الجزء الثاني (2 من 3)
د. سليم بدليسي
١٧ آذار مارس ٢٠٢٢
٥-الاستبداد السياسي في فكر الكواكبي
يعتبر الكواكبي بحث الاستبداد أول المباحث العديدة لعلم السياسة الواسع. وهو اذ يعرّف علم السياسة بأنه: “ادارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة” فإنه يرى بالمقابل بأن الاستبداد هو “التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى”. كما يعُطي الاستبداد تعاريفاً من عدة وجهات نظر. فالاستبداد في اصطلاح السياسيين: “هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تِبعة”. وبأسلوب المرادفات والمقابلات في مقام كلمة استبداد كلمات استعباد واعتساف وتسلط وتحكّم وفي مقابلتها كلمات مساواة، وحس مشترك وتكافؤ وسلطة عامة. وفي مقابل حكومة مستبدة كلمات: عادلة ومسؤولة ومقيّدة ودستورية. وفي مقابل وصف الرعية (المستبد عليهم) كلمات: أسرى ومستصغرين وأجراء وبؤساء وفي مقابلتها أحرار وأباة وأحياء وأعزاء. ويعرفه بالوصف: “الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً او حكماً التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية من حسابٍ ولا عقابٍ محققين”. وأشكال الحكومة المستبدة كثيرة. وأشد مراتب الاستبداد هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية. وكلما قلّ وصف من هذه الأوصاف خفّ الاستبداد الى ان ينتهي بالحاكم المنتخب المؤقت المسؤول فعلاً. فصفة الاستبداد لا تشمل فقط حكومة الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة او الوراثة ولكنها قد تشمل أيضاً أنواع الحكومات التي تدّعي الحكم باسم الشعب: مثل حكومة الفرد المنتخب (الرئاسية) متى ترك دون مساءلة، أو حكومة الجمع ولو منتخبة لأن الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد وإنما قد يُعدّله الاختلاف نوعاً، وقد يكون عند الاتفاق أضرّ من استبداد الفرد (ديكتاتورية الاكثرية). وقد يشمل الحكومة الدستورية التي يغيب فيها التنسيق بين مسؤوليات التشريع والتنفيذ والمراقبة. كما يخف الاستبداد كلما قل التفاوت في الثروة وكلما ترقى الشعب في المعارف. ولكن الحكومة من أي نوعٍ كان لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والاحتساب الذي لا تسامح فيه. ويعطي الكواكبي مثلاً من جمهورية فرنسا: قضية دريفوس ومسائل أخرى في ذلك الوقت (قضية دريفوس هي قضية ظلم أحاقت بضابط وأصبحت مسألة نقاش وطني عام لتحقيق العدالة في فترة ١٨٩٤-١٩٠٦). والاستبداد لا يرتفع ما لم تتحدد المسؤوليات فيكون المنفذون مسؤولين لدى المشرعين، وهؤلاء مسؤولين لدى الأمة، تلك الأمة التي تعرف أنها صاحبة الشأن كله وتعرف أن تراقب وأن تتقاضى الحساب. ومع ذلك فإن غفلت الأمة او تمكنت الحكومة العادلة من إغفالها لتأمن المسؤولية والمؤاخذة، تسارع هذه الحكومة الى التلبّس بصفة الاستبداد. وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفي خدمتها احدى الوسيلتين العظيمتين جهالة الأمة والجنود المنتظمة وهما أكبر مصائب الأمم وأهم معائب الانسانية. وقد تخلصت الأمم المتمدنة نوعاً من الجهالة ولكن بُليت بشدة الجندية، تلك الشدة التي جعلتها أشقى حياةً من الأمم الجاهلة وألصق عاراً بالإنسانية من أقبح أشكال الاستبداد وإذا ما دامت هذه الجندية التي مضى عليها نحو قرنين الى قرن اخر ايضاً تنهك تجلد الأمم وتجعلها تسقط دفعة واحدة. وبذلك تذهب كل الجهود الى تأييد الاستبداد المشؤوم: استبداد الحكومات القائدة لتلك القوة من جهة واستبداد الأمم بعضها على بعض من جهة أخرى. وبالفعل كان الكواكبي صاحب بصيرة ثاقبة واستقرأ نتائجاً توقعها من مقدمات مفترضة محتملة تصوّرها. فغفلة الأمة وتمكّن الحكومة المنتخبة من إغفال الأمة حدث فعلاً مع الأيام وكان له أسوأ النتائج في المانيا النازية وايطاليا الفاشية وغيرهما حيث وصلت هذه الحكومات الدستورية المنتخبة أساساً الى الاستبداد الشديد على شعوبها وقادت الحروب المدمّرة ضد الشعوب الأخرى. وكذلك كان استقراء الكواكبي لنتائج التحضيرات العسكرية (شدة الجندية) في الدول الكبرى المتقدمة والتي كانت قد تخلصت نسبياً من جهالة الأمة. فقد قامت الحربين العالميتين الأولى والثانية وغيرهما من الحروب وانهكت الأمم والشعوب. وكذلك مارست الدول الغربية المتقدمة ذات الحكم الدستوري الاستبداد على الدول المستضعفة باحتلالها واستعمارها..
