يعبّر ما جرى من شد وجذب وضجة خلال الأسبوع الماضي حول سعر الصرف والوضع المعيشي وجلسة مجلس الشعب الاستثنائية وسلوك الحكومة خلالها، عن أزمة عميقة تعود جذورها إلى عام 2005؛ العام الذي بدأ فيه تطبيق السياسات الليبرالية تحت مسمى «اقتصاد السوق الاجتماعي»، وبما يتناسب مع توصيات وطلبات صندوق النقد والبنك الدوليين، وهو الأمر المستمر حتى اللحظة وبتسارع أكبر من أي وقت مضى.
إنّ «ضجة» الأسبوع الماضي، ليست حلقة اعتيادية ضمن حلقات الضجة والتنفيس التي اعتادها السوريون خلال أكثر من عقد مضى، بل هي حلقة «استثنائية» فعلاً، لأنها تمثّل، وعبر ما قاله رئيس الحكومة على منبر مجلس الشعب، الحلقة الأخيرة في عملية اللبرلة؛ حيث تم الإعلان عملياً عن التوجه نحو إنهاء سياسة الدعم مرة وإلى الأبد، وعن تحرير سعر الصرف. وبكلمة، فقد تم الإعلان عن استكمال التوجه لإنهاء أي دور تدخلي للدولة، وأنّ على الناس أن تدبر رأسها.
إنّ التعنت والإصرار على استكمال السياسات الليبرالية وفق وصفات المركز الغربي، هو أمر غير مفهوم بل مثير للدهشة إذا ما أردنا افتراض حسن النوايا؛ فليس من الصعب على أحد اليوم أن يفهم أنّ اللبرلة الاقتصادية هي إحدى الأثافي الثلاث التي يجري إحراق سورية فوقها (الملف الاقتصادي-الاجتماعي، الملف الأمني العسكري، الملف الثقافي المعنوي).
وكما يجري السير «ليبرالياً» في الملف الاقتصادي، كذلك يجري الأمر في الملفين الآخرين؛ إذ لا تجري عملياً خصخصة جهاز الدولة المدني عبر نزع وظائفه التدخلية الاجتماعية فحسب، بل ويجري بالتوازي -إذا ما نظرنا إلى كامل الخريطة السورية بكل مناطق السيطرة فيها- خصخصة القطاع العسكري الأمني، وإنهاء حصرية السلاح لمصلحة عدد من الحصريات بما فيها ذات الطابع المليشياوي. وفي الملف الثقافي المعنوي، تتواصل خطوات اغتيال روح سورية والسوريين، سواء عبر تغييرات المناهج، أو عبر «الأخطاء غير المقصودة» التطبيعية المتكررة هنا وهناك، مروراً بحريق ساروجة، الذي وللأسف ليس من المتوقع أن يكون آخر الخطوات.
إنّ نظرة فاحصة إلى الدستور السوري المعمول به، وإلى الوقائع، كافية للخروج باستنتاج واضح هو أنّ الحكومة في سورية لا تحكم، ومجلس الشعب لا يشرّع، وهو ما يمر عليه تفصيلاً ملف لمركز دراسات قاسيون في هذا العدد نفسه؛ ولذا فإنّ الجدل والنقاش العام ينبغي أن تتم حمايته من الوقوف عند سطح الظاهرة، بل ينبغي أن يفتح الباب أمامه ليخترق ذلك السطح ليدرك ويعرف ما يجري فعلاً، ولماذا يجري…
فلنعد ترتيب المسألة مرة أخرى، مع استمرار غياب الحل السياسي، عبر غياب التطبيق الفعلي للقرار 2254، أي مع إغلاق باب التغيير الجذري الشامل الذي يتضمن فيما يتضمن إعادة توزيع منطقية للصلاحيات بين سلطات الدولة، فإنّ ما يستمر تطبيقه على الأرض في سورية هو هو المخطط النيوليبرالي الغربي بإحداثياته الثلاث:
أولاً، لبرلة اقتصادية تنهي دور جهاز الدولة الاجتماعي، عبر إنهاء الدعم، بل وأيضاً إنهاء سياسة الاستيعاب الوظيفي، ناهيك عن استمرار الارتباط الاقتصادي بالدولار، والاكتفاء بالتوجه شرقاً بالشعارات فقط لا غير.
