إعلان المحافظات اﻷربع مناطقَ منكوبة جاء بعد أربعة أيام على كارثة الزلزال، وربما بعد ضغوط خارجية، وهذا التأخير لوحده كان سبباً لفرملة الاندفاع العربي والدولي تجاه دمشق، ليأتي عدم إعلان الحداد العام على ضحايا الزلزال سبباً ثانياً، على الرغم من أن العدد الاجمالي للضحايا السوريين بلغ قرابة عشرة آلاف أنسان أو أكثر في كامل البلاد.
كمال شاهين – كاتب من سوريا
السفير العربي
2023-02-25
الدمار في شمال غرب سوريا
بقدر عالٍ من اليقين، يمكن القول إنّ كارثة زلزال السادس من شباط / فبراير الجاري – الذي ضرب عشر ولايات تركية جنوبية وأربع محافظات سورية شمال وغرب البلاد (إدلب وحلب وحماة واللاذقية) وأوقع ضحايا فاق عددهم حتى الساعة خمسين ألفاً – هذه الكارثة لم تنجح بتغيير الصورة السيئة للحكومة السورية (الحكومات تجاوزاً تبعاً للسيطرة على اﻷرض) لدى مختلف السوريين، داخل البلاد وخارجها.
يضاف هذا الفشل إلى سجل العجز والفشل المقيمين في إدارة البلاد والعباد منذ عهد كارثة أخرى لا تقلّ فجاعة عن كارثة الزلزال، نعني تبعات الحراك الذي انطلق العام 2012، متصاحباً مع أزمة وجودية مستمرة حتى اليوم. وهو ما ترك آثاره على الاستجابة المتوقعة لحدث كالزلزال، وأساسها تمرّغ سيادة البلاد في وحول التصارع الدولي واﻹقليمي عليها.
في اليوم السابع للكارثة قصفت “إسرائيل” مواقع في العاصمة دمشق، فيما نُقلت أنباء عن حدوث اشتباكات عسكرية بين أطراف محلية في مناطق إدلب في اليوم الثامن.
وفيما تباطأت الاستجابة اﻹنسانية (الدولية والعربية)، والتي وصلت ذروتها بعد أسبوعين من الكارثة، بما لا يتجاوز عدداً من طائرات المساعدات والقوافل المماثلة من بلدان عربية مجاورة، ومساعدات مالية وإغاثية أممية (لم تصل إلى مئة مليون دولار) برعاية اﻷمم المتحدة وتصرّفها، خابت “اﻵمال العريضة” التي عوّل عليها النظام والمعارضة بغاية تحريك الوضعية السورية الساكنة من الجهة السياسية ، إذ لا تغيير يذكر في وضعية النظام السوري. كما فشلت المعارضات، من ناحيتها، خاصة المسيطرة على مناطق إدلب وغرب حلب، في الدخول في قلب حدث الكارثة كلاعبٍ رئيسي، حيث إنّ ما أصاب تركيا من كارثة ودمار وانشغال أبعد رعايتها عن المتناوَل، كما خلق وضعيات جديدة للنظام التركي قد تدفعه أكثر نحو دمشق بهدف التخلص من عبء إغاثة ورعاية مناطق إدلب وغرب سوريا، والنازحين السوريين في الأراضي التركية.
آمال النظام السوري المتبخرة دولياً (أميركياً بصفة خاصة) لا ترتبط فقط بأسباب تلك الدول وعلاقتها المقطوعة مع دمشق منذ دهر، بل ﻷن دور الدولة السورية نفسه كان موضع جدال عند السوريين أنفسهم أثناء الكارثة ولاحقاً بعد الانتقال من المرحلة اﻹسعافية إلى مرحلة اﻹغاثة وما بعدها، وهي المرحلة الأهم بعد الكارثة، فهو بكلمات مختصرة: لم يرتق أبداً إلى مستوى ما حدث.
