إحسان الفقيه – كاتبة أردنية
“القدس العربي”
الأثنين , 20 مارس , 2023
لم يكن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، يقتصر على ذكر مساوئ الجاهلية وظلاميتها، بل كان من إنصافه أن يذكر أيام العرب الجليلة، وخصالهم الرفيعة، لم يحجبه انغماسهم في الوثنية عن الإشادة بما كان لهم من محاسن، ومنها إشادته بحلف قام في تلك الحقبة في مكة، على مبادئ عظيمة، كقيم العدل ونصرة الضعيف والمظلوم، وردع الظالم عن ظلمه.
ذلك الحلف الذي عرف باسم «حلف الفضول»، ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بخير بعد مبعثه، مقدرا ومثمنا مثل هذا الحلف، فقال: (لقد شهدت مع عمومتي في دار عبدالله بن جدعان، حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت). لقد أشاد به، ولم يتحفظ على نوعية المشاركين فيه، وأعرب عن استعداده لقبول الدعوة إليه حتى بعد مبعثه، وأخبر أنه باق على ما حضره من تحالف قومه من التناصر على الحق والأخذ للمظلوم من الظالم، وأنه لا يتعرض له بنقض، بل أحكامه باقية في الإسلام، وقال (أيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة).
أوردت هذه المقدمة، رغبة في الانطلاق من عهد النبوة إلى التأسيس، للحديث عن تعزيز القيم الإنسانية المشتركة، التي يمكن الالتقاء عليها بين المسلمين وغيرهم من أهل العقائد الأخرى. الإسلام ليس له كوكب خاص به، لكنه يحمل رسالة عالمية، تعمل من أجل الإنسانية، تتجاوز ظلاله الوارفة نطاق معتنقيه، لتشمل الإنسان بوجه عام، لذا كانت إحدى المفردات التي جاءت بها هذه الرسالة، تحرير البشر من ربقة الظلم والاضطهاد.
مبنى العائلة الإبراهيمي أشبه بديكور أو معلم سياحي، لكنه لا يمتلك آليات حقيقية لتعزيز الحوار بين أصحاب العقائد
ذلك أن الإسلام يؤكد على أن الإنسان ذو خلقة مكرمة ذات أصل واحد في التكوين، ويحترم النوع الإنساني، ويتقيد أتباعه التزاما بقيم العدل والقسط مع البشر جميعا، من دون انتقائية على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو اللون. وفي القرآن الكريم (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)، فجعل التعارف بين الشعوب مقصدا شرعيا، وبهذا التعارف يتم التعاون والتعايش لصالح الإنسانية.
انطلاقا من هذه المعاني، يبحث المنهج الإسلامي دائما عن القيم الإنسانية المشتركة مع الآخرين لتعزيزها ودعمها بما يحقق الفائدة للجميع، ولذلك شهدت الحضارة الإسلامية انصهارا ظاهرا في بوتقتها بين المسلمين وغير المسلمين، ساهموا جميعا في شق مسارها على مبدأ المنفعة للجميع. وأكد المنهج الإسلامي على المشتركات الجامعة، ولا أدل على ذلك من اتفاقية الدفاع المشترك، التي تمت في عهد النبوة، بين سكان المدينة من مسلمين ويهود على مبدأ المواطنة في ما عرف بـ»صحيفة المدينة». كما امتلأت صفحات الحضارة الإسلامية بمعاهدات واتفاقيات تجارية مع الدول غير الإسلامية على مبدأ المنفعة الاقتصادية للطرفين. وعلى المشتركات الإنسانية ازدهرت حضارة الأندلس من بعد الفتح الإسلامي العربي لتلك البلاد لأكثر من ثمانية قرون، ساهم فيها المسلمون والمسيحيون واليهود معا، بل إن اليهود بلغوا أوج الحرية في ممارسة تجارتهم في عهد الفتح الإسلامي للأندلس، بعد أن كانوا مضطهدين في السابق من الإسبانيين.
هذه الصيغ التاريخية من التلاقي بين المسلمين وغير المسلمين على المشتركات الإنسانية، ومبدأ المنفعة للجميع، وُجدت في أجواء من الاستقلالية العقدية، وهو المبدأ الذي أرساه القرآن الكريم (لا إكراه في الدين)، دون محاولات الذوبان الديني، أو إيجاد توليفة أديان كما هو الحال في تلك الدعوة المعاصرة لما يعرف بالديانة الإبراهيمية.