ثانياً، خصخصة القطاع الأمني والعسكري بشكل تدريجي بحيث يتم تقويض الجانب العسكري من وظيفة جهاز الدولة، بعد أن تم تقويض الجانب المدني.
ثالثاً، اغتيال روح وثقافة سورية والسوريين، بمختلف الوسائل والسبل…
أمام هذه الوقائع كلها، وبعيداً عن الانزلاق إلى اشتباكات جانبية وتراشق للمسؤوليات بين مجلس الشعب والحكومة، ينبغي أن يتم وضع السؤال على رأس الطاولة: لماذا هذا كله؟ ما الغرض؟ من المستفيد؟
الدستور السوري: الحكومة لا تحكم!
بعد 12 سنة من بدء الأزمة، وبعد 18 سنة من بدء التطبيق الواسع النطاق للسياسات الليبرالية (أي منذ عام 2005، العام الذي فرض فيه ما سمي «اقتصاد السوق الاجتماعي» الذي شكل مفصلاً في بداية التدهور الاقتصادي والاجتماعي المستمر حتى الآن)، قرر مجلس الشعب السوري أخيراً عقد جلسة طارئة لمناقشة الوضع الاقتصادي والمعيشي… واتخذت الجلسة عنواناً عاماً هو «مساءلة الحكومة ووضعها أمام مسؤولياتها».
قد تبدو هذه الخطوة طبيعية، بل ومتأخرة جداً في أي بلد يعاني اقتصاده مما يعانيه الاقتصاد السوري دون أن تتخذ الحكومة الحالية أو سابقاتها، أي خطوات عملية وملموسة لمعالجة الأوضاع أو تحسينها.
من المفروغ منه أنّ من يتبنى الدفاع عن الحكومة الحالية أو عن سابقاتها، إنما يتبنى قضية خاسرة، ولكن لكي تستقيم «المحاكمة» و«المحاسبة»، ينبغي قبل كل شيء العودة إلى مبدأ قانوني معروف، وهو أنّ المحاسبة ينبغي أن تكون على قدر الصلاحيات، وإلا فإنّها ستتحول إلى أداة من أدوات إعفاء المسؤولين الحقيقيين، وربما أهم من ذلك، أنها ستتحول إلى أداة من أدوات التضليل وحرف الوعي عن حقائق الأمور، وتالياً عدم الوصول إلى حلول للمشكلات التي تحتاج إلى معالجة، وبدلاً عن ذلك مواصلة تطبيق السياسات نفسها وبسرعة أكبر بعد قدرٍ ما من «التنفيس»…
في هذا السياق، وبغض النظر عن مدى تطبيق الدستور في سورية، نستعرض فيما يلي بعض النقاط الأساسية المتعلقة بعمل الحكومة وصلاحياتها في الدستور السوري الحالي، ونقارنها بالدستور السابق. بالتحديد يكفي النظر إلى ما هو متعلق بوضع السياسات العامة للدولة والتي على أساسها تقوم الحكومة بكافة أعمالها، ومن المفترض محاسبتها على ذلك، حيث إن الصلاحيات الأخرى المناطة بها وإن لم تكن أقل أهمية، ولكنها بمثابة الخطوط التي تعمل ضمنها الحكومة على تنفيذ السياسات العامة للدولة.
الدستور السوري لعام 2012
يتضمن الباب الثالث– سلطات الدولة– في الفصل الثاني منه المواد المتعلقة بالسلطة التنفيذية، حيث تتعلق المواد 83-117 برئيس الجمهورية، والمواد 118-129 بمجلس الوزراء (الحكومة)، والمواد 130-131 بمجالس الإدارة المحلية.
عدد المواد من الدستور الخاصة بكل من هذه الجهات الثلاث «التنفيذية»، موزع كالتالي، (رئاسة 35 مادة، حكومة 12 مادة، إدارة محلية 2 مادة). ورغم أنّ هذا المعيار شكلي إلا أنه مؤشر أولي على طبيعة التناسب بين وزن وصلاحيات كل من هذه الجهات ضمن السلطة التنفيذية… ونقول مؤشر شكلي لأنّ النظر عن قرب إلى هذه المواد يوضح أنّ التناسبات أكثر اختلالاً حتى مما توحي به التوازنات الرقمية لعدد المواد.
