سوف تظل ثورة يوليو / تموز أحد أبرز المعالم في التطور المعاصر لمصر وللمنطقة العربية سواء من حيث الاطروحات والممارسات التي دشنتها أو القوى الاجتماعية التي أطلقها من عقالها أو التأثيرات التي خلفتها.
والثورات الكبيرة في العالم لها آثار متنوعة ومتعددة ومتباينة تتخطى حدود الدولة التي حدثت فيها لتؤثر على المنطقة المجاورة وخارجها.
والثورة – بحكم أنها ثورة – هي حركة تغييرية مما يصاحب ذلك من غبار هائل، من مد وجزر، وانتصارات وهزائم، وانجازات وأخطاء.
والاستقلال الوطني يمثل المحور الاساسي في تفكير عبد الناصر، وتوصلت إحدى الدراسات التي اتبعت أداة تحليل المضمون لخطب وتصريحات عبد الناصر خلال الفترة ١٩٥٣ – ١٩٥٦ أن مفهوم الاستقلال لدور مصر مثل ٦٦٪ من اشاراته الى الدور الدولي لمصر، وإن هذا الدور قد ارتفع في سلم الأولويات ليحتل مكانة أكبر في الفترة ١٩٥٧ – ١٩٦٧ فوصل إلى نسبة ٨٧٪ في الفقرات المتعلقة بالعلاقات مع الكتلة الشرقية، و ٨٠٪ في الفقرات الخاصة بالدول الغربية.
وقد اتسم مفهوم الاستقلال الوطني في تفكير عبد الناصر وممارساته بالشمول وتبدو هذه السمة في الجوانب التالية :
أ – تكامل الجوانب الداخلية والخارجية، فالاستقلال هو هدف مركب يتطلب تحقيقه سياسات مختلفة على النطاق الداخلي والخارجي، فعلى المستوى الداخلي أكد عبد الناصر على استقلالية عملية صنع القرار، كما أكد على استقلالية البناء الاقتصادي، وعلى استقلالية الثقافة الوطنية.
ب – تكامل مظاهر النفوذ الأجنبي وتعدد أدوات الإستعمار من سياسية واقتصادية وفكرية واجتماعية، وكذا النظر إلى الاستعمار كظاهرة مترابطة، ومن ثم ضرورة تضامن حركات التحرر الوطني في مناطق العالم المختلفة.
ج – اسرائيل كقاعدة استعمارية باعتبارها اداة من أدوات الاستعمار الغربي في المنطقة يستخدمها لفصل الأمة العربية وتهديد التقدم الوطني بها، وكقاعدة لتهديد أي حركة تسعى للتحرر من سيطرة الاستعمار.
د – التكامل بين أمن مصر والأمن العربي.
وهكذا فإن مفهوم استقلالية الارادة الوطنية عند عبد الناصر تتمثل داخليا في سيطرة الدولة على الموارد الاقتصادية وتوظيفها لاغراض التنمية المستقلة، ولمصلحة القطاعات العريضة من المواطنين، وتمثل عربيا الربط المحكم بين الأمن المصري والأمن العربي، وتمثل خارجيا في لعب دور نشط ضد الهيمنة الدولية والعلاقات غير المتكافئة بين الدول الكبيرة وشعوب العالم الثالث.
ويمكن تلخيص استراتيجية ادارة الصراع الدولي في فكر عبد الناصر بأنها ذات طابع صدامي بالضرورة بحكم طبيعة أهدافها و أعدائها، لذلك يمكن تلخيص استراتيجيتها في امرين :
١- العمل على تعظيم دائرة المناورة وتوظيف مصادر القوة الداخلية والاقليمية والدولية كافة بهدف تحقيق الأهداف القومية.
٢- تقليص حجم العلاقة مع دولة عظمى، والذي قد تضطر الدولة لقبوله في مرحلة ما بسبب هزيمة عسكرية أو نتيجة توازنات النظام الدولي.
و جدلية “تعظيم دائرة المناورة” و “تقليص حجم التبعية” ليست بالأمر اليسير، وتتطلب حركة دائبة وتقديرا مستمرا للوقائع والأحداث، وقدرة على إتخاذ القرار بسرعة، وعلى توظيف مصادر القوة المتاحة لتحقيق الاهداف، وعدم الركون إلى الوضع القائم، وهذا يفسر علاقة مصر بالدولتين الاعظم التي اتسمت بالتعاون والصراع وعدم إغلاق الباب تماما امام أي منهما، والاستفادة من الخلافات القائمة بينهما.
————
منقول بتصرف عن محاضرة للكاتب علي الدين هلال