مليحة مسلماني – مجموعة الحوار الفلسطيني
الثلاثاء 19 آذار 2024
بالمفهومية التطبيع معناه بيع القضية
تُعد مسألة التطبيع مع دولة الاحتلال من أكثر القضايا الراهنة حساسية وخطورة، ذلك لأنها، من جهة، تمسّ بشكل رئيس بالحقوق الفلسطينية في الاستقلال والحرية وإقامة الدولة وتقرير المصير وعودة اللاجئين، وغيرها من الحقوق، فإنها من جهة أخرى بشكل مباشر أو غير مباشر، عن إسرائيل صفةَ الدولة الاستعمارية التي تقيم نظام فصل عنصري في فلسطين، وترتكب جرائم ضد الإنسانية. ذلك أن تعريف التطبيع حسب حركة مقاطعة إسرائيل: “المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، يجمع (على نفس المنصة) بين فلسطينيين (و/أو عرب) وإسرائيليين (أفراداً كانوا أم مؤسسات)، ولا يستوفي الشرْطَيْن التاليَيْن: الأول: أن يعترف الطرف الإسرائيلي بالحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بموجب القانون الدولي، والثاني: أن يشكّل النشاط شكلاً من أشكال النضال المشترك ضد نظام الاحتلال والاستعمار الاستيطاني والأبارتهايد الإسرائيلي.[i]
وتذكر حركة المقاطعة أن التطبيع يشمل الأنشطة التي تساوي أخلاقياً أو سياسياً بين “الطرفين”، أي بين المستعمِر والمستعمَر، وتتجاهل حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والعودة، وتقدم الرواية الصهيونية الزائفة للتاريخ كرواية موازية/مرادفة للرواية التاريخية العلمية.
ما هو التطبيع الذي يريده الاحتلال؟
يفرض تسارع وتيرة التطبيع خلال السنوات الأخيرة، بمختلف مجالاته، السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية، السؤال التالي: ما هو شكل التطبيع الذي تريده دولة الاحتلال، أو بمعنى آخر، ما الصورة والميكانيكية التي تتخذها أصناف التطبيع على اختلافها، وما الأهداف الحقيقية والرئيسية من ورائها؟ يفترض هذا المقال أن التطبيع الذي تريده دولة الاحتلال، يأخذ شكلًا ذكوريًا سلطويًا في التأثير، تمامًا مثلما هو الأداء الاستعماري برمّته، الذي يفترض طرفًا “مستعمَرًا” خاضعًا وقابًلا لكل أشكال التغيير والتخريب، الجغرافي والهُوياتيّ والقِيَمِيّ، في حين يرى هو في ذاته (أي المستعمِر) القدرة على ذلك بما ينسجم ومصالحه وبدون أية شروط تُفرض عليه أو تنازلات يقدمها.
ويمكن ملاحظة تمثّل الأنماط الاستعمارية الذكورية السلطوية في كثير من الصور على أرض الواقع، كجدار الفصل، ونقاط التفتيش العسكرية، وشكل المستوطنات الجاثمة فوق قمم الجبال، والصواريخ والقصف وغيرها. وكذلك هو التطبيع في صورته العامة وميكانيكيّته وآلية عمله: صواريخ معنوية تسعى إلى اختراق الوجود العربي بما فيه الفلسطيني، سياسةً وأمناً واقتصاداً ووعياً وثقافة، وفقًا للمصالح الإسرائيلية، دون خسائر أو شروط، وبمعنى آخر: دون مقابل حقيقي تقدّمه دولة الاحتلال عبر هذا التطبيع، على الصعيدين السياسي والثقافي بشكل خاص.
ما يدلّل على هذا الافتراض أن دولة الاحتلال، في مقابل سعيها للتطبيع السياسي والأمني والاقتصادي، بما يفيد مصالحها السياسية والاقتصادية، كتحقيق القبول السياسي، والمضي قدمًا في مشاريعها الاستعمارية، وإنكار حقوق الفلسطينيين، وتحقيق تفوقها الاقتصادي والتكنولوجي، فإنها لا تبدو أنها تسعى إلى تطبيع شعبي اجتماعي بين المجتمع الإسرائيلي والشعوب العربية. بل يمكن القول أنها لا تريد أصلًا هذا الشكل من التطبيع الشعبي، والذي يقوِّض الحواجز النفسية والثقافية والاجتماعية بين المجتمع الإسرائيلي والشعوب العربية.