بالعودة إلى مضمون المواد، وهو الأهم، يمكن تسليط الضوء على السلطة التنفيذية وبالتحديد الحكومة من خلال النقاط الأساسية التالية:
• المادة 97: «يتولى رئيس الجمهورية تسمية رئيس مجلس الوزراء ونوابه وتسمية الوزراء ونوابهم وقبول استقالتهم وإعفاءهم من مناصبهم».
• المادة 98: «يضع رئيس الجمهورية في اجتماع مع مجلس الوزراء برئاسته السياسة العامة للدولة ويشرف على تنفيذها».
• المادة 118، الفقرة 1: «مجلس الوزراء هو الهيئة التنفيذية والإدارية العليا للدولة… ويشرف على تنفيذ القوانين والأنظمة، ويراقب عمل أجهزة الدولة ومؤسساتها».
• المادة 128، الفقرة 1 والفقرة 9: «يمارس مجلس الوزراء الاختصاصات الآتية، 1. وضع الخطط التنفيذية للسياسة العامة للدولة… 9. إصدار القرارات الإدارية وفقاً للقوانين والأنظمة ومراقبة تنفيذها».
لن نقارن ما أوردناه أعلاه مع أيّ دستور غير سوري، بل وحتى لن نقارنه مع جملة الدساتير السورية منذ 1920، بل سنكتفي بمقارنته مع الدستور السوري السابق لعام 1973…
الدستور السوري لعام 1973
تتضمن هذه النسخة من الدستور في الباب الثاني – سلطات الدولة – في الفصل الثاني، المواد المتعلقة بالسلطة التنفيذية. من حيث المضمون، يمكن التركيز على التالي فيما يتعلق بالحكومة:
• المادة 95: «يتولى رئيس الجمهورية تسمية نائب له أو أكثر وتفويضهم ببعض صلاحياته وتسمية رئيس مجلس الوزراء ونوابه وتسمية الوزراء ونوابهم وقبول استقالتهم وإعفاءهم من مناصبهم».
• المادة 94: «يضع رئيس الجمهورية بالتشاور مع مجلس الوزراء برئاسته السياسة العامة للدولة ويشرف على تنفيذها».
• المادة 115، الفقرة الأولى، «مجلس الوزراء هو الهيئة التنفيذية والإدارية العليا للدولة… ويشرف على تنفيذ القوانين والأنظمة ويراقب عمل أجهزة الدولة ومؤسساتها».
• المادة 118: «تتقدم الوزارة عند تشكيلها ببيان عن سياستها العامة وبرامج عملها إلى مجلس الشعب. تتقدم الوزارة في كل سنة ببيان إلى مجلس الشعب عن تنفيذ خطط التنمية وتطوير الإنتاج».
• المادة 127، الفقرة الأولى والفقرة الأخيرة: «يمارس مجلس الوزراء الاختصاصات التالية، الاشتراك مع رئيس الجمهورية في وضع السياسة العامة للدولة وتنفيذها… إصدار القرارات الإدارية والتنفيذية وفقاً للقوانين والأنظمة ومراقبة تنفيذها».
مقارنة بين الدستورين
فيما يتعلق بالحكومة وصلاحياتها وعملها، الثابت هو أنّ رئيس الجمهورية له الصلاحية المطلقة بتسمية الحكومة بكامل أعضائها، بما في ذلك نواب الوزراء، وبإعفائها كلها أو إعفاء أي عضوٍ فيها، ولا علاقة لمجلس الشعب أو لأي جهة أخرى بعملية التسمية هذه أو التعديل أو الإعفاء.
أما في الاختلافات بين الدستورين، فيمكن لحظ ما يلي:
• نص الدستور السابق على أن رئيس الجمهورية يضع السياسة العامة للدولة بالتشاور مع مجلس الوزراء، وتم حذف «التشاور» في دستور 2012.
• وفق الدستور السابق كانت الوزارة تتقدم لمجلس الشعب ببيان عن سياستها العامة عند تشكيلها وتقرير سنوي، وهذه المادة اختفت في دستور 2012، والذي ظهر فيه بدلاً عن ذلك في الفصل المتعلق بالسلطة التشريعية في المادة 76، أن رئيس مجلس الوزراء يقدم «خلال ثلاثين يوماً على الأكثر من تاريخ تشكيل الوزارة بيانها إلى مجلس الشعب لمناقشته» وأن «الوزارة مسؤولة عن تنفيذ بيانها أمام مجلس الشعب».
