جيسي خليل
المصادر خاص موقع التلفزيون العربي
محدث 18 مارس 2025
تنقسم النقاط الساخنة على الحدود اللبنانية السورية إلى معابر رسمية، وأخرى غير شرعية معروفة لقاطني البلدين – غيتي
تعتبر الحدود اللبنانية السورية واحدة من أكثر النقاط حساسية في المنطقة، إذ تشكّل نقطة تداخل معقدة بين المصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية لكل من لبنان وسوريا، ما يجعلها ساحة دائمة للتوترات والتجاذبات الإقليمية.
فعلى مدى السنوات الماضية، شهدت هذه الحدود العديد من المشاكل، على المستويين الأمني والسياسي، ما جعل من قضية الحدود اللبنانية السورية ملفًا شائكًا، مرتبطًا بالتحولات السياسية والأمنية في المنطقة.
وتطرح الاشتباكات المتكرّرة على هذه الحدود، خصوصًا بعد سقوط نظام بشار الأسد، تساؤلات حول مستقبل العلاقة بين البلدين وإمكانية إيجاد حلول دائمة لضبط الحدود وضمان استقرارها.
خريطة الحدود اللبنانية
قبل الشروع في الحديث عن أبرز المشاكل على الحدود، لا بد من فهم الجغرافيا لتتضح الصورة حول أسباب كثرة الأحداث المترابطة بين البلدين.
تمتدّ الحدود اللبنانية البرية على طول 454 كلم، حيث تحدّها سوريا من الشمال إلى الشرق على طول 375 كلم. أما الحدود الجنوبية فتمتد على طول 79 كلم كما أن للبنان حدودًا بحرية تمتد على طول 225 كلم على البحر المتوسط.
يعاني لبنان على حدوده الشمالية الشرقية مع سوريا من عمليات التهريب والتنقل غير الشرعي لما تتميز به هذه الحدود من تضاريس جبلية وأودية، ما يجعل ضبطها بالكامل أمرًا صعبًا.
وفي الجنوب تعتبر الحدود الأكثر توترًا في المنطقة لما شهدته من نزاعات عسكرية متكررة منذ عام 1948 عند تأسيس إسرائيل، التي لم يقف طمعها عند الحدود البرية بل انسحب إلى الحدود البحرية بسبب وجود حقول النفط والغاز.
النقاط الساخنة على الحدود اللبنانية السورية
تنقسم النقاط الساخنة على الحدود اللبنانية مع سوريا إلى معابر رسمية، وأخرى غير شرعية معروفة لقاطني البلدين، ومن أبرز المعابر الرسمية:
المصنع في البقاع، وهو الطريق الرئيسي الذي يسلكه العابرون من بيروت إلى دمشق.
العبودية في الشمال اللبناني، وهو يربط لبنان بمحافظة طرطوس السورية.
القاع – جوسيه، ويقع هذا المعبر في البقاع الشمالي، وهو قريب من القصير السورية، ويُستخدَم لنقل البضائع والناس.
أما المعابر غير الشرعية التي تعدّ مركزًا للأنشطة غير القانونية مثل التهريب والتنقل غير القانوني، الأمر الذي يشكّل تحديًا أمنيًا واقتصاديًا، فهناك العشرات منها:
معابر في منطقة البقاع (في القاع وعرسال والهرمل) وتستخدم لتهريب المحروقات والمواد الغذائية وحتى السلاح.
معابر في الشمال (في وادي خالد وعكار) وتستخدم لنقل الأشخاص والبضائع بسبب قربها من القرى الحدودية.
معابر في الجنوب والوسط وهي أقلّ انتشارًا، ولكنها موجودة في المناطق النائية.
ويسهل وجود هذه المعابر بسبب العلاقات العائلية والقبلية، لأنّ العديد من القرى الحدودية تنتمي لعائلات واحدة مقسمة بين سوريا ولبنان، مما يسهّل التنقل عبر الحدود دون اعتبارها خرقًا قانونيًا، فبعض الأفراد يعبرون الحدود بسهولة من دون المرور بالإجراءات الرسمية، وبما أن العديد من هذه العائلات تعمل بالزراعة والتجارة، يتم استغلال العلاقات لتهريب المنتجات.
وعند اندلاع النزاعات، تلجأ العائلات السورية إلى أقاربها في لبنان، ما يزيد الضغط على المناطق الحدودية ويكثر من أعداد اللاجئين. وتمتد هذه العائلات عبر الحدود بسبب التقسيم السياسي الحديث، لكنها تاريخيًا كانت تعيش في مناطق واحدة.