لقد اهتدت الأمم الموفّقة للخير، فخصصت منها جماعات باسم مجالس النواب وطبيعتها السيطرة والاحتساب على الادارة العمومية: السياسية والمالية والتشريعية بهدف التخلص من أشكال الاستبداد. لكن بلوغ الترقي بالأمم إلى المرتبة القصوى السامية التي تليق بالانسانية فهذا ما لم يسمح به الزمان حتى الآن وما من أمةٍ تصلح لأن تكون مثالاً له. لأنه لم توجد بعد أمة حكمت نفسها بنفسها حكماً لا يشوبه نوعاً من الاستبداد. فالبشر غير متأهلين بعد للأخوّة العمومية بالتحابب بين الأفراد والقناعة بالمساواة بين الطبقات والأجناس والأديان. الاستبداد اعظم بلاء لأنه وباء دائم بالفتن و جدبٌ مستمر بتعطيل الأعمال، وحريقٌ متواصل بالسلب والغصب، وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلامٌ يعمي الأبصار وألمٌ لا يفتر وقصة سوءٍ لا تنتهي.. وقد يؤدي الاستبداد إلى الانحطاط بالأمة إلى درجة ان تموت ويموت معها والشواهد كثيرة على ذلك في قديم الزمان وحديثه. فالمستبد عدو الحق عدو الحرية وقاتِلهما والحق أبو البشر والحرية أمهم..
المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويود أن تكون رعيته كالغنم دراً وطاعة وكالكلاب تذللاً وتملقاً.. فعلى الرعية أن تعرف مقامها هل خُلقت خادمةً لحاكمها، تطيعه إن عدلَ أو جار وخُلق هو ليحكمها كيف شاء بعدلٍ أو اعتساف أم هي جاءت به ليخدمها لا ليستخدمها! فالرعية العاقلة تقيّد وحش الاستبداد.
وإذا سأل سائل لماذا يبتلي الله عباده بالمستبدين؟ فأبلغ جواب مُسكت هو: إن الله عادلٌ مُطلق لا يظلم أحد، فلا يولي المستبد إلا على المستبدين. ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من أسراء الاستبداد مستبداً في نفسه لو قدرَ لجعلَ زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم حتى وربه الذي خلقه تابعين لرأيه وأمره. فالمستبدون يتولاهم مستبد والأحرار يتولاهم الأحرار وهذا صريح معنى “كما تكونوا يوَلّى عليكم”.
ويوضح الكواكبي أن الخطوة الاولى في إنقاذ الأمة هي الابتداء بفك القيود من تعظيم غير الله ثم بتنوير العقول بمبادئ الحكمة وتعريف الإنسان كيف يملك ارادته أي حريته وبذلك تُهدم حصون الاستبداد ويُسد نبع الفساد.