• بينما كان ضمن اختصاصات مجلس الوزراء في الدستور السابق «الاشتراك» مع الرئيس في وضع سياسات الدولة وتنفيذها، تم حذف الاشتراك في دستور 2012 والاكتفاء بوضع الخطط التنفيذية للسياسة العامة للدولة التي يحصر الدستور وضعها بالرئاسة وحدها ودون حاجة للتشاور لا مع الحكومة ولا مع مجلس الشعب ولا مع أي جهة أخرى.
• ضمن اختصاصات مجلس الوزراء في دستور 1973 يندرج إصدار القرارات الإدارية والتنفيذية، بينما في دستور 2012، تم الاكتفاء بإعطاء مجلس الوزراء صلاحية إصدار القرارات الإدارية فقط.
بكلام آخر وبشكل مختصر، فقد كان الدستور السابق -وبغض النظر عن تطبيقه- ينص على أنّ السياسات العامة للدولة وإنْ كانت توضع من قبل الرئاسة إلا أنها ينبغي أن توضع بالتشاور مع الحكومة، أما في 2012 فقد أعفى الدستور الحكومة من هذه المسؤولية، أي من مسؤولية وضع السياسات العامة للدولة أو حتى إبداء الرأي فيها، وكلّفها بأن تكون مجرد منفذ للسياسات الموضوعة مسبقاً.
يعيدنا هذا كله إلى نقطة البداية، أي الجلسة الاستثنائية التي دعا إليها مجلس الشعب قبل أيام لمناقشة الوضع الاقتصادي والمعيشي، وضمناً لمساءلة الحكومة. إذا كان الدستور نفسه يقول إنّ الحكومة ليست مسؤولة عن وضع السياسات العامة، بل فقط عن تنفيذها، وإذا قال قائل إنّ المشكلة ليست في السياسات العامة بل في التنفيذ، وإذا قبلنا هذا القول، فإنّ الدستور يقول إنّ أياً من أعضاء الحكومة والحكومة بأسرها، ليس الحالية فقط، بل وسابقتها وسابق سابقتها.. وإلخ، قابلة للتعديل، قابلة للتغيير الكامل، في أية لحظة، وبجرة قلم كما يقال، بقرار من مؤسسة الرئاسة وفقاً للدستور المعمول به.
الخلاصة هي أنّ «الحكومة في سورية لا تحكم» وفقاً للدستور نفسه، ولذا فإنّ المبالغة في تحميلها مسؤولية كل ما يجري من خراب، لا تنطلق من رغبة في الإصلاح، بقدر ما هي رغبة في التنفيس وفي تشغيل الحكومة واجهة لتلقي غضب الناس…
دستورياً وفعلياً: مجلس الشعب لا يُشرّع!
دعا مجلس الشعب قبل أيام لعقد جلسة استثنائية بهدف دراسة ومناقشة الوضع الاقتصادي المتردي، وسعر صرف الليرة السورية. وحظيت هذه الدعوة والجلسة باهتمام كبير، حيث كانت حديث الساعة والشاغل الأكبر لمواقع التواصل الاجتماعي وبين السوريين، وربما كان ذلك بسبب الموضوع الذي أتى في عنوان الدعوة أو التكهنات بأن مجلس الشعب سيضع الحكومة أمام المساءلة، الأمر الذي قد يكون طبيعياً، ولكنه شيء لم يعتد عليه السوريون، وبالأخص أن الموضوع قيد النقاش لم يكن وليد اللحظة والتدهور الاقتصادي والمعيشي، وحتى تدهور سعر صرف الليرة جارٍ منذ أكثر من عقد.
في هذا الصدد وبالنظر من زاوية أوسع، قد يكون من المفيد التذكير بصلاحيات مجلس الشعب وواجباته، والنظر فيما إذا كان يقوم بها ويعمل وفقها؛ فاليوم، عندما يقوم مجلس الشعب بالدعوة إلى جلسة كتلك التي دعا إليها يوم الإثنين الماضي، قد لا يكون مستغرباً أن يتفاجأ الناس بذلك إذا ما نظرنا إلى كل ما هو متعلق بمجلس الشعب، ومقارنة ما هو منصوص عليه دستورياً وما يقوم به فعلياً.