سمات استجابة الحكومة /الحكومات السورية
منذ الساعات اﻷولى لكارثة الزلزال ظهر أنّ إعلام دمشق الحكومي تعاطى مع الكارثة من منطق “لا حول ولا قوة إلا بالله”، أي أنه لا يمكن فعل شيء إزاءها، فهي “قضاء وقدر” وعلينا تقبلها على هذا اﻷساس. وفي اﻷيام التالية تجاهل اﻹعلام ومعه الحكومة (وهذه الأخيرة هي الأصل) إلقاء أي لوم على أي مؤسسة حكومية لتأخرها في الاستجابة السريعة للحدث، وتفادى أيضاً أي حديث عن ترهل عمل هذه المؤسسات وضعف ـ إن لم نقل عدم ـ استجابتها لنداءات الاستغاثة المتكاثرة من السوريين في كل أنحاء سوريا، خاصةً ما ارتبط بوقائع انهيارات الأبنية خلال اﻷيام الثلاثة التالية لحدث الزلزال.
إعلامياً وحكومياً، ظهر أنّ هناك توجهٌ غير معلن للتبرير بطريقة “ليس باﻹمكان أحسن مما كان”، فحتى “الدول الكبرى تعجز عن التعامل مع مثل هذه الكوارث”. وبعدها مباشرةً وبكثافة تمّ تداول حديث العقوبات الدولية واﻷميركية وقانون “قيصر” في تبرير عدم قدرة الجرافات الوصول إلى مواقع انهيارات اﻷبنية التي كان محتملاً وجود أفراد ناجين تحتها.
كانت الحكومة ومؤسساتها وصانعو القرار فيها وكأنهم “مذهولون” أكثر من الناس الذين تعرّضوا لحدث الزلزال نفسه. ومع أنّ الجزء الغربي من سوريا يقع على فالق زلزالي وحدثت بجواره زلازل وهزات حتى فترة قريبة، فالسلطات عبر هذه السنوات الطوال لم تأخذ الموضوع بعين الاعتبار ولا الاهتمام الفعلي. وليس لدى سوريا أصلاً ما يمكن تسميته “إدارة الكوارث” وليس هناك صندوق وطني للكوارث!
في اليوم الرابع للكارثة، وبعد عقد على الحرب السورية، سمعنا بشكل رسمي، ﻷول مرة، إقرار مجلس الوزراء السوري إحداث “صندوق لإعادة تأهيل المناطق المنكوبة”. وحتى اليوم، لا يزال هذا الصندوق غير موجود ﻷنه بحاجة إلى مرسوم رئاسي ﻹحداثه، كما أنه “بعد البحث لم يُعثر على أيّ نص قانوني في التشريعات السورية يُعرّف مصطلح “المناطق المنكوبة” أو يحدد تبعات الإعلان عنها والمستند القانوني لتمويل عمليات الإغاثة وتعويض المتضررين ضمنها، ليُستند عليها في إحداث الصندوق. وحتى قرار إحداث “اللجنة العليا للإغاثة” الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء، لم يتضمن توضيحاً عن كيفية تأمين تمويل قرارات هذه اللجنة (بحسب أحد المحامين المعنيين بهذا الجانب).
تخبّط حكومي آخر وضحت آثاره في قرارَيْن متتابعين صدرا في يومي الزلزال التاليين، اﻷول رفع أسعار المازوت الصناعي، مما يعنى ارتفاع سعر كل المنتجات المرتبطة، والثاني، وهو المتعلق بالزلزال ووقائعه، هو أنّ الحكومة لن تعوّض الناس عن أضرار منازلهم المهدومة والمتصدعة، وأنّ الترميم سيكون على حساب الناس، وفق ما تناقلته الصفحات الزرقاء بناء على تصريحات رسمية تمّ سحبها لاحقاً. وهذا يشكّل مخالفة واضحة للمادة “24” من الدستور السوري التي تنص على “أنّ الدولة تكفل بالتضامن مع المجتمع اﻷعباء الناجمة عن الكوارث الطبيعية” فيما تشير المادة “22” إلى أنّ “الدولة تكفل كل مواطن وأسرته في حالات الطوارئ”. ولاحقاً حاول وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك القول إنّ الحكومة تدرس الوضع القانوني للأبنية الفارغة (دون تحديد نوعية ملكيتها) لبحث إمكانية إيواء المتضررين فيها “مؤقتاً”، دون أن يحدث ذلك بعد أسبوعين على الكارثة، ومعظم الخارجين من بيوتهم المتهدمة على قيد الحياة، وُضعوا في مراكز إيواء مؤقتة (مساجد وكنائس وملاعب وصالات) ليست بأحسن أحوالها.