فقبل اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، لم تكن هناك حدود واضحة بين لبنان وسوريا، إذ كانا جزءًا من ولاية دمشق وولاية بيروت العثمانية.
وبعد الاتفاقية، خضع البلدان للنفوذ الفرنسي وتم فصلهما إداريًا وجغرافيًا، وأُعلن قيام دولة لبنان الكبير ما أدى إلى تغيير في التوزيع الديمغرافي والسياسي وفصلت مناطق ذات روابط اجتماعية واقتصادية متداخلة، خاصة بين البقاع اللبناني وريف دمشق، وبين عكار وطرطوس.
تشكّل الحدود اللبنانية السورية نقطة تداخل معقدة بين المصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية لكل من لبنان وسوريا – غيتي
ترسيم الحدود والمناطق المتنازع عليها
الحدود اللبنانية السورية كما نعرفها اليوم وليدة تعديلات شهدتها في حقبة الانتداب الفرنسي. ففي العام 1920 قررت فرنسا فصل “لبنان الكبير” عن سوريا وتم اعتماد الترسيم بين عامي 1920 و1923حيث أضيفت مناطق مثل البقاع وعكار وراشيا وحاصبيا إلى لبنان، رغم أنها كانت متصلة إداريًا واقتصاديًا بسوريا في العهد العثماني. وفي عام 1934، جرى تعديل بسيط للحدود لكنها بقيت غير مرسّمة بشكل دقيق في بعض المناطق.
ورغم الاعتراف بالحدود اللبنانية-السورية وفق اتفاقيات دولية، إلا أن بعض النقاط لا تزال غير مرسّمة بالكامل، خصوصًا في مناطق مثل مزارع شبعا، والقلمون، وجرود عرسال، ما يؤدي إلى استمرار العلاقات المتداخلة أو النزاعات بين البلدين ويسهّل العمليات غير الشرعية التي نشهدها اليوم، إذ إن العائلات ما زالت تتبادل السلع والمنتجات الزراعية وغيرها عبر الحدود، وما زال من الشائع أن يتزوج أفراد من لبنان وسوريا ضمن العائلة الواحدة، ما يعزز التواصل المستمر، بالإضافة إلى الثقافة والعادات المشتركة التي يتم التمسك بها، وهي متطابقة بين بعض المناطق اللبنانية والسورية.
وتتواجد هذه العائلات اليوم في المناطق الحدودية مثل البقاع، عكار، الهرمل، وادي خالد، والقنيطرة، وريف دمشق، لكنّ شهرتها تمتد أبعد بكثير من حدود البلدين:
آل جعفر – يتواجدون في الهرمل بلبنان، ويمتدون إلى ريف حمص في سوريا.
آل شمص – موجودون في البقاع الشمالي ويمتدون إلى سوريا.
آل دندش – يتوزعون بين الهرمل وريف حمص.
آل زعيتر – من أكبر العائلات في بعلبك ولهم امتداد في سوريا.
آل المقداد – يتواجدون في البقاع ودمشق.
آل نصر الدين – موجودون في البقاع وريف دمشق.
آل أمهز – من العائلات الكبيرة في البقاع، خصوصًا في بعلبك، ولهم امتداد في سوريا.
آل شريف – موجودون في وادي خالد بلبنان وحمص بسوريا.
آل حسين – ينتشرون في عكار وريف حمص.
آل العلي – يتواجدون في وادي خالد بلبنان وريف حمص وحماه.
وعلى الرغم من ترسيم الحدود خلال الانتداب الفرنسي، إلا أن هناك مناطق لا تزال محل خلاف، مثل مزارع شبعا المحتلة، التي يطالب بها لبنان، فيما تعتبرها سوريا أرضًا سورية، وكذلك مناطق في البقاع الشمالي وجرود عرسال، حيث لا تزال الحدود غير واضحة تمامًا.
وعلى الرغم من أنّ الحكومة اللبنانية طالبت مرارًا بترسيم الحدود مع سوريا، إلا أنّ دمشق لم تُبدِ حماسة لذلك، ربما بسبب تعقيدات سياسية وعسكرية. ولذلك، فإنّ الموضوع لا يزال محل نقاش بين الأطراف السياسية، وقد يستمر طالما بقيت العوامل الاقتصادية والسياسية على حالها.