مجلس الشعب في الدستور
الدستور هو دائماً نقطة البداية للنظر في أي جهة أو جانب من جوانب عمل الدولة، حيث إنه يعرّف– وإن كان في الكثير من الحالات نظرياً، والحالة السورية هنا ليست استثناء– السلطات المختلفة في الدولة، وما هي صلاحياتها وواجبتاها وعلاقتها ببعضها البعض. وفي هذا السياق، فإن مجلس الشعب هو السلطة التشريعية في سورية، أي أن مسؤوليته الأساسية هي سنّ القوانين والتشريعات التي تُحكم البلاد وفقها وكافة جوانب الحياة. والدستور الحالي يغطي في مواده 55-82 السلطة التشريعية.
وفق المادة 74، «يمارس أعضاء مجلس الشعب حق اقتراح القوانين وتوجيه الأسئلة والاستجوابات للوزارة أو أحد الوزراء…»، كما أنه وفق المادة 75، فإن اختصاصات مجلس الشعب تشمل إقرار القوانين. كما أن بعض صلاحيات مجلس الشعب المرتبطة بسنّ القوانين واردة في فصول أخرى، حيث إن المادة 100 والمرتبطة برئيس الجمهورية تنص على أن القوانين التي يقرها مجلس الشعب تصدر عن رئيس الجمهورية، «ويحق له الاعتراض عليها بقرار معلل خلال شهر من تاريخ ورودها إلى رئاسة الجمهورية، فإذا أقرها المجلس ثانية بأكثرية ثلثي أعضائه أصدرها رئيس الجمهورية». والمادة 112 تنص على أن «لرئيس الجمهورية أن يُعد مشاريع القوانين ويحيلها إلى مجلس الشعب للنظر في إقرارها».
وهنا من المهم تسليط الضوء على المادة 113 والتي تقول في الفقرة الأولى منها: «يتولى رئيس الجمهورية سلطة التشريع خارج دورات انعقاد مجلس الشعب، أو أثناء انعقادها إذا استدعت الضرورة القصوى ذلك، أو خلال الفترة التي يكون فيها المجلس منحلاً». وهنا يمكن العودة إلى المادة 65 والتي تنص على أن المجلس يدعى «لثلاث دورات عادية في السنة، على ألا يقل مجموعها عن ستة أشهر»، ما يعني أنه وفق الدستور يمكن أن «يعمل» مجلس الشعب فقط نصف السنة، ويبقى النصف الآخر غير منعقد. إضافة إلى ذلك وفيما يتعلق بحلّ مجلس الشعب، فإن المادة 111 تعطي رئيس الجمهورية حق اتخاذ قرار بحل مجلس الشعب «بقرار معلل يصدر عنه».
عودة إلى المادة 112، والتي بموجب الفقرة الأولى منها: لدى رئيس الجمهورية سلطة التشريع، تنص المادة في الفقرات التالية على وجوب عرض «هذه التشريعات على المجلس خلال خمسة عشر يوماً من انعقاد أول جلسة له» وأنه «للمجلس الحق في إلغاء هذه التشريعات أو تعديلها بقانون، وذلك بأكثرية ثلثي أعضائه المسجلين لحضور الجلسة، على ألا تقل عن أكثرية أعضائه المطلقة، دون أن يكون لهذا التعديل أو الإلغاء أثر رجعي، وإذا لم يُلغها المجلس أو يُعدلها عُدت مُقرة حكماً».
من المفيد أيضاً النظر إلى بعض المواد المتعلقة بالتشريعات في الباب المتعلق بالمحكمة الدستورية العليا، حيث إنه وفق المادة 146 تشمل اختصاصات المحكمة الدستورية العليا «الرقابة على دستورية القوانين والمراسيم التشريعية واللوائح والأنظمة» وكذلك «إبداء الرأي بناء على طلب من رئيس الجمهورية في دستورية مشروعات القوانين والمراسيم التشريعية وقانونية مشروعات المراسيم»، وتنص المادة 147 على كيفية ممارسة المحكمة الدستورية العليا الرقابة على دستورية القوانين، ولكن المادة 148 تنص على أنه «لا يحق للمحكمة الدستورية العليا أن تنظر في دستورية القوانين التي يطرحها رئيس الجمهورية على الاستفتاء الشعبي وتنال موافقة الشعب».