مراكز اﻹيواء نفسها التي اتخذها الناس على عجل، هي لوحدها حكاية. صحيحٌ أنها أفضل من الخيم التي غطّت مناطق إدلب وغرب حلب (هذه أيضاً لم تتوفر أحياناً)، إلا أنها بدت أشبه بمعسكرات ضمّت المتضررين وغيرهم من غير المتضررين الباحثين عن المساعدات الغذائية والإغاثية. وحتى بعد أسبوع من الكارثة لم يتوفر مستند رسمي للمقيمين في مناطق اﻹيواء نفسها يؤكّد تضررهم. وهذا التخبّط تسبب في كثير من اﻹشكالات على أرض الواقع.
نحو مزيد من الشقاق في البلاد
كان اﻷكثر إثارة للاستفزاز أنه في اﻷيام اﻷولى ﻹعلان حكومة دمشق عن أرقام الضحايا، تجاهلت ذكر محافظة إدلب وكأنها خارج المساحة الجغرافية السورية، وهذا ما فعلته مثلاً وزارة الصحة في دمشق في إعلانها أرقام الضحايا شاملةً فقط (حلب وحماة واللاذقية)، وفي العديد من البيانات الصحافية ﻷرقام الضحايا التي صدرت عن الحكومة في دمشق، لم تتم اﻹشارة إلى إدلب إلا بعد موافقة دمشق على الطلب الدولي بفتح المعابر مع المنطقة الخارجة عن سيطرة الدولة السورية (إدلب وغرب حلب).
في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة الموالية لتركيا لم تكن “حكوماتها” على قدر ولو طفيف من المسؤولية لا على اﻷرض، ولا على مستوى اﻹعلام، تجاه كارثة إنسانية حقيقية. ولولا مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات اﻹغاثة المحلية، وعددها التقريبي خمسون منظمة ومبادرة وجمعية، لكان الوضع أسوأ بكثير.
أما الأداء السياسي والإعلامي للأطراف السورية، فقد دفع باتجاه زيادة الشرخ في البلاد عبر استخدام الكارثة لتحقيق مكاسب آنية على حساب اﻷطراف اﻷخرى. وعلى الرغم من حجم الكارثة الكبير الذي كان يفرض كسر التخندق السياسي والعسكري، فإنّ التعاطي الحكومي والتعاطي المقابل له من جماعات المعارضة، لم ينجح في تغيير معادلة التوازن اﻹجباري على اﻷرض، فقد تم افتتاح طريق للمساعدات من دمشق إلى مناطق إدلب بضغط عربي (إماراتي) وروسي، كما أنّ حالات متعددة من العنصرية تجاه المتضررين في مختلف المناطق ظهرت بوضوح في خطاب الطرفين، ولو أنّ الغالب كان وجود تعاطف كبير بين الناس تجاه بعضهم البعض.
إعلان المحافظات اﻷربع مناطقَ منكوبة جاء بعد أربعة أيام على كارثة الزلزال، وربما جاء بعد ضغوط خارجية، وهذا التأخير لوحده كان سبباً في فرملة الاندفاع العربي والدولي تجاه دمشق، ليأتي عدم إعلان الحداد العام على ضحايا الزلزال (وقد أعلنته تركيا منذ اليوم اﻷوّل للكارثة) سبباً ثانياً، على الرغم أن العدد اﻹجمالي للضحايا السوريين بلغ قرابة عشرة آلاف أنسان أو أكثر في كامل سوريا (والعدد غير دقيق).
من أبرز التخندقات السياسية التي حصلت في سوريا خلال اﻷيام اﻷولى والتي عززت الانقسام في المجتمع السوري، رفض كلٍّ من دمشق والمعارضة في شمال غرب البلاد، قبول قوافل مساعدات جهزتها اﻹدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. كما أنّ بعضاً من هذه القوافل تمّ تغيير صفتها إلى “مساعدات العشائر” حتى تعْبر مناطق السيطرة إلى مناطق دمشق، في حين أثمر الضغط التركي على ما يبدو في منعها من الدخول إلى مناطق إدلب.
الشعب يتفوق على الحكومة/ ات
بعد مضي أسبوعين على الكارثة، لم يكن هناك ـ مثلاً ـ إحصاءات متوافرة بدقة عن أعداد المنازل المدمّرة أو تلك المتصدعة أو المنازل التي أخليت من سكانها، وهذا أوقع الناشطين الميدانيين في كثير من اﻷخطاء والتكرارات في عمليات اﻹسعاف والإغاثة كان يمكن تجنبها بتوفير منصة معلومات تُحدّث كل ساعة على اﻷقل.
