إبراهيم نصر الله
“القدس العربي”:
الخميس , 11 أبريل , 2024
ما زالت آلة الحرب الإسرائيلية تحصد أرواح الأبرياء من الأطفال والنساء في قطاع غزة
يُورد الشاعر خالد جمعة، ابن غزة، على صفحته في الفيسبوك، حكاية يبتكرها، تقول، إن أحد الخلفاء قَتَل معارضا له، وبعد أن اطمأن على إخفاء أثره تماما، في ليلة لا ضحى لها، أعلن بين الناس أن كل من سيأتي إليه بشيء يخص القتيل، سيمنحه مبلغا كبيرًا من المال، وهكذا، جاء بعض الناس بكتاب للقتيل، وجاء آخرون بسجلّ ما، وجاء أحدهم بخاتم عليه اسمه، وجاء آخر بورقة عليها توقيعه، وهكذا لم يعد لذلك المغدور وجودًا، وظل الأمر كذلك سنوات وسنوات، إلى أن عثر أحدهم في أحد أديرة دمشق على وثيقة تثبت وجوده، وتثبت أن ليس كل من عاش في عهد ذلك الوالي كان منقادا له وراضيًا بظلمه.
يذكّرني هذا، ما دمنا نتحدث عن الثقافة والظلم والاستبداد، سواء كان احتلالا أو طغاة أو غيره، بذلك الحديث الشريف: “أعظم الجهاد كلمة حقّ في حضرة سلطان جائر”، وإذا كانت منزلة الكلمة رفيعة إلى هذا الحد، فما هو حجم رفعتها حينما تقال بوضوح وشجاعة في وجه قوة فاشية عنصرية كالكيان الصهيوني؟ وإذا كانت منزلتها رفيعة هكذا، فما الذي يمكن ان يقال في وصفها وعي تقارع في هذا الزمان سلاطين جائرين لا حصر لهم، ولا حصر لسادتهم من سلاطين هذا الكون المكبّل، لا بالقيود والسجون والحواجز وحسب، بل بالبوارج وحاملات الطائرات والطائرات الخفية والقنابل النووية والبنوك وانعدام الأكسجين حيث تطبق أيديهم بعنف على أعناق الأوطان والكواكب، وأولها هذه الأرض.
أعادني هذا إلى حجم الاستخفاف بالكلمات الذي يطلُّ برأسه بين حين وحين في حالات العجز التي تهبّ على قطاعات من شعوبنا، بحيث يُستهان بالكلمة والفنون ويُسخّف دورها، في حين أن التجارب علمتنا دائما أن الطغاة لا يستهينون بها أبدا، حتى على المستوى اليومي، فقد قرأت جملة رائعة لمدوِّنة على صفحتها تحث فيها الناس أن يقولوا ما لديهم، أن يصرخوا، فكتبتْ “لو لم تكن كلمتك مؤثرة وتقلقهم، لما أغلقوا صفحتك”.
كل استعمار وكل قوة باغية قائمة على فكرة المحو، ومن الغريب أنه في حالات كثيرة يبدأ المحو بمحو التاريخ، تاريخ شعب ما، أو تاريخ فرد ما، كما حدث مع ذلك المعارض للخليفة، أو في تاريخنا شبه القريب مع ظاهر العمر الزّيداني الذي سعى لتشكيل أول كيان فلسطيني في القرن الثامن عشر، ولذا كانت المصادر التي تناولت سيرته قليلة جدا، وقد لاقيتُ، شخصيًّا، صعوبة كبيرة، كلّفتني بحثا طويلا لسنوات، قبل أن أتمكّن من كتابة رواية “قناديل ملك الجليل” عنه، وهو شخصية كبيرة كانت تستحقّ عشرات الروايات والأفلام والمسرحيات لو وجِدَتْ البحوث الكافية.
القوة الغاشمة ليس لها من وسيلة لتُحقق حضورها وتوسِّع نفوذها إلا بأن تتغول أكثر وأكثر، وأن تلتهم كل ما في طريقها. بمعنى أن تُبيد، البشر وتاريخهم، وكلما جعلت البشر أقلية في المكان الذي تنوي احتلاله، أصبح قتلُهم أسهل لأن خفضَ أعدادهم هو المعنى الحقيقي لتهميشهم، وبالتالي التخفّف منهم تلقائيّا، وبصمت أكثر عماء.
