القاهرة – آية أمان – قضايا العرب
(خاص “عروبة 22”)
الجمعة 11 آب 2023
“ندرة غير مسبوقة ووضع حرج”.. ذلك هو التوصيف الأكثر تداولاً في الأوساط الرسمية والأكاديمية والشعبية لحالة الموارد المائية في العالم العربي، هذه الندرة ليس منبعها حالة التصحر والجفاف أو تغيّر المناخ وارتفاع درجات الحرارة فقط، بل يظل تأمين إمدادات المياه القادمة من خارج الحدود العربية هو التحدي الأمني والسياسي الأخطر من أجل حماية الأمن المائي العربي.
تشتد أزمة المياه ضراوة في العراق “بلاد الرافدين”، فتوثق عشرات الصور ومقاطع الفيديو المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي الجفاف القاحل من الأراضي التي تشقّقت عطشًا، ومسارات جافة لمنابع المياه، وآلاف السكان مصطفّين على مراكز الخدمات الصحية نتيجة إصابات “التيفود” وغيره من أمراض تلوّث المياه، فضلًا عن قطعان الماشية النافقة، ليسجّل العراق هذا العام أسوأ وأخطر أزمة مائية غير مسبوقة، فالأرقام تشير إلى زيادة مساحة التصحّر لنحو 80% من مساحة العراق.
على رأس المعاناة تقبع منطقة الأهوار العراقية الممتدّة لمساحة 2863 كيلومترًا، غربيّ نهر دجلة- والتي وصفتها منظمة اليونيسكو بأنها فريدة من نوعها كونها أكبر المسطّحات المائية الداخلية في العالم في بيئة جافة وشديدة الحرارة بما جعلها موقعًا تاريخيًا لحضارة ما بين النهرين. إذ استسلم 70% منها للجفاف القاحل وانعدام المياه وزيادة الملوحة، وهي ظروف دفعت سكان الأهوار إلى النزوح الجماعي والهجرة من محافظات ميسان وذي قار والبصرة إلى المحافظات الشمالية ودول الجوار بحثًا عن المياه وسبل العيش الآمن، لتتحوّل الاستجابة الحكومية في العراق لمحاولة توفير المياه للسكان، إلى محاولات السيطرة على هجرة الأهواريين.
التحذيرات تتوالى: القادم أسوأ
يصف البنك الدولي المنطقة العربية بأنها الأكثر جفافًا في العالم… فـ”هناك 12 بلد عربي من بين أكثر بلدان العالم ندرةً للمياه، منها الجزائر والأردن وليبيا والأراضي الفلسطينية وتونس واليمن إضافةً إلى دول الخليج العربي”، لتسجًل المنطقة بذلك أعلى معدل لفقدان احتياطي المياه العذبة على وجه الأرض، ومن المتوقع أن ينخفض نصيب الفرد من المياه إلى النصف بحلول عام 2050 مع تعثّر الحكومات في توفير مصدر آمن ومستدام من المياه مع ارتفاع معدلات نمو السكان وزيادة الطلب على الموارد المائية الشحيحة وتصاعد تكلفة المياه غير التقليدية.
سكّان الوطن العربي يحصلون على 1% فقط من المياه العذبة في العالم
وتدقّ الأمم المتحدة ناقوس الخطر، محذرةً في تقرير حديث من تفاقم أزمة الأمن المائي في المنطقة العربية، حيث يفتقر ما يقرب من 50 مليون شخص في المنطقة العربية إلى مياه الشرب الأساسية.
ويحذّر محمود أبو زيد رئيس المجلس العربي للمياه من خطورة الوضع المائي في المنطقة، لافتًا إلى أنّ الوضع سيزداد سوءًا مع زيادة عدد السكان. ويقول لـ”عروبة 22″: “يسكن في الوطن العربي 5% من سكان العالم، يحصلون على 1% فقط من المياه العذبة في العالم.. وتفتقر الدول العربية لوجود الأنهار العذبة فيما عدا مصر والسودان والعراق وسوريا والصومال، وجميع تلك الأنهار تأتي من خارج الحدود العربية، حيث تحصل المنطقة العربية على 60% من مواردها المائية من خارج حدودها”.