العديد من القرى الحدودية تنتمي لعائلات واحدة مقسمة بين سوريا ولبنان – غيتي
النشاطات غير الشرعية والتحديات الأمنية
بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة وفارق الأسعار بين لبنان وسوريا، نشط تهريب السلع الأساسية على الحدود في الاتجاهين، مثل المحروقات والطحين. وخلال الأزمة السورية، زادت عمليات التهريب والتنقل غير القانوني، سواء بسبب اللاجئين أو المجموعات المسلحة.
وإلى جانب التهريب، تكثر الأحداث الأمنية على الحدود اللبنانية السورية، وآخرها الاشتباكات التي اندلعت في 15 مارس/ آذار، حيث اتهمت وزارة الدفاع السورية حزب الله بنصْب كمين وخطف ثلاثة عناصر أمنية عند الحدود، قبل اقتيادهم إلى داخل الأراضي اللبنانية وتصفيتهم، فيما نفى الحزب “بشكل قاطع” أيّ علاقة له بالأحداث.
وفي فبراير/ شباط الماضي أيضًا، وقعت اشتباكات عنيفة بين القوات السورية ومجموعات مسلحة من العشائر اللبنانية، حيث أعلنت القوات السورية عن إطلاق حملة أمنية في ريف حمص الغربي بهدف إغلاق منافذ تهريب الأسلحة والممنوعات وذلك بعد سقوط نظام الأسد واستلام احمد الشرع زمام السلطة.
خلال هذه العملية، دخلت القوات السورية بلدة حاويك الحدودية، ما أدى إلى اشتباكات مع مسلحين من عشائر لبنانية، وأسفرت المواجهات عن سقوط قتلى وجرحى من الجانبين واستمرت الاشتباكات في المناطق الحدودية، خاصة في بلدات قنافذ وجرماش، قبل أن تعلن السلطات السورية السيطرة على الحدود في نهاية المطاف.
رغم المحاولات الأمنية، فإن العلاقات العائلية والقبلية تجعل من المستحيل ضبط الحدود اللبنانية السورية بالكامل، خصوصًا أن بعض القرى في لبنان وسوريا متداخلة جغرافيًا، ويُعتبر التنقل عبرها جزءًا طبيعيًا من الحياة اليومية
القصف الاسرائيلي هو الآخر لم يرحم هذا الجزء من الحدود، ففي فبراير/ شباط 2025 شنت القوات الجوية الإسرائيلية غارات استهدفت مواقع تابعة لحزب الله على الحدود السورية-اللبنانية، بهدف منع تهريب الأسلحة إلى داخل لبنان بحسب قولها.
وإذا كانت الاشتباكات الحدودية ازدادت وتيرتها في الآونة الأخيرة، إلا أنّها كانت موجودة أيضًا في زمن النظام السابق. ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2024 اندلعت اشتباكات عنيفة بين قوات النظام ومجموعات مسلحة في المناطق الحدودية، خاصة في ريف حمص الغربي.
أما في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 فشهدت المنطقة تصعيدًا ملحوظًا بعد هجوم شنته فصائل مسلحة على مواقع لجيش النظام قرب الحدود اللبنانية، ما أدى إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى.
وفي سبتمبر/ أيلول 2022 قامت القوات الإسرائيلية بقصف مواقع داخل الأراضي السورية قرب الحدود اللبنانية، مستهدفة مستودعات أسلحة تابعة لجماعات مسلحة مدعومة من إيران.
في يونيو/ حزيران 2021 شهدت المنطقة الحدودية اشتباكات متقطعة بين الجيش اللبناني ومهربين، في محاولة للحد من عمليات التهريب المستمرة عبر الحدود.
دور المنظمات المتطرفة وعمليات التفجير
لم تقتصر المشاكل على الحدود على البعد الاقتصادي والصراع مع إسرائيل، فقد تفاقم الوضع الأمني عند ظهور بعض التنظيمات المسلحة المتطرفة، ولا سيما تنظيم الدولة، على الحدود اللبنانية – السورية بين عامي 2013 و2017، حيث استغلّت هذه التنظيمات الطبيعة الجغرافية الوعرة للمنطقة لإنشاء معاقل لها، خاصة في جرود عرسال، ورأس بعلبك، والقلمون الغربي.
وعلى سبيل المثال، شنّت جبهة النصرة، بالتعاون مع تنظيم الدولة، في 2 أغسطس/ آب 2014، هجومًا كبيرًا على بلدة عرسال اللبنانية، حيث اختطفوا 30 عسكريًا لبنانيًا (جنود من الجيش اللبناني وعناصر من قوى الأمن الداخلي)، وذلك بعد هجومهم على مراكز الجيش اللبناني في البلدة.
