بقلم : محمد سرميني – نداء بوست – مقالات رأي
28 أبريل، 2023
شهدت الآونة الأخيرة تسارعاً في وتيرة تطبيع العلاقات مع النظام السوري رغم غياب أي تقدم في بنود المبادرة العربية التي اقترحها الأردن عام 2021، والتي تقوم على نهج خطوة مقابل خطوة، وكانت بالأساس مقترحا للمبعوث الأممي الخاص إلى سوريا غير بيدرسون.
وتكمن الإشكالية الأساسية التي تواجه سياسة التطبيع الأخيرة مع النظام السوري في طبيعة النظام ذاته، إذ فقد مرتكزين أساسيين من المرتكزات الثلاثة للدولة، وهي الأرض والسيادة والشرعية القانونية، فرغم أنه ما زال يمتلك الشرعية بفعل التوازنات الدولية فإنه لا يسيطر على أكثر من ثلث الأرض السورية، ويخضع في مناطق سيطرته لنفوذ دولتين أجنبيتين، وبالمجمل، فإن 4 دول تتقاسم النفوذ على الأرض، فيما تشارك دولة خامسة في النفوذ الجوي.
إن لجوء الدول العربية إلى التطبيع مع دولة فاشلة بالمعايير القانونية والسياسية يمثل فشلا للمنظومة العربية حتى لو كان التطبيع غير مقصود لذاته، وهو الأرجح، إذ يمثل بالأساس محاولة لمنح إيران مقعدا آخر في جامعة الدول العربية، ومكافأة لواحد من أكبر مشاريع تصنيع وتهريب المخدرات في العالم حتى وفقا للمعايير المتعارف عليها في أميركا اللاتينية.
وفي حال تجاوز مفهوم الدولة الغائبة فإن الجمود الذي تشهده سوريا منذ عام 2020 لم يسهم في أي تغيير سياسي وعسكري وأمني واقتصادي لصالح النظام يدعو للقبول بسياسة الأمر الواقع والتعامل معه كطرف استطاع استعادة بعض الأدوات التي يمكن من خلالها الاستجابة لمصالح ومتطلبات الدول المنخرطة في مسار التطبيع.
“لا يبدو أن النظام السوري مهم بحد ذاته للدول المنخرطة في مسار التطبيع بقدر ما يمثل التواصل معه مساحة لاختبار النوايا وتبادل الرسائل سلبا وإيجابا مع أطراف أخرى”
فسياسياً: لم يفضِ سلوك النظام سوى لتعطيل العملية السياسية في إطار اللجنة الدستورية التي تدعمها روسيا، دون إحراز أي تقدم لصالحه من قبيل فرض “المبادئ الوطنية” كمدخل لصياغة الإصلاح الدستوري، والتي من خلالها يضمن الحفاظ على روح دستور عام 2012.
وأمنياً: لم تؤدِ التسويات التي شهدت زخما خلال عامي 2021 و2022 إلى استعادة النظام السيادة على مناطق جنوب البلاد، حيث تواجه سلطته رفضا مستمرا من السكان المحليين والمجموعات المسلحة التي انخرطت في مسار المصالحة، إضافة إلى عدم قدرته على ضبط نشاط المليشيات الإيرانية المنتشرة في محافظات ريف دمشق ودرعا القنيطرة.
وعسكرياً: منذ عام 2020 لا يزال النظام غير قادر على تغيير واقع السيطرة، لا شمالا ولا شرقا، فهو لا يمتلك قرار السلم والحرب الذي باتت تسيطر عليه بشكل رئيسي روسيا ثم إيران، وتؤثر فيه كل من الولايات المتحدة وتركيا.
واقتصادياً: أظهرت كل السياسات والأدوات النقدية وغير التقليدية التي حظي بها النظام عدم قدرته على الحد من تعرض الليرة لمزيد من الانهيارات، كما أصبح اقتصاد الحرب مسيطرا بشكل كامل على الهياكل والمؤسسات ولم يعد مجرد إجراءات طوارئ حتى يكاد يصعب أو يستحيل على النظام أو أي طرف آخر إعادة البلاد لاقتصاد السلم.