٦-الاستبداد الديني في فكر الكواكبي
يُبيّن الكواكبي أن آراء أكثر العلماء الناظرين في تاريخ الأديان تتفق على أن الاستبداد السياسي متولّد من الاستبداد الديني أو أنهما أخوان أو صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الانسان. والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان أحدهما في مملكة الاجسام والآخر في عالم القلوب. وهذا التشاكل بين الاستبدادين الديني والسياسي جعلهما مشتركين في الوظيفة، في مثل فرنسا أو روسيا يسجّلان الشقاء على الأمم. وما بين الاستبدادين السياسي والديني مقارنة لا تنفك. متى وجد أحدهما في أمة جر الآخر إليه ومتى ضعف أو زال، ضعف أو زال رفيقه. وشواهد ذلك كثيرة لا يخلو منها زمان ولا مكان. المستبد السياسي يتخذ بطانة من خدمة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله. وأقل ما يعينون به الاستبداد الخارجي هو تفريق الأمم الى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضاً فتتهاتر قوة الأمة ويذهب ريحها فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرّخ، وهذه سياسة الانكليز في المستعمرات لا يؤيدها شيء مثل انقسام الاهالي على أنفسهم وإفنائهم بَأسهم بينهم بسبب اختلافهم في الاديان و المذاهب. ويلتمس الكواكبي الحاجة الى التجديد في كل الاديان.. “ما أحوج الشرقيين أجمعين من بوذيين ومسلمين ومسيحيين واسرائيليين وغيرهم إلى حكماء لا يبالون بغوغاء العلماء المرائين الأغبياء، و الرؤساء القساة الجهلاء فيجددون النظر في الدين، نظر من لا يحفل بغير الحق الصريح.. نظر من لا يضيع النتائج بتشويش المقدمات..” إن البدع التي شوشت الإيمان وشوّهت الأديان تكاد كلها تسلسل بعضها من بعض وتتولّد جميعها من غرض واحد وهو المراد الا وهو الاستبداد وقيام السلاطين في الاسلام بالانتصار لغلاة الصوفية وبناء التكايا لهم لم يكن الا بقصد الاستعانة بمسوخ الدين وببعض أهله المغفلين على ظلم المساكين. وأعظم ما يلائم مصلحة المُستبد ويؤيدها ان الناس يتلقون قواعده وأحكامه بإذعان دون بحث او جدال ولهذا القصد عينه كثيراً ما يحاولون بناء أوامرهم او تفريغها على شيء من قواعد الدين. و لقد أجمع الكتّاب السياسيون المدققون بالاستناد إلى التاريخ و الاستقراء، من أن ما من أمة او عائلة او شخص تشدد في الدين إلا واختلّ نظام دنياه و خسر أولاه وعُقباه.. والحاصل أن كل المدققين السياسيين يرون أن السياسة والدين يمشيان متكاتفين ويبرهنون من ان الدين أقوى تأثيراً من السياسة إصلاحاً وفساداً ويرون أن إصلاح الدين هو أسهل وأقوى وأقرب طريق للإصلاح السياسي. ويضرب الكواكبي امثلةً عن ذلك من تاريخ اليونان وحكمائهم في العصر القديم وعن قبول السكسون البروتستانتية ودورها الإصلاحي في العصور المتقدمة. ويبّين الكواكبي أن القرآن الكريم مشحونٌ بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتساوي حتى في القصص منه مثل قصة بلقيس ملكة سبأ التي تعلّم كيف ينبغي أن يستشير الملوك “الملأ” أي أشراف الرعية وأن لا يقطعوا أمراً إلا برأيهم وتُقبّح شأن الملوك المستبدين “اذا دخلوا قرية أفسدوها”. وكذلك في مئات الآيات التي تؤكد على ذلك أمثال: “وشاورهم في الأمر” أي في الشأن، “إن الله يأمر بالعدل” اي بالتساوي فإن العدل لغةً التسوية فالعدل بين الناس هو التسوية بينهم؛ “واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل” أي بالتساوي. وفي آية “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” يقول أن “أولي الأمر” هم العلماء و الرؤساء على ما اتفق عليه اكثر المفسرين، و هم الأشراف باصطلاح السياسيين. ويتسائل الكواكبي: “ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسؤولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصبر عليهم اذا ظلموا، و عدّوا كل معارضة لهم بغياً يبيح دماء المعارضين؟!”. ويستنتج: “وهكذا غيّروا بمفهوم اللغة وبدّلوا الدين وطمسوا على العقول حتى جعلوا الناس ينسون لذة الاستقلال وعزّة الحرية بل جعلوهم لا يعقلون كيف تَحكم أمة نفسها بنفسها بدون سلطانٍ قاهر. وبالمقابل، فإن الاستبداد في الاسلام قد حجرَ على العلماء والحكماء من المفسرين لأنهم يخافون مخالفةِ بعض الغفل السالفين أو بعض المنافقين المقرّبين المعاصرين فيكفّرون ويقتلون.. و من ثم يطرح مقولة “عدم وجوب طاعة الظالمين” و إن قال بوجوبها بعض الفقهاء المخالفين دفعاً للفتنة التي تحصد أمثالهم حصداً..