بعد ذلك، أقدم تنظيم الدولة على إعدام 4 جنود لبنانيين هم علي السيد وعباس مدلج (أعدما ذبحًا في أغسطس/ آب 2014، وسبتمبر/ أيلول 2014)، ومحمد حمية (رميًا بالرصاص في 2015)، إضافة إلى بيار بشعلاني وإبراهيم زهرمان (قتلا أثناء المعركة). أما جبهة النصرة، فقد استخدمت الجنود كورقة ضغط لمقايضتهم بمعتقلين في السجون اللبنانية، حيث أطلقت سراح 16 جنديًا لبنانيًا في 1 ديسمبر/ كانون الاول 2015، مقابل إطلاق السلطات اللبنانية سراح 13 سجينًا من الموقوفين في سجن رومية، بينهم سجى الدليمي (طليقة زعيم تنظيم الدولة أبو بكر البغدادي) وجمانة حميد (متهمة بتهريب سيارات مفخخة).
وفي ظل القتال المستمر ووجود مسلحين يعبرون الحدود بطريقة غير شرعية شهد لبنان عمليات تفجير قام بها انتحاريون في بعض المناطق، وفي عمق الضاحية الجنوبية لبيروت عبر متسللين من سوريا.
البداية كانت في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 عندما حصل تفجير مزدوج استهدف السفارة الإيرانية في بيروت، أدى إلى مقتل 23 شخصًا وإصابة العشرات. وفي 2 يناير/ كانون الثاني 2014 فجر انتحاري تسلل عبر الحدود نفسه في الضاحية، ما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين.
في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 حصل تفجيران في برج البراجنة راح ضحيتهما 43 قتيلًا وعشرات الجرحى. وفي 23 يونيو/ حزيران 2014، فجّر انتحاري دخل من القلمون السورية نفسه قرب نقطة تفتيش للجيش اللبناني وأظهرت التحقيقات أن الانتحاري جاء من سوريا عبر معبر غير شرعي.
وفي يونيو/ حزيران 2016، نفذ 8 انتحاريين سلسلة تفجيرات في بلدة القاع الحدودية، حيث قُتل 5 مدنيين وأُصيب أكثر من 30 شخصًا.
ومع أن بعض العمليات نجح الانتحاريون بتنفيذها إلا أنّ الأجهزة الأمنية اللبنانية أحبطت عدة عمليات انتحارية كان مخططًا لها من قبل متسللين من سوريا، مثل محاولة تفجير في الحمرا (بيروت) عام 2017. كما أعلنت الأجهزة الأمنية اعتقال بعض العناصر قبل تنفيذ هجمات في طرابلس والبقاع.
هل يمكن ضبط كل هذه الظواهر؟
رغم المحاولات الأمنية، فإن العلاقات العائلية والقبلية تجعل من المستحيل ضبط الحدود بالكامل، خصوصًا أن بعض القرى في لبنان وسوريا متداخلة جغرافيًا، ويُعتبر التنقل عبرها جزءًا طبيعيًا من الحياة اليومية.
أما ضعف المراقبة الأمنية بالرغم من وجود الجيش اللبناني وقوى الأمن فيعود سببه إلى التضاريس الوعرة وعدد المعابر الكبير الذي يعقّد السيطرة عليها.
ولكن الجهود لم تتوقف في محاولة الحد من الأفعال غير القانونية حيث نفّذ الجيش اللبناني عمليات أمنية متكررة لإغلاق بعض هذه المعابر، لكن سرعان ما تم فتح بدائل جديدة، وتم نصب أبراج مراقبة وكاميرات حرارية بتمويل دولي، لكنها لم تنهِ المشكلة تمامًا. وهناك محاولات لتعزيز التعاون مع الجانب السوري، لكن التعقيدات السياسية تحدّ من فعاليتها.
وفي النتيجة، تبقى الحدود اللبنانية-السورية نقطة ضعف استراتيجية للبنان، حيث تؤثر على الأمن، والاقتصاد، والسياسة الداخلية، ويتطلب حل هذه الأزمات إرادة سياسية قوية، ودعمًا أمنيًا، وتعاونًا إقليميًا لضبط الحدود وإيجاد حلول مستدامة للمشاكل المتفاقمة، فبدون معالجة القضايا العالقة، ستبقى الحدود مصدرًا للأزمات والتوترات في كل من لبنان وسوريا.