وفيما لم تكشف الحكومة عن خطة عملها، مكتفيةً بتحديد خطوط عريضة من قبيل انتهاء المرحلة اﻹسعافية والانتقال إلى مرحلة ما بعد الكارثة بعد مضي أسبوع على الأقل على الكارثة، فإنّ الشفافية غابت كلياً عن طريقة تعامل الحكومة مع المرحلة التالية للزلزال: فماذا سيكون مصير المنازل المدمّرة وكيف سيتم تعويض أصحابها (إن حدث أصلاً)، هل سيتم تشييد أبنية جديدة وآمنة بدل كل مبنى تهدم في الزلزال؟ وما مصير المساعدات التي قُدمت للشعب السوري وبلغت عدة مئات من اﻷطنان بواقع أكثر من مئتي طائرة هبطت في مطارات دمشق وحلب واللاذقية. كل هذا يبقى في إطار المجهول. على سبيل المثال، حين سُئِل وزير اﻷشغال العامة في حكومة دمشق، في مؤتمر صحافي، عما إذا كان سيتم دفع تعويضات لمتضرري الزلزال، لم يؤكد ذلك ولم ينفه في الوقت نفسه، وأشار إلى فكرة وجود قروض للترميم من قبل البنوك السورية!
على الجهة اﻷخرى من المشهد السوري، تحرّك المجتمع السوري بمبادرات فردية ومدنية لتجاوز حالة غياب جهاز الدولة في عمليات اﻹنقاذ واﻹسعاف واﻹغاثة، فظهرت على مساحات المدن والقرى المنكوبة مبادرات (أفراد وجمعيات مجتمع أهلي ومدني) تحركت من خلال علاقاتها مع المجتمع في عمليات اﻹغاثة، حيث اضطر كثير من الناس في كثير من المناطق إلى البحث والعمل في اﻷنقاض بأيديهم بسبب قلة المعدات والتركسات وغياب الوقود اللازم لتشغيلها. ومثاله اﻷكثر إيلاماً في محافظة اللاذقية، كان في منطقة اسطامو (20 كم عن اللاذقية)، حيث انهار أربعة عشر بناء في اليوم اﻷول للزلزال مخلفاً على الأقل خمسين ضحية وعدداً كبيراً من المصابين، وتأخرت فرق الإنقاذ في الوصول حتى اليوم الثالث وفق ناشطين وشهود هناك.
عملت الجمعيات واﻷفراد على تأمين وإيصال مواد غذائية ومياه شرب ومواد صحية وأغطية وفرشات من تبرعات قام بها أفراد أو جمعيات في مناطقهم أو مناطق أخرى، داخل وخارج البلد. ومع ظهور عرقلات حكومية سابقة تتعلق بتحويل اﻷموال بين المحافظات السورية على أرض الواقع، تحرك المصرف المركزي السوري فرفع سقف الحوالات الداخلية من مليون ليرة يومياً إلى خمسة ملايين ليرة (700 دولار)، فيما بقيت القيود الخارجية على الاستلام بالدولار حتى اللحظة عند حدود أربعمئة دولار، وأكثر من ذلك، تمّ تحديد مراكز محددة لاستلام الحوالات في دمشق حصراً.
الزلزال كفرصة أم تجديد للكارثة؟
زلزال سوريا هو كارثة بكل معنى الكلمة، والاستجابة الهزيلة من الحكومة (والحكومات) تشير إلى أنها فعلياً تكثيف لمجريات الحرب بكل ما حملت من انشقاق في بنية المجتمع وتكريس لها، لتكون علامات حقيقية في مستقبل البلاد، وهو ما يجعل من القضية السورية، مرة جديدة، على أبواب الشد والجذب اﻹقليمي والدولي، بدل أن يكون الزلزال فرصة مؤلمة للبناء عليها في توجه سياسي مغاير.
معالجة آثار الكارثة اقتصادياً واجتماعياً وحتى سياسياً، والخسائر في حدها اﻷدنى هي بمليارات الدولارات، يحتاج إلى عشرات السنوات لتجاوزها وسط وضع اقتصادي كارثي هو اﻵخر. وهذا يفترض به أن يتجاوز صفة المهمة الطارئة أو الاستجابة لحدث الزلزال نفسه.