التشريعات بالأرقام
من خلال بعض ما تم ذكره أعلاه، ما بين المدة المطلوبة من مجلس الشعب أن يكون منعقداً والصلاحيات المتعلقة بالتشريع لدى مجلس الشعب ورئيس الجمهورية، يبدو أنه لدى رئيس الجمهورية والذي هو رئيس السلطة التنفيذية صلاحيات أوسع فيما يتعلق بالتشريع من السلطة التشريعية نفسها. وقد يكون من المفيد النظر إلى بعض الإحصاءات، وفق ما نشره الموقع الرسمي لمجلس الشعب، فيما يتعلق بالتشريعات خلال السنوات الأخيرة:
• منذ بداية 2022 وحتى نهاية حزيران 2023، صدر 67 تشريعاً، من بينها 37 مرسوماً ومرسوماً تشريعياً، أي أن أقل من نصف التشريعات خلال الفترة المدروسة، وبالتحديد 44,78% من التشريعات الصادرة خلال عام ونصف صدرت عن مجلس الشعب.
• خلال عام 2021 صدر 18 تشريعاً، من بينها 10 مراسيم تشريعية، أي 44,44% من تشريعات ذلك العام صدرت عن مجلس الشعب.
• منذ بداية عام 2011 وحتى نهاية عام 2020، أي خلال فترة 10 أعوام، صدر 769 تشريعاً، من بينها فقط 244 صدرت عن مجلس الشعب، أي 31,73% من التشريعات.
ممثلو الشعب
منذ بداية عام 2011 وحتى الآن، التشريعات التي صدرت عن مجلس الشعب، الجهة الأساسية المسؤولة عن سنّ القوانين كممثلين منتخبين عن الشعب، كانت 282 من 854، أي بنسبة 33%، أي فقط الثلث، في حين صدرت بقيت التشريعات كمراسيم عن رئيس الجمهورية. ومن المفيد هنا النظر في بعض التفاصيل المتعلقة بنشاط أولئك الممثلين وطريقة انتخابهم.
حول نشاط أعضاء مجلس الشعب، يدرج الموقع الرسمي لمجلس الشعب أسماء كافة الأعضاء المئتين والخمسين، ولكل منهم صفحة فيها بعض المعلومات، من بينها النشاطات وفق التصنيفات التالية:
• الأسئلة الموجهة للسلطة التنفيذية.
• المهام والمناصب التي تقلدها.
• لقاءات ومؤتمرات
• مقالات.
• تصريحات.
• مقترحات القوانين.
في مراجعة للمعلومات الأخيرة المتاحة على الموقع لأعضاء مجلس الشعب للدور التشريعي الثاني 2016-2020، كان إلى جانب كل نشاط لكل من الأعضاء الرقم صفر 0، أي لم يكن لهم نشاط في هذه المجالات، على الأقل وفق المعلومات الموجودة على الموقع الرسمي، والاستثناءات الوحيدة كانت مشاركة بعض الأعضاء في لقاءات ومؤتمرات، وعدد أقل منهم كانت لديهم مقالات، عدا عن ذلك لم تكن لديهم أي نشاطات أخرى.
من الجدير بالذكر هنا تسليط الضوء على أنه لم يكن لأي من الأعضاء خلال هذه الفترة أي مقترحات لقوانين، بالرغم من أنه خلال الفترة ذاتها، صدر 226 تشريع، من بينها 76 قانوناً صدر عن مجلس الشعب– أي بنسبة 33,63% – ولم تأت أي من تلك القوانين التي صدرت عن مجلس الشعب من مقترحات من أعضائه، على الأقل وفقاً للمعلومات المتاحة، وليس واضحاً من هي الجهة التي قدمت مقترحات القوانين تلك.
كيف يتم «الانتخاب» فعلياً؟
إذا نظرنا تالياً إلى انتخاب أعضاء مجلس الشعب، يمكن البدء من الدستور. وفق المادة 60 من الدستور السوري الساري، «يحدد بقانون نظام انتخاب أعضاء مجلس الشعب وعددهم والشروط الواجب توافرها في المرشحين»، ووفق القانون 5 لعام 2014، أو قانون الانتخابات العامة، المادة 21 «يتألف مجلس الشعب من (250) مئتين وخمسين عضواً»، ووفق المادة 20 من القانون، «تعد كل محافظة دائرة انتخابية بالنسبة لانتخاب ممثليها أعضاء لمجلس الشعب عدا محافظة حلب التي تتكون من دائرتين انتخابيتين».