مشروع الدين الإبراهيمي الذي يطرح ضمن مفهوم الدبلوماسية الروحية لفض النزاعات ذات الخلفية الدينية، لم يعد الحديث عنه ضربا من التكهن، أو الرجم بالغيب، أو من قبيل الاستجابة لنظرية المؤامرة، بل صار أمرا معروفا، تقوم عليه مؤسسات دولية تترأسها شخصيات سياسية مرموقة، وصلت حدود أنشطتها في هذا المجال إلى الحوار الشعائري، وهو نقل المشترك بين أصحاب الملل إلى شكل شعائر مشتركة. كما لم يعد خافيا البعد السياسي لتلك الدعوة، وهو تعزيز ودعم التطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي هو أبرز مفردات هذه الدعوة إلى الدين الإبراهيمي الجديد، ولم تكن مصادفة أن يطلق الرئيس الأمريكي السابق ترامب اسم «اتفاقية إبراهيم» على اتفاقية التطبيع التي جرت بين الكيان الإسرائيلي ودول خليجية. نوقشت هذه الفكرة بالفعل في الوسط العربي، إلا أنها قوبلت باستنكار شديد، لدرجة أن شيخ الأزهر نفسه الذي وقّع مع البابا فرانسيس وثيقة الأخوة الإنسانية عام 2019 في أبوظبي، وصف الدعوة إلى توحيد الدين بأنها أضغاث أحلام، لأن اجتماع الخلق على دين واحد أمر مستحيل، وفرق بين احترام الآخرين، والإيمان بعقيدتهم. لكننا على الطريق نفسه، عرض إلينا ما يسمى ببيت العائلة الإبراهيمية، الذي يجمع الإسلام والمسيحية واليهودية تحت سقف واحد، حيث يضم مسجدا وكنيسة وكنيسا، تحت شعار التعايش الإنساني والتفاهم بين أصحاب المعتقدات المختلفة.
القائمون على هذا المشروع والمروجون له، ينفون بشدة أن يكون بيت العائلة الإبراهيمية ترجمة لما يسمى بالدين الإبراهيمي، وسوف نذهب معهم في اتجاههم نفسه، ولن نجادل في ما قاموا بنفيه، ودعونا ننظر إلى هذا المشروع على أنه مشروع للحوار والتفاهم بين مختلف العقائد لتحقيق السلام وأنسنة القيم، فنقول: ما الذي يمكن أن يقدمه هذا المشروع في هذا الصدد؟ كيف سيحقق السلام العالمي؟ كيف سيعزز الحوار بين أصحاب العقائد المختلفة؟ أمن المقبول أن نأمل في تحقيق هذه الغايات من خلال جمْع دور العبادة الخاصة بالمسلمين والمسيحيين واليهود في مكان واحد؟
إن كان الغرض هو الحوار بين أصحاب العقائد المختلفة، فهذا يتم باستمرار في مؤتمرات تجمع بين المخالفين في العقيدة، وتتبنى العمل عليه عدة مؤسسات، فإضافة لجهود مجلس حكماء المسلمين، الذي يترأسه شيخ الأزهر في هذا الشأن، عقدت -على سبيل المثال- رابطة العالم الإسلامي منذ أيام، مؤتمرا دوليا في لندن حول دعم سبل الحوار بين الأديان، لترسيخ قيم التعايش والسلام في العالم، حضره عدد من العلماء وقادة المؤسسات الدينية من المسلمين وغير المسلمين، والأمثلة على ذلك كثيرة، فما الذي سيضيفه مثل هذا المجمع لدور العبادة! مبنى العائلة الإبراهيمي أشبه بديكور أو معلم سياحي، لكنه لا يمتلك آليات حقيقية لتعزيز الحوار بين أصحاب العقائد، هو ربما يحقق بصورة تراكمية شيئا من الذوبان الذي لا يرضاه مسلم أو مسيحي أو يهودي، لأن لكلٍ عقيدته التي يعتنقها ويعتز بها.
قبل أن نفكر في إرساء قيم التعايش الإنساني وأنسنة القيم من خلال البيت الإبراهيمي، ينبغي أن نناقش أولا النظريات التي يتبناها الغرب وتتعارض مع هذه المفاهيم، أين نظرية صدام الحضارات من هذه القيم؟ أين نظرية نهاية التاريخ من هذه القيم؟ ينبغي أن نناقش العنصرية الأوروبية التي لا تخفيها شعارات الديمقراطية والمواطنة الزائفة، والتعصب الديني في الكنيست الإسرائيلي ضد المسلمين والعرب، والإنتاج السينمائي في هوليوود القائم على تشويه صورة المسلمين. وفي المقابل، ينبغي داخل الدول الإسلامية، إطلاق يد العلماء والدعاة لتعليم الناس الإسلام الصحيح بوسطيته وسماحته، بدلا من تركهم للوقوع في حبائل التطرف والتعصب والفهم المغلوط لتعاليم الدين، بما فيها الموقف من غير المسلمين، لكن مع الأسف الشديد، أكثر البلدان العربية التي تترنم بمواجهة الإرهاب والتطرف وأعبائه، هي أكثر الدول تضييقا على الدعاة والعلماء الوسطيين. لا أرى أن هناك من يستفيد من ذلك المشروع، سوى الكيان الإسرائيلي الذي سيحظى عن طريق هذا المشروع بمزيد من دعم التطبيع الذي سيفيده في مشروع تهويد القدس، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.