يرى أحد الكتّاب أن دولة الاحتلال لم ترغب بأكثر من التطبيع الحكومي، وذلك لأنها تحتاج إلى الحكومات لا إلى الشعوب، وهو يطرح السؤال التالي: “إذا كان الإسرائيليون يرغبون بالتطبيع الشعبي، فلماذا لا ينسجمون مع العرب الذين يعيشون معهم داخل الأرض المحتلة؟” والإجابة كما يقول هي عدم رغبة الإسرائيليين في قبول “الآخر” وبالتالي تحقيق السلام والتعايش معه. ويضيف الكاتب: “وحتى نعود الى أصل سؤالنا عن سبب عدم رغبة الصهاينة بقبول التطبيع الشعبي، فلأنه مخالف لقِيَم توجهاتهم، فهم يحثّون أفرادهم ليل نهار بأن “الآخر” يكرهكم بسبب تميزكم، والأمم تعادي “السامية”، وعليكم أن تكونوا بحالة من التحفّز للدفاع عن أنفسكم وأن تقتلوا “الآخر”، أو تصنعوا له الأزمات كي يموت الآخرون وتعيشوا أنتم برفاهية..”[ii]
سياسات التمييز ضد فلسطينيي 48
تفتح فرضية عدم توجه دولة الاحتلال نحو التطبيع الشعبي، البابَ على العديد من المسائل التي تدلل عليها، ومنها ما ذُكر أعلاه حول الفلسطينيين المقيمين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وما انتهجته دولة الاحتلال ضدهم من سياسات تمييز عنصرية وأدوات قمع ساهمت في تعميق الفجوة بينهم وبين المجتمع الإسرائيلي. ليست هذه دعوة إلى الانسجام والتعايش بين الطرفين، بل الهدف هو تقديم قراءة لأداء دولة الاحتلال تجاه حالة خاصة من العرب الفلسطينيين وهم فلسطينيي 48، بحيث يمكن تعميم النتائج على الأداء الإسرائيلي تجاه الكلّ الشعبي، الفلسطيني والعربي.
وعلى الرغم من إشكالية حالة فلسطينيي 48 النابعة من خصوصيتها، إلا أنها تدلل على الرؤية الإسرائيلية تجاه الآخر الفلسطيني والعربي عامة، الذي يُسمح له بـ “التعايش” في الوسط الإسرائيلي وفق الشروط الإسرائيلية، وأبرزها الانتماء إلى الدولة والانسجام مع رؤاها وأهدافها وسلوكياتها، وعدا ذلك فهو يبقى خارجًا عن الدائرة الإسرائيلية، بل وعدوًا لها يجب قمعه وتحجيم دوره، واغتياله إن لزم الأمر. وقد دللت أحداث دامية عديدة شهدتها فلسطين المحتلة عام 1948 على هذا النهج الإسرائيلي في التعامل مع فلسطينيي 48، لعل آخرها أحداث اللد.[iii]
التطبيع النخبويّ
المسألة الثانية التي تثار هنا تتعلق بسؤال قد يُطرح حول أشكال التطبيع الثقافية والاجتماعية، كالتطبيع في المجالات الفنية والثقافية والأكاديمية والرياضية وغيرها؛ فإذا كانت دولة الاحتلال لا تريد تطبيعًا شعبيًا اجتماعيًا، لِمَ إذًا تسلك هذا النهج في التطبيع في المجالات غير السياسية؟ الإجابة هي من جنس السؤال، والذي يدور حول تطبيع فنانين وأكاديميين ورياضيين وغيرهم، فهؤلاء يعتبرون من النُخَب لدى أي مجتمع من المجتمعات، وعليه فالتطبيع في هذه المجالات هو تطبيع نخبوي، ولا يمكن أن يندرج تحت تصنيف التطبيع الاجتماعي الشعبي. أما الهدف منه فهو استثمار هؤلاء النخب، من أدباء ومثققين وعلماء وباحثين وفنانين ورياضيين، وإنجازاتهم، عبر زجّهم في فعاليات ونشاطات تطبيعية، ليكونوا بمثابة “سفراء” يخدمون أهداف دولة الاحتلال في نقل صور “إيجابية” و”حضارية” عنها. وبذلك فهو تطبيع نخبوي مُمنهج ومدروس، وليس مفتوحاً على الدائرة الشعبية الأوسع.