في الصومال، كان جفاف نهر شبيلي – أطول الأنهار الصومالية – والذي كان يغذي 130 ألف كم من الأراضي الزراعية جنوب الصومال، سببًا في أزمة مياه حادة للسكان القرويين في مناطق الأقاليم السفلى والوسطى وهيران، ويعيد خبراء جفاف هذا النهر إلى إقامة إثيوبيا لـ 4 سدود على منابع شبيلي، وهو ما ساهم في وضع الصومال تحت خطر التهديدات المتزايدة بسبب الجفاف الذي تسبّب في تدهور الأوضاع الإنسانية وانتشار العنف ومن ثمّ عدم الاستقرار السياسي.
دول المنبع وإدعاء الحق السيادي
أما مصر وهي الدولة العربية الأكبر من حيث عدد السكان، فتقف على أعتاب أزمة مياه لا تقلّ شراسةً عن تلك التي تعاني منها العراق والصومال، فإلى جانب مؤشرات ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدلات الأمطار ما جعل مصر أكثر الدول الأفريقية جفافًا، لا يزال الجمود في ملف سد النهضة الإثيوبي يشكّل خطرًا على مستقبل إمدادات مياه النيل (تشكل 97% من إجمالي المياه المتاحة في مصر) فيما تبدو المسارات الدبلوماسية والسياسية معطّلة بسبب تعنّت إثيوبيا وتمسكها بما ترى أنه حقّها في تخزين المياه واستغلالها باعتبار أنها ضمن نطاق سيادتها، كما تدعي تركيا وإيران في نهري دجلة والفرات.
النموّ السكّاني والضغط على الموارد المائية سيؤديان إلى تصنيف جميع الدول العربية “تحت خط الفقر المائي”
ويشير أبو زيد إلى أنّ النموّ السكّاني المتزايد في العالم العربي، والضغط على الموارد المائية المحدودة سيكونان سببًا في “تصنيف جميع الدول العربية تحت خط الفقر المائي المحدّد عالميًا بـ1000 متر مكعب للفرد في العام، فنصيب المواطن في الأردن لا يتعدى 200 متر مكعب فقط، بينما انخفض نصيب الفرد في مصر إلى أقل من 500 متر مكعب”.
إلى جانب التغيّرات المناخية وتأثيراتها المحتملة على انخفاض معدلات الأمطار وزيادة الجفاف والتصحّر، تبقى قضية المياه العابرة للحدود هي التحدي الأكبر في تأمين مصادر المياه العذبة في الوطن العربي، بالنظر إلى حالة مصر والعراق وسوريا والسودان والصومال، ونجد أنّ سياسات دول المنبع على أنهار النيل ودجلة والفرات وشبيلي الخطر الأكبر على تأمين إمدادات المياه وحماية الحصص التاريخية المقرّرة لشعوب هذه الدول باعتبارها دول مصبّ.
انتهزت كلّ من إيران وتركيا حالة الفراغ والارتباك في العراق
خططت تركيا منذ عام 1974، لبناء 22 سدًا على نهري دجلة والفرات بهدف الري وتوليد الطاقة الكهرومائية، يضاف إلى ذلك مشروعات السدود الإيرانية العشرة والتي بدأ تنفيذها عام 2000 على روافد نهر دجلة وتغيير مسارات المجاري المائية للأراضي الإيرانية، وقد تسببت تلك المشروعات في خفض تدفقات المياه إلى العراق بأكثر من 50% فضلًا عن تدمير محافظات عراقية زراعية مثل ديالى. حيث أقيمت هذه المشروعات دون تنسيق أو إخطار مسبق مع حكومة العراق، بعد أن ادّعت كل من تركيا وإيران أنّ استغلال الأنهار حق سيادي لدول المنابع، وانتهزت الدولتان حالة الفراغ والارتباك الذي ساد العراق خلال العقود الأخيرة، ما يُعدّ خرقًا لقواعد القانون الدولي المنظّم للمجاري المائية عابرة الحدود.