إذن، ما سبق يشير بشكل واضح إلى أن الدول التي انخرطت في مسار التطبيع لا تعوّل على قدرة النظام على الاستجابة لمصالحها، فهو غير قادر على فرض الاستقرار السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني، إنما قامت بهذه الخطوة من أجل ضمان مصالحها الإقليمية والدولية عبر مزيد من التقارب مع روسيا أو إيران أو كلتيهما، في مشهد إقليمي ودولي متغير.
لا يبدو بأي شكل أن النظام السوري مهم بحد ذاته للدول المنخرطة في مسار التطبيع بقدر ما بات يمثل التواصل معه مساحة لاختبار النوايا وتبادل الرسائل سلبا وإيجابا، فالدول العربية وتركيا تمر بحالة من عدم الثقة مع الولايات المتحدة التي أسهم سلوكها في مزيد من التوجه نحو روسيا وإيران وتبني سياسات تقوم على توسيع هوامش التحرك، ومحاولة تحقيق المصالح بعيدا عن المظلة الأميركية أو ضمن أقصى الهوامش التي تتيحها.
كما أن مسار التطبيع القائم لا يعني إعادة إنتاج النظام بغض النظر عن الصورة التي يحاول التسويق لها، فبنيته غير قابلة لذلك، خاصة بعدما أصبحت رهينة لسيطرة حلفائه الروس والإيرانيين، وأصبحت محاولة العودة إلى وضع ما قبل عام 2011 مستحيلة، بل إن مسارعة النظام في طي صفحة الخلافات بسهولة مع الدول التي وقفت ضده خلال السنوات الماضية ستؤدي لمزيد من انكشافه أمام فاعلين جدد.
بمعنى أن قدرة النظام سابقا على مواجهة سياسات الدول المنخرطة في مسار التطبيع لن تعود متوفرة، بسبب انكشافه مرة أخرى لتدخلات فاعلين جدد، حيث ستصبح قراراته وحساباته أكثر تقييداً وتعقيداً.
وقد تمنح هذه السيولة مجالا للدول المنخرطة في التطبيع أمام تحقيق مزيد من الاختراق لمواقف النظام وبنيته، وربما تأمل بعض العواصم العربية أن يساعدها ذلك على احتوائه وإعادة هيكلته بهذا الشكل.
“لا تبدو هذه الخطوات سوى محاولات هامشية في الوقت بدل الضائع الذي تفرضه مرحلة الجمود منذ عام 2020، فالمشهد السوري قد يتغير جذريا بمجرد انهيار جهود التهدئة الإقليمية أو اندلاع تصعيد جديد أو حسم نتائج الصراع في أوكرانيا لصالح الغرب”
ومع ذلك، ستكون أمام أي مساعٍ محتملة لتعديل سلوك النظام من داخله تحديات كبيرة، بينها وجود فاعلين آخرين من خصوم ومنافسين، ولا سيما إيران التي لن تعطي أي فرصة لتغيير التوازنات الداخلية في بنية النظام بما يؤثر على مصالحها وسياساتها في المنطقة.
كما أن روسيا حتى وإن أتاحت المجال لبعض الفاعلين كي يملؤوا أي مساحة مكانها في ظل أولوية الصراع في أوكرانيا فإنها لن تتخلى عن دورها الرئيسي في رسم وصياغة القرارات والمواقف السياسية والعسكرية والاقتصادية.
وبالنتيجة، فإن التطبيع مع النظام حتى وإن استمر فإنه سيبقى مستحيلاً أمام أي رغبة أو جهود لإعادة إنتاجه وحتى تعديل سلوكه من داخل بنيته، ولا تبدو هذه الخطوات سوى محاولات هامشية في الوقت بدل الضائع الذي تفرضه مرحلة الجمود منذ عام 2020، فالمشهد السوري قد يتغير جذريا بمجرد انهيار جهود التهدئة الإقليمية أو اندلاع تصعيد جديد في المنطقة أو حسم نتائج الصراع في أوكرانيا لصالح الغرب.
المصدر :الجزيرة
الكاتب : محمد سرميني
المدير العام لمركز جسور للدراسات