وفق المادة 62 من قانون الانتخابات العامة، «يسمح لوكلاء المرشحين المعتمدين التواجد في أماكن مناسبة في مركز الانتخابات، ويجب على لجنة مركز الانتخاب أن تدوّن أسماءهم وحضورهم في المحضر، وأن تمكنهم من مراقبة العملية الانتخابية وأن تسجل في المحضر أي ملاحظة أو أي اعتراض يبديه أي منهم فيما يتعلق بعمليات الانتخاب»، كما تنص المادة ذاتها على أنه «للمرشح أو وكيله ولوسائل الإعلام الحق في مراقبة العملية الانتخابية وحضور فرز الأصوات».
إذا نظرنا إلى قانون الأحزاب في سورية، والذي صدر بموجب المرسوم التشريعي 100 لعام 2011، فإنه وفق المادة 12 منه، الفقرة أ، يجب «أن يصل الحد الأدنى لعدد الأعضاء في الحزب إلى /1000/ عضو وأن يكونوا من المسجلين في سجلات الأحوال المدنية لنصف محافظات الجمهورية العربية السورية على الأقل على ألا تقل نسبة الأعضاء في كل محافظة عن 5 بالمئة من مجموع الأعضاء».
آخر انتخابات شهدتها البلاد وغطت كافة مناطقها كانت في عام 2012، حيث بلغ آنذاك عدد مراكز الاقتراع 12000 مركزاً. ما يعني أن الأحزاب التي لديها الحد الأدنى المطلوب من الأعضاء والتي أيضاً ليست ضمن قائمة الجبهة، لا يمكنها تغطية حتى 10% من مراكز الاقتراع في حال أرسلت كل واحد من أعضائها إلى مركز من مراكز الاقتراع لمراقبة عملية الانتخابات. هذا عدا عن المرشحين المستقلين، الذين ليست لديهم ارتباطات مع جهات قادرة على إيفاد وتمويل وكلاء عنهم إلى مراكز الاقتراع.
في حال أرادت هذه الأحزاب أو المرشحون المستقلون إرسال وكلاء عنهم إلى كافة مراكز الاقتراع، أي 12000 شخص، وإعطاءهم الحد الأدنى من الاحتياجات للساعات الاثنتي عشرة التي تجري خلالها الانتخابات– وفق المادة 64 من قانون الانتخابات العامة، «يبدأ الانتخاب في الساعة السابعة من صباح اليوم المحدد للانتخاب أو الاستفتاء، ويقفل في تمام الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم»- وهذه الاحتياجات بحدها الأدنى من الطعام والماء لعدد كافٍ من الوكلاء لتغطية كافة المراكز هو أكبر بكثير من القدرات المادية لأي حزب من الأحزاب ناهيك عن المرشحين المستقلين.
هذا كله يعني ما قلناه مراراً وتكراراً عن قانون الانتخاب الساري؛ هو قانون يسمح بوصول جهتين فقط إلى مجلس الشعب، أولئك المدعومين من جهاز الدولة، وقوى السوق التي تستطيع أن تضع بدل مندوب واحد في كل صندوق عدة مندوبين، ناهيك عن الحملات الإعلامية التي تقتصر على صور للابتسامات ومعها بضع كلمات تم صياغتها كشعار كيفما اتفق، وأما البرامج الحقيقية والفعلية، فعادة ما يحملها ويحاول ترويجها أولئك الذين لا يصلون إلى مجلس الشعب.
خلاصة:
ما يقوله الدستور، وما تقوله الأرقام والوقائع، هو أنّ مجلس الشعب في سورية لا يملك سلطة التشريع بشكل حقيقي، ناهيك عن سلطة المحاسبة، وفوق هذا وذاك فإنّ كيفية وصول أعضائه أي طريقة انتخابهم تحرم الغالبية الساحقة المسحوقة من السوريين من إيصال ممثلين حقيقيين لهم إلى هذه المؤسسة، وتفتح الباب على مصراعيه لقوى جهاز الدولة، وقوى المال للتحكم بالعملية من أولها حتى آخرها.
ليست تماماً «مسرحية»!
يعبر عدد كبير من السوريين عن قناعتهم بأنّ ما جرى في مجلس الشعب السوري قبل أيام، وما أثير من ضجة في وسائل التواصل الاجتماعي بالتوازي مع ذلك وقبله وبعد، لا يعدو كونه مسرحية مدارة هدفها «التنفيس».