الخطر المرتقب من “سد النهضة”
وفيما يخصّ نهر النيل الذي يمدّ مصر والسودان بالنصيب الأكبر من حاجاتهما للمياه، تهدّد سياسات إثيوبيا، كدولة منبع لحوض النيل الشرقي، مستقبل إمدادات المياه التي يتم تخزينها خلف السد العالي في مصر، كما إنّ ملء السد دون إشراك الخرطوم في إدارة عمليات الملء والتخزين يضع نصف سكان وسط السودان الذين يعتمدون على سدَّي الروصيرص ومروي لريّ أراضيهم وتوليد الكهرباء في وضع خطر.
وتمضي إثيوبيا في خطة بناء سد النهضة وتخزين المياه فيه للعام الرابع على التوالي دون التنسيق مع مصر، وتعتمد سياسة المماطلة في أيّ مسار دبلوماسي من شأنه الوصول إلى اتفاق شامل وملزم لقواعد تشغيل وتخزين المياه في السد، إذ تكشف تصريحات المسؤوليين الإثيوبيين عن إيمانهم بمبدأ السيادة وحق الاستغلال الكامل لمياه النيل باعتباره “نهرًا إثيوبيًا”، دون أن يضعوا في الاعتبار حقوق دولتي المصب في مصر والسودان.
لم يكن لجامعة الدول العربية دور ملموس في حماية إمدادات المياه من خارج الحدود العربية
في البحث عن مخرج لحماية المياه العربية، أعدّت جامعة الدول العربية منذ 2004 استراتيجية للأمن المائي العربي حتى 2030، تستهدف توفير مياه الشرب النظيفة للسكان والإدارة المتكاملة للموارد المائية، لكن طوال هذه الفترة لم يكن للجامعة دور ملموس في حماية إمدادات المياه التي تأتي من خارج الحدود العربية عبر دعم مواقف الدول العربية في المواجهات مع دول المنبع مثل تركيا وإيران وإثيوبيا.
جفاف في الصومال والعراق… وقلق في مصر
وتتجه عدة الدراسات إلى أنّ مسارات الدبلوماسية المائية هي الحل الأمثل من أجل التنسيق والتعاون بين دول المنبع والمصب بهدف الإدارة المتكاملة للمياه في الأنهار العابرة للحدود، لكن في حالة الوطن العربي تظلّ اعتبارات القوة والهيمنة المائية واستغلال ما تمرّ به دول المنطقة من اضطرابات هي سبيل دول المصب لاستغلال مياه الأنهار، وهو ما بدأت تركيا في ممارسته على نهري دجلة والفرات منذ ثمانييات القرن الماضي وتمارسه إثيوبيا الآن.
في وصفه لوضع نهر شبيلي الذي كانت مياهه تفيض على سكان القرى جنوب الصومال يقول مزارع صومالي: “تحوّلت مياه النهر إلى رمال” وهو ما حدث في مناطق عديدة في العراق حيث يعبر المواطنون مجرى نهر دجلة “سيرًا على الأقدام”، وهو ما ينذر بحالة من القلق خوفًا من تكرار تلك المشاهد في مصر.
وتواجه الوطن العربي مجموعة من التحديات التي ترتبط بأداء الأنظمة السياسية والوزن والثقل الاستراتيجي لدوله في إدارة ملف المياه وتأمين حصصها المائية التي تحصل عليها من خارج أراضيها وفق ما يقرّه القانون الدولي، وتحفيز المنظمات العربية والدول العربية الفاعلة ذو القوة الاقتصادية بدعم الدول العربية المتضررة ليس من أجل تأمين إمدادات المياه العذبة فقط، ولكن لحماية المنطقة العربية من مخاطر أمنية أكبر تتصاعد مع تدهور أوضاع المزارعين وزيادة الفقر والهجرة ومن ثم انتشار الإرهاب باستغلال حالة الضعف الأمني كما حدث من قبل “داعش” في سوريا والعراق وحركة “شباب المجاهدين” في الصومال.