أحيا اتحاد الكتاب العرب في مقره بدمشق يوم ١٥ / ٧ / ٢٠٢٥ حفل تكريم للراحل ميشيل كيلو، وفي الحفل ألقى المهندس أحمد العسراوي الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي كلمة تناولت فيها مكانة الراحل لدى التيار الناصري في سوريا، وتعرض خلالها للأوضاع الراهنة الخطرة التي يمر بها وطننا، ولأهمية ما ورد في الكلمة العسراوي وما لاقته من تقدير نعرض نصها كاملة
********************
حياكم الله جميعاً
اسمحوا لي أن أبدأ كلمتي بالإشارة إلى أننا نكرم اليوم مناضلاً استثنائياً، صاغ مسيرة نضالية فكرية، كان فيها رائداً، أو لنقل كان من صف الرواد الذين استطاعوا بما ملكوا من وعي، ومعرفة، وثقافة، أن يجعلوا للفكر اليساري في سورية مكانة خاصة، متمثلين بذلك طلائع من اليساريين في العالم ممن جعلوا معرفة الواقع والالتزام بقواه الحية، مقدم على معرفة النظريات والأفكار، ونحن نتحدث عن ميشيل كيلو تقتضي الدقة أن نقول إنه جعل كل الفكر الذي التزمه في خدمة المجتمع، وفي خدمة قواه الحية، وفي خدمة تفعيل المفاهيم والقيم التي شكلت هوية الأمة، وقيمها وروحها الحضارية، وقد اكتشف بشكل مبكر أن أي نضال، وأي شعار، وأي هدف، لا يفهم ويلتزم هوية الأمة التي مثلتها ثنائية العروبة والإسلام سيبقى على هامش المجتمع، وسيبقى عالة على هذا المجتمع بدل أن يكون بحكم دوره الفكري والنضالي طليعة للتغيير وللثورة وللعدالة وللحرية.
ولأن الرجل الذي نكرمه كان كذلك فقد أخذ في حزبنا، وبين شبابنا ومناضلينا، وفي ضمير أمته المكانة اللائقة التي يستحق.
بشكل مبكر جداً اكتشف وعدد من رجالات الفكر اليساري الطبيعة الاستبدادية، والطائفية للنظام الأسدي، وحينما استمع عقب عودته من الخارج الى المفكر القومي اليساري الراحل الياس مرقص وهو يتنبأ بالكارثة التي تقود إليها سيطرة إيران الخمينية على سورية، والطبيعة الطائفية الاستبدادية المتحكمة فيها والمصير الدموي الذي ينتظر هذا البلد، فإنه كان يستمع إلى نبض قلبه، وبصيرة عقله، وصفاء ضميره. لذلك اكتشف بسرعة ودون عناء أن الياس مرقص كان يتحدث حديث “الرائد الذي لا يكذب أهله”. ثم مع توالي الوقائع ظهر له أن النظام الأسدي وما اتصل به أشد عدوانية من كل تصور، وحين روى قصته مع الطفل المولود بالسجن وكيف كان الطفل عاجزاً عن إدراك معنى العصفور والشجرة والغصن، لأن هذه المظاهر للحياة كانت غائبة تماماً عن حياته. كان يروى وجها من أوجه الجريمة التي يرتكبها النظام الأسدي بحق الحياة كلها وعلى اختلاف مستوياتها.
هكذا كان ميشيل كيلو، ليس بين حزبه ورفاقه، وإنما بيننا نحن الوحدويين العرب “الناصريين” الذين جعلنا من وحدة الأمة العربية، وتحررها ومشروعها النهضوي الحضاري، والتزامها بالتقدم والعدالة نبراساً نقتدي به، فكان ميشيل كيلو في كل هذا واحدا منا، ارتباطا بأمته، وإدراكا للتحديات التي تواجهها، ونقاء وطهارة في سيرته.
وإني لا أضيف شيئاً حين أضع اسم هذا الرجل الذي نكرم الى جانب أسماء يساريين كبار في مختلف أنحاء العالم، وفي كل ساحات النضال، الذين أدركوا أن التغيير الحقيقي لا يكون إلا بالإدراك الحقيقي لمقومات الشعب والأمة التي تنتمي إليها، فراحوا يطورون أفكارهم لتكون في هذا الاتجاه تماماً.
وكانت رؤيته لمكانة فلسطين ” قضية العرب المركزية” في مشروع أمتها الحضاري على درجة عالية من الوضوح والتميز.
كنت وكنا في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي نتمنى أن يكون ميشيل كيلو بيننا ونحن نشهد كنس النظام الأسدي البائد واقتلاع جذوره من سورية، ونشهد الخطوات الأولى التي بدأت سورية تخطوها وهي متحررة من عصر الظلام الأسدي.
وأخال أننا لو استدعيناه الينا في هذه الأيام لنظر باستبشار وتفاؤل، لكن أيضا بقلق وتحفز خشية أي انتكاسة قد تقع، ولكان حذر من محاولة الأعداء العبث بالوحدة الوطنية، بأعمال إجرامية كمثل التفجير الإرهابي الذي استهدف كنيسة مار الياس، ولكان أكد لنا جميعاً أن هذا العدوان ليس عدواناً على الكنيسة والمصلين فيها، وإنما هو عدوان على الأمة : على مساجد الأمة وكنائسها، على وحدتها الوطنية ووجودها الحضاري، على الدولة والمواطنة والمستقبل، ولرفع صوته المميز مطالباً بتحصين وجودنا الوطني بالديمقراطية وبالحريات السياسية، وبالفكر المنفتح، وبالمواطنة الحقة، ولقال لنا، بأنه بهذا الاساس الوطني المتين نحصن بلدنا، وشعبنا، ومستقبلنا.
ولو كان بيننا اليوم لنظر بكثير من الخوف والقلق لما يجري في السويداء وجبل العرب الأشم، ولقام معنا محذرا ليس فقط من أخطار التدخل الصهيوني “الإسرائيلي” في اللحمة الوطنية السورية. وإنما أيضا من أخطار التعاطي غير المسؤول مع هذه التطورات. ومن خطورة التجاوز على القيم والقامات الوطنية والقومية التي رسمت وجه الجبل الأشم منذ زمن بعيد.
ولدعا معنا إلى وقف فوري لهذا الاقتتال، ولهذه الاستهانة الفجة والواضحة بالدم الوطني وبسلامة المواطن، ولدلنا بلغته البسيطة الواضحة أن المخرج من كل ما نحن فيه لا يكون إلا بالعمل الديمقراطي، وإلا بترسيخ قيم المواطنة وإلا بالتزام السلطات القائمة بمبدأ الشفافية، وبمبدأ الثقة بالشعب، باعتباره مصدر الشرعية ومرجعها.
لميشيل كيلو كل التحية والتقدير، نموذجاً للمناضلين الوطنيين وللحركة النضالية، ونموذجاً للمفكر الحيوي الملتزم بالأمة والوطن والمستقبل.
أيها الغائب الحاضر، أنت بيننا ومعنا فنم هنيئا مرتاح البال، فلن ننحرف عن الطريق بعون الله.
دمشق 15/7/ 2025
م. أحمد العسراوي