وحول الحكم السياسي في الاسلام يقول الكواكبي: إن الطراز النبوي المحمدي السامي في الرئاسة أخذ بالتناقص وصارت الأمة تطلبه وتبكيه من عهد عثمان إلى الآن وسيدوم بكاؤها إلى يوم الدين اذا لم تتنبه لاستعواضه بطرازٍ سياسي شوريّ، ذلك الطراز الذي اهتدت اليه بعض أمم الغرب. فالاسلامية مؤسسة على أصول الحرية برفعها كل سيطرة وتحكم بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والاخاء، بحضّها على الاحسان والتحابب وقد جعلت اصول حكومتها الشورى الارستقراطية اي شورى أهل الحل والعقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم وجعل أصول ادارة الأمة: التشريع الديمقراطي أي الاشتراكي. ولا يوجد في الاسلامية نفوذ ديني مطلقاً في غير مسائل اقامة شعائر الدين.
وبرأي الكواكبي فمن جانب الادارة والسلطة التنفيذية وجهاز الدولة، ليس هناك تمييز بين المواطنين لأي سببٍ من الأسباب. أما في نطاق الشورى والسلطة التشريعية فلا بد هنا من الارتفاع إلى ما فوق العمومية واختيار نوع من الارستقراطية والاعتماد على من يسميهم “الأشراف” وذلك لأنه يرى أن الاسلامية مؤسسة على أصول الادارة الديمقراطية “أي العمومية” والشورى الارستقراطية أي شورى الأشراف.
٧-الاستبداد والعلم في فكر الكواكبي
“من أقبح انواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل”.
ليس من مصلحة المستبد ان تتنوّر الرعية بالعلم فظلام الجهل يعتبر من أفضل مراتع الاستبداد. ولا يخفى على المستبد مهما كان غبياً أن لا استعباد ولا اعتساف إذا لم تدم الرعية حمقاء تتخبط في ظلامة جهلٍ وتيه عماء. فالعلم نورٌ والظلمِ ظلام ومن طبيعة النور تبديد الظلام. والعلمُ فضاحٌ للشر، يولد في النفوس حرارة وفي الرؤوس شهامة.