مسألة أخرى تطرح في هذا السياق تتعلق بتوظيف العداء العربي لدولة الاحتلال، وللإسرائيليين عامة، باعتباره مادة خام قابلة للتشكيل والاستثمار حسب الرغبات الإسرائيلية، سياسًا وإعلاميًا، بهدف كسب التعاطف والتأييد على المستوى العالمي، الأوروبي والأمريكي خاصة. وهو يلتقي مع سياسات دولة الاحتلال في توظيفها لما يسمى بـ “معاداة السامية”، والتي تصبح بدورها اتهامًا يلاحق كافة أشكال النضال ضد هذه الدولة. إن البقاء في إطار صورة “الضحية” يخدم أهداف دولة الاحتلال على مستويات عدة، من بينها “شيطنة” العربي، والفلسطيني خاصة. فإذا كان هناك “ضحية” فلا بد من وجود “جانٍ” أو “معتدٍ”، وهو الفلسطيني والعربي من المنظور الإسرائيلي المشوِّه للحقائق على أرض الواقع.
“الغيتو” كظاهرة مستمرة
يمكن القول أن “الغيتو”، كظاهرة وعقلية، لا يزال يميز الوجود الإسرائيلي، كياناً سياسياً ومجتمعاً استعمارياً؛ يمثل جدار الفصل الصورة المكانية المترجِمة لعقلية الغيتو تلك على أرض الواقع، والذي لا يقوم بدور العزل فحسب، أي عزل الفلسطينيين، بل هو يؤدي أيضًا وظيفة الانعزال عن الآخر إنكاراً له وخوفاً منه، لأن هذا الآخر موجود وحاضر ولا يزال يناضل من أجل استرداد حقوقه. أما التمثّل المعنوي لهذا الغيتو فيتَمَظْهَر في الانعزال الاجتماعي الاختياري والمدروس، عبر التركيز على العداء للإسرائيلي في الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي، وهو خطاب موجّه للعالم وللإسرائيليين أنفسهم، حتى غدت سمة الانعزال عن الآخر لبنةً أساسية في مكونات الهوية الإسرائيلية.
أخيرًا، إن التطبيع بأشكاله المختلفة، السياسية والاقتصادية والثقافية والفنية والعلمية والرياضية، هي بمثابة نوافذ فُتحت في جدران الغيتو الإسرائيلي، بالقدر الذي تريده دولة الاحتلال، لدخول الهواء اللازم للاستمرار في الوجود؛ هي نوافذ لتصدير ما ترغب دولة الاحتلال في تصديره من أفكار ومعتقدات وأهداف، عبر مشاريع التطبيع على اختلاف أشكاله، ولتستقبل أيضاً عبر هذه النوافذ المكاسبَ من هذه المشاريع، سواء كانت مكاسب مادية، سياسية وأمنية واقتصادية، أو معنوية، كتحقيق الاعتراف والقبول والتأييد والدعم والمساندة.
[i] “تعريف التطبيع”، حركة مقاطعة إسرائيل، 12/10/2020: https://bit.ly/3ZjpICv
[ii] محمود الهاشمي، “إسرائيل لا تريد التطبيع الشعبي”، المسلة، 13/12/2022، https://almasalah.com/archives/33040
[iii] ينظر: ميرفت صادق، “اللد تنتفض.. انفجار بوجه التطهير العرقي وعنف الاحتلال بالمدن المختلطة”، الجزيرة نت، 16/05/2021، https://bit.ly/3IJ8B74