الإبادة في حياة الشعب الفلسطيني، من هذا المنظور، إبادة مستمرة، منذ أول اجتماع صهيوني تقرّر فيه احتلال فلسطين، بل إن تلك الفكرة كانت بؤرة الإبادة الأولى، التي رسخت فكرة الإبادة المتواصلة في ما بعد. وبقدر ما هي إبادة هنا للشعب، بقدر ما هي إبادة لثقافته، ولكن إذا كانت الفكرة الصهيونية الأولى هي الإبادة، فإن الفكرة الفلسطينية المضادة، إلى جانب وجود شعب الفلسطيني على أرضه، هي الثقافة الفلسطينية التي تملك رموزها وحضورها اليومي، من تقاليد وعادات وموروث وطعام ولباس ومعالم تاريخية ودينية، وأسماء لها حضورها في اللغة والتاريخ والثقافة الإنسانية، لذا ليس من الصعب أن نتخيل الأهمية القصوى التي أوْلاها الصهاينة لتغيير اسم فلسطين أولا، ثم تغيير أسماء قراها ومدنها بتشكيل لجنة خاصة لذلك قبل النكبة بعشرات السنوات، وصولا إلى محوهم الفعلي لأكثر من 450 قرية وبلدة فلسطينية عن وجه الأرض.
أوْل الاحتلالات احتلال الاسم، (تذكرون اسم “العالم الجديد” الذي ابتكره الغزاة الأوروبيين لوطن السكان الأصليين وحضارتهم)، تمهيدا لاحتلال المكان، ونفي البشر منه حتى قبل نفيهم، أي تصويرهم بأنهم سكان، وليس أصحاب المكان المستهدف.
الثقافة الفلسطينية كان رائية وواضحة في فهمها لبدايات الإبادة هذه، وعلى المستوى الفكري والصحافي لعب نجيب نصار، وسواه، دورا مذهلا في هذا المجال، وقد طُورد واعتقل وأغلقت صحيفته: الكرمل. وفي زمن كان فيه الشِّعر هو الأكثر تأثيرا كانت قصائد الشعراء هي الأكثر حضورها والأسهل وصولا وتأثيرا، وبدا أن الأدب، إلى جانب البندقية، هو الوجه الأجمل والأقوى للوقوف في وجه فكرة الإبادة، التي قد تكون في البداية إبادة لفرد أو مجموعة أفراد، ولكن مجموعهم في النهاية هو ما يطلق عليه الإبادة الجماعية، والصهاينة لم يتوقفوا عن ممارسة هذه الإبادة، بمختلف صورها الثقافية والبشرية يومًا واحدًا؛ لذا نعود ونقول إن الإبادة الجماعية لم تبدأ بغزة، بل بدأت واستمرّت منذ ما قبل النكبة بزمن طويل.
حين أعدم الانجليز عطا الزّير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، ولِدوا الثلاثةُ ثانيةً، ولكن في هذه المرة ليس من أرحام أمهاتهم، بل من رحم القصيدة الشهيرة- الأغنية:
من سجن عكا وطلعتْ جنازة.. محمد جمجوم وفؤاد حجازي.
هذه القصيدة ضمنت لهم عمرا يفوق العمر الطبيعي الذي كان يمكن أن يعيشوه مرَات ومرَات، ولكن القصيدة ما كان لها أن تعيش لو لم تحمل الشهداء الثلاثة وفكرتهم أيضا، عن الوطن والحرية والكرامة والتضحية، لقد حملتْ القصيدة الفكرة الأولى المتمثلة فيهم، وحملوا القصيدة بدوْرِهم، وما كان يمكن أن يحدث هذا لو كانت تلك القصيدة ضعيفة، وكل ضعيف يسهل قتله، والتخفّف منه، بفعل المحتل أو بفعل الزمن.
وهكذا، بالفن، وبالكلمات، استمروا، وأثبت الفن والحياة معا، أن الفلسطيني الذي يقاتل ويُستشهد لا يمكن أن يتوقف عن مواصلة قتاله حتى بعد أن يُدْفَن.
تلك القصيدة باتت جزءا من ثقافتنا، وجزءا من تراثنا ونضالنا، أمس واليوم وغدًا، اختلف الباحثون حول اسم شاعرها، واتّفق الشعب الفلسطيني على قوة حضورها فيه.
وبعد:
من هنا نفهم، ونحن نتحدث هنا عما قبل النكبة، قصيدة “الثلاثاء الحمراء” عن الشهداء أنفسهم، التي كتبها إبراهيم طوقان، وقصيدة أبو سلمى:
أنشر على لهب القصيد شكوى العبيد إلى العبيد
وقصيدة الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود:
سأحمل روحي على راحتي. وألقي بها في مهاوي الرّدى
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العِدا