لا يمكن لوم من لديه هذه القناعة، بأي حال من الأحوال؛ لأنّ الناس اعتادت خلال سنوات طويلة، وكلما ضاق الحال بها واشتدت قساوة الظروف، أن تتعالى بعض الأصوات من هنا أو هناك، إما عبر بعض البرامج الإعلامية، أو من بعض الإعلاميين والصحفيين، أو من داخل مجلس الشعب، ضد الفساد وضد سوء الإدارة وإلى ما هنالك.
كذلك اعتاد الناس في حالات الضنك وضيق الحال، أن تنتشر الإشاعات كالنار في الهشيم، مرة عن زيادة ضخمة في الأجور تحسن الأحوال وترفع المظالم وإلخ، ومرة عن حملة كاسحة لمحاربة الفساد لن تستثني أحداً وستقبض على أعناق شخصيات كبرى لا يجرؤ أحد على التلفظ بها علناً، ومرة أنّ هنالك حلاً يجري تحضيره لأزمة الكهرباء المستعصية، ومرة أزمة الوقود وهكذا… ولكن ما النتيجة؟ لا شيء. بل في أحسن الأحوال تكون النتيجة لا شيء، لأن ما يجري عادة هو أنّ:
• الأجور لا تتم زيادتها، وإن تمت فبنسبٍ هزيلة يبتلعها التضخم إلى الحد الذي تصبح فيه الرواتب بعد كل زيادة أقل قيمة شرائية مما كانت عليه قبلها.
• الفاسدون تتم ترقيتهم أو تبديل الطرابيش بينهم من منصب إلى آخر، وحتى إنْ تمت تنحية أحدهم، فإنّ الفساد نفسه يستمر ويتعمق.
• الزراعة يجري تدميرها عبر رفع الدعم عنها وخاصة عن المحروقات.
• الصناعة يجري تدميرها عبر رفع الدعم عنها وخاصة عبر الحرمان من الكهرباء، ناهيك عن التغوّل على من تبقى من الصناعيين.
• معيشة الناس وصحتها وتعليمها، كله يجري رفع الدعم عنه وترك الناس لمصيرهم الأسود.
يمكن أن نستمر بالعد والتعداد، ولكن نكتفي بالإشارات السابقة.
لهذه الأسباب كلها، لا يمكن لوم الناس على النظر إلى ما جرى الأسبوع الماضي على أنه مسرحية، ومسرحية مكررة، هدفها التنفيس.
ولكن!
ولكن، ينبغي الانتباه إلى أنّ ما جرى ليس مسرحية، على الأقل ليس مسرحية مكررة؛ إذ إنّ هنالك عناصر جديدة في اللوحة يجب فهمها؛ فالمعتاد في حالات مشابهة أنّ تجري حملة هجوم على الحكومة ويفتح الباب على مصراعيه في الإعلام ووسائل التواصل لتناول الحكومة وأعضائها وتحميلهم مسؤولية كل ما جرى ويجري، وربما يساهم مجلس الشعب أو بعض من أعضائه في هذه الحملة، وتنتهي الأمور إلى تعديل حكومي جزئي أو كلي، يبدو وكأنما هو الحل السحري، بحيث تذهب الحكومة وتذهب معها المسؤوليات عن الأخطاء السابقة، ويتم «فتح صفحة جديدة»… والحق، أنّ السياسات العامة تبقى نفسها، ولذا يتعلم الناس مع الوقت أنّ ما جرى هو مسرحية… ولكن ما الجديد هذه المرة؟
الجديد هو أنّ الحكومة هي من كانت تحاسب مجلس الشعب، وعبره تحاسب الشعب نفسه، و«تفهمه» أنّ ما تفعله هو الشيء الوحيد الصحيح الممكن، وأنها ستتابع القيام به، بل وستسرع الخطوات في إنجازه؛ والمقصود بالدرجة الأولى هو استكمال عملية رفع الدعم نهائياً، وليدبر كل إنسان نفسه، فالحكومة والدولة عموماً ليست مسؤولة عن الناس، الناس مسؤولون عن أنفسهم ونقطة انتهى.
ينبغي النظر بجدية إلى هذا «التعديل» في السيناريو المعتاد؛ فهو يحمل دلالات هامة حول ما ينتظر السوريين في الأشهر القادمة…