والمستبد لا يخشى علوم اللغة ولا العلوم الدينية المتعلّقة بالمعاد المختصة ما بين الانسان وربّه لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة. ولا يخاف كذلك العلوم الصناعية والرياضية والمادية لأن أهلها يكونون مسالمين. والمستبد يشتري بقليلٍ من المال والإعزاز من نبغ من هؤلاء العلماء امام العامة لتمكين حكمه. ولكن ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العملية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية والتاريخ المفصّل والخطابة الأدبية ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسّع العقول وتعرّف الانسان على ماهية حقوقه وكم هي مغبونة وكيف الطلب وكيف النوال وكيف الحفظ. فالمستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين الراشدين المرشدين لا العلماء المنافقين او الذين حفر رؤوسهم محفوظات كثيرة كأنها مكتبات مقفلة! والعلم لا يناسب أيضاً صغار المستبدين كخدمة الأديان المتكبرين وكالآباء الجهلاء والأزواج الحمقاء وكرؤساء كل الجمعيات الضعيفة. وينتج مما تقدم أن ما بين الاستبداد والعلم حرباً دائمة وطراداً مستمراً: يسعى العلماء إلى تنوير العقول ويجتهد المستبد في إطفاء نورها والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ “هم أولئك الذين اذا جهلوا خافوا واذا خافوا استسلموا كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا..” هم قوة المستبد بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة فاذا ارتفع الجهل وتنوّر العقل زال الخوف. وكلما زاد المستبد ظلماً واعتسافاً زاد خوفه من رعيته ونقمتها أكثر من خوفهم من بأسه.. والحاصل أنه ما انتشر نور العلم في أمة قط إلا وتكسّرت فيها قيود الأسر وساء مصير المستبدين من رؤساء سياسة أو رؤساء دين جعلوه ديناً حرجاً يتوهم الناس فيه أن كل ما دوّنه المتفننون بين دفتي كتاب ينسب إلى اسم اسلامي هو من الدين. فما أحق بالأمم المنحطّة أن تلتمس دواءها عن طريق إحياء العلم وإحياء الهمّة مع الاستعانة بالدين والاستفادة منه.
٨-الاستبداد وانعكاسه في المجتمع
يرى الكواكبي أن الاستبداد أصلٌ لكل فساد.. ويدرس آثاره السيئة على المجتمع في كل المجالات: المجد، المال، الاخلاق والترقي.. وكيف تصبح دولة الاستبداد دولة بله وأوغاد.. المستبد لا يستخدم إلا الأراذل والأسافل فقط ولهذا يقال دولة الاستبداد دولة بله وفساد.
يصطنع المستبد الاتباع ليتمكن من الأمة. فالوزير هو وزير المستبد لا وزير الأمة كما في الحكومات الدستورية. أما أكابر رجال عهد الاستبداد فلا خلاق لهم ولا ذمّة، بمن فيهم الأصلاء الذين دلّلهم المستبد بالترف، ويتمجّدون بالترامي بين رجلي المستبد ويصبحون في كنف المستبد الكبير مستبدون صغاراً، يستبدون مثله ويكونوا أعداءً للعدل نصراءً للجور، يحكمون بالظلم ويختلسون ويحتالون.. حريصون على أن يبقى الاستبداد مطلقاً لتبقى أيديهم مطلقة بالأموال.. وهذا هو قصد الطاغية.. اذ يسلّم السدنة القياد ويردفهم بجيش من الأوغاد ليتمكن بواسطتهم من السيطرة على الأمة. والواقع ان الحكومة المستبدة تكون طاغية في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى أصغر موظف فيها.. وكلما اشتد ظلم الطاغية احتاج إلى عدد كبير من الأعوان ليساعدوه في الضغط والإرهاب.
“والنتيجة أن المستبد فردٌ عاجز لا حول له ولا قوة إلا بالمتمجّدين، والأمة أي أمةٍ كانت، ليس لها من يحك جلدها غير ظفرها، ولا يقودها إلّا العقلاء بالتنوير والإهداء والثبات.
