخص لها، سأضعها في التعليقات. وأرجو ممن يملك الوقت الكافي أن يقارن بين كتابتي وملخص الذكاء الاصطناعي ويزودني برأيه وسأكون له من الشاكرين..