يتناول الكواكبي علاقة الاستبداد بالمال ويبحث في التفاوت في توزيع الثروات في المجتمع. والمال هو قيمة الأعمال ولا يجتمع في يد الأغنياء إلا بأنواعٍ من الغلبةِ والخداع. وحيث أن المال لا يحصل إلا بالمشقّة فلا تختار النفوس الإقدام على المتاعب مع عدم الأمن على الانتفاع بالثمرة.. ويشتد حرص الأغنياء المتمجدون على جمع الثروات في عهد الحكومات المستبدة حيث يسهل تحصيل الثروة بالسرقة من بيت المال والتعدي على الحقوق العامة. ولا يلتمس الفقير الرحمة وإنما يلتمس العدالة.. فالعدالة تقتضي أن يؤخذ قسمٌ من مال الأغنياء ويرد على الفقراء بحيث تقترب الطبقات من التساوي ولا يموت النشاط للعمل.. وهذه القاعدة كما يقول الكواكبي يسعى أغلب العالم المتمدن الإفرنجي إلى ما هو من نوعها.. وهذا يتناسب مع ما قررته الشريعة الاسلامية. ويذهب الكواكبي، الذي يبدو متأثراً بالدعوة الاشتراكية التي قويت في عصره، إلى أبعد من ذلك فيقول: “المعيشة الاشتراكية من أبدع ما يتصوره العقل إذا ما بلغ البشر من الترقي ما يكفي فتكون أدوات الانتاج مشتركة الشيوع بين الناس والحكومة تضع القوانين وتقوم بتنفيذها. ويتأسف لأنه لم يبلغ البشر بعد من الترقي ما يكفي لتوسيعهم نظام التعاون والتضامن في المعيشة العائلية إلى ادارة الأمم الكبيرة.
لا يقتصر أمر الاستبداد على كبت الحريات والتصّرف بشؤون الدولة تصرفاً كيفياً بل يتعدى ذلك إلى افساد الخلق البشري وتشويه الفضائل فيُمرض العقول لاسيما في العوام الذين يصل بهم الأمر إلى عدم التمييز بين الخير والشر. فالاستبداد يجعل الانسان يكفر بنعمِ مولاه، لأنه لم يملكها حق الملك ليحمده عليها حق الحمد، ويجعله حاقداً على قومه لأنهم عون لبلاء الاستبداد عليه، وفاقداً حب وطنه، لأنه غير آمن على الاستقرار فيه ويودّ لو انتقل منه؛ وضعيف الحب لعائلته لأنه ليس مطمئناً من دوام علاقته معها. أسير الاستبداد لا يملك شيئاً ليحرص على حفظه لأنه لا يملك مالاً غير معرض للسلب ولا شرفاً غير معرض للإهانة. ولا يملك الجاهل منه آمالاً مستقبلة ليتبعها ويشقى كما يشقى العاقل في سبيلها. الاستبداد يستولي على العقول الضعيفة للعامة فضلاً عن الأجسام، يُفسدها كما يريد فيشوّش فيها الحقائق بل البديهيات كما يهوى. الناس وضعوا الحكومات من أجل خدمتهم والاستبداد قلب الموضوع فجعل الرعية خادمة للرعاة فقبلوا وقنعوا.. نتيجة انقيادهم الأعمى للاستبداد ومقاومتهم للرشد والإرشاد. ولما كان ضبط أخلاق الطبقات العليا من الناس أهم الأمور، أطلقت الأمم الحرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات مستثنيةً القذف فقط. كما انها انشأت ما يُعرف بمجالس النواب وظيفتها السيطرة على الادارة العمومية والسياسية.
يرى الكواكبي أن فقد التربية هي المصيبة الكبرى في الشرق، فاذا لم نتوصل اليها في بلادنا فليس من أملٍ في الخلاص من الاستبداد. وفي الحكومات المنتظمة فهذا يكون دور الدولة.. اذ تتولى السلطة التربية والتعليم وسنّ القوانين الاجتماعية والعناية الصحية ورعاية العاجزين والاهتمام بالمجالات الثقافية والفنية والتخطيط العمراني.
يتبع…
مقال التنوير في مواجهة الاستبداد مهم .. فالكواكبي يسوق لنا المفاصل المهمة التي يتحكم المستبد فيها .. يقرأ المستقبل وما يجري اليوم من تغول المستبدين وگان الكواكبي حاضر معنا .. يشرح تشريحا ملفتا للنظر القواعد الأساسية التي يشتغل عليها المستبد ويحركها لاستدامة حكمه ونفوذه وتسلطه ..
شكرا لكاتب المقال الذي عرض فيه افكار الكواكبي بشكل سلس . وهو مقال فعلا يتطلب قراءته ومراجعته أكثر من مرة .. فأفكار الكواكبي لازالت حية . وفعلا علينا التوقف عندها مرات ومرات ..