سمير العيطة – الشروق
آخر تحديث : الأحد 10 ديسمبر 2023
سعيد تحسين، الإنسانيّة في بحرٍ من الدماء، زيتيّة على القماش، 55/67، 1948، المتحف الوطني دمشق..
يُنذِر الدعم الرسمى والإعلامى الأمريكى ــ الأوروبى للعدوان الإسرائيلى الهمجى على الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية، وبشكل غير مسبوق فى حديّة اصطفافه، بما هو أسوأ مما وصلت إليه الأمور أصلا فى قطاع غزة، إلى ما لا يُمكن تحمله إنسانيا. بالطبع، حشدت إسرائيل كل مجموعات ضغطها ونفوذها فى وسائل الإعلام ولدى الحكومات الغربية للتغطية على مآربها مهما كان هول الجرائم المرتكبة. ولكن وصول الأمور إلى حد تجريم مناهضة الصهيونية فى الكونجرس الأمريكى على أنها معاداة للسامية، أى لليهود، وإلى أن يُصبح دور فرنسا ــ راعية الاستقلال اللبنانى ــ هو نقل رسائل تهديد إسرائيلية إلى من كان يعتبرها «الأم الحنون!» فلينسحب حزب الله وراء نهر الليطانى أو تدمِّر إسرائيل لبنان! هذا فى الوقت الذى تم فقدان مقومات الحياة لمئات آلاف الفلسطينيين والفلسطينيات فى غزة والضفة، وحيث تقصف إسرائيل مطارى دمشق وحلب كلما أعيد تأهيلهما بعد القصف الذى سبقه. وتخترق بريطانيا سيادة العراق وسوريا بطلعات جوية. ومن ثم تستخدم الولايات المتحدة حق النقض ضدّ قرار لمجلس الأمن لوقف إطلاق النار بعد مناداة استثنائية للأمين العام للأمم المتحدة تحت البند 99 من الميثاق، أنّ الأمن والسلم العالميين أصبحا مهدّدين.
وأمام ضخامة ما بات جليا للرأى العام العالمى من جرائم ضد الإنسانية والتحضير للأسوأ، تخرج تصريحات مواربة وصلِفة لذرّ الرماد فى العيون. بأنه سيتم العمل على حل الدولتين، أو أن مهلة إسرائيل فى الحرب هى لشهر وليس لأكثر، أو أن تتم إدانة تصرفات المستوطنين فى الضفة الغربية، دون الجيش الإسرائيلى فى غزة ودون الاحتلال والاستيطان، أو أنه سيتم إرسال المساعدات إلى أهالى غزة… وكأن القضية هى صَدَقة، فما أهمية كل هذه التصريحات إذ لم يتمّ… الآن إيقاف إبادة الشعب الفلسطينى والابتعاد عن الأسوأ الذى يتمّ العمل عليه؟
• • •
فى زمن ليس ببعيد، كثير ما كان التندّر على أن الولايات المتحدة انسحبت وتخلت عن منطقة الشرق الأوسط. صحيح أنها سحبت، اسميا، جيوشها من العراق بعد غزوه ومن أفغانستان. ولكن بعد أى دمار حصل فى هذين البلدين؟ وهل حقا تخلت عن نفوذها؟ أم سلمته «لوسطاء» لها؟ وهل سحبت قواعدها العسكرية العديدة ؟ وها هى تدعم بجسر جوى حرب حكومة متطرفة فى إسرائيل، وكأننا فى حرب أكتوبر 1973 ضد دول.
لقد نسى كثُر، على غرار هنرى كيسنجر، قراءة دروس كتاب «الأمير» لماكيافيلى: أن السياسة هى ضغوط متواصلة ثم قفز على فرص. إشعال حرب بين العراق وإيران، ثم إفلاس العراق، كى تؤخذ الأمور إلى غزو الكويت وحرب العراق الأولى. وماذا كان الثمن فى ضبط إسرائيل حينها؟ أن تُلغى الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها 3379 فى 1975 أن «الصهيونية هى شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصرى». شرط وضعته إسرائيل للمشاركة فى «مؤتمر مدريد» للسلام عام 1991 والذى لم يُعطِ شيئا لا للفلسطينيين ولا للعرب الذين احتلّت أراضيهم.
هذا فى الوقت الذى أُشعلت فيه حرب المقاتلين السلفيين فى أفغانستان لهزيمة الاتحاد السوفيتى، والذين وإن ارتدوا مع تنظيم «القاعدة» وأحداث 11 سبتمبر 2001 ضد داعميهم السابقين، خلقوا فرصة لغزو أفغانستان والعراق، بعد عقوبات طويلة أنهكت هذا الأخير.
ثم أُفسدت طموحات الشعوب العربية فى «الحرية والكرامة» إبان «الربيع العربى» ، ليتحول إلى صراعات إقليمية ودولية وحروب بالوكالة وانفلات لميليشيات «سلفية» و«إخوانية» و«شيعية» وإثنية قوضت أسس «الدولة» فى كثير من الدول العربيّة.
وتم تأجيج صراع مفتوح سنى ــ شيعى، ، لا معنى له. وفُرضت عقوبات أحادية الجانب على هذه الدولة أو تلك. وضغوط للتطبيع . كل ذلك لأخذ المنطقة برمتها إلى وضع جديد تصفّى فيه قضاياها الأساسية… القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلى بما فى ذلك للأراضى السورية واللبنانية… والحد الأدنى من السيادة الوطنية والتنمية.
ثم جاءت الفرصة مع حرب غزة، خاصة وأن خسارة حرب أوكرانيا باتت تلوح فى أفق الولايات المتحدة وأوروبا. هكذا تمّ تحييد القوى الإقليمية. بداية من تركيا سوى بعض الخطابات الشعبوية. وتحييد إيران، سوى عبر التنظيمات الرديفة. وتحييد غالبية الدول العربية. وإلا لا مشاريع ضخمة ولا رفاهية ولا استقرار للسلطات القائمة… وتم تهميش السلطة الفلسطينية وحركة فتح، فلا حول لهما ولا قوة… وحيدت السلطة القائمة فى سوريا نفسها بنفسها، رغم أنها تتعرض للقصف الإسرائيلى والأمريكى… على هامش حرب غزة.
• • •
لكن الحشد الإسرائيلى ــ الأمريكى ــ الأوروبى لما هو أسوأ يحصد خسائر أيضا… لقد سقطت حرية التعبير أمام القمع الذى تتعرض له فى أكثر البلدان افتخارا به… وسقطت قيم التعددية أمام الانتصار لفكرة أحادية دولة احتلال استيطانى… وسقطت قيم «العلمانية» خاصة فى فرنسا التى ينتهك رئيسها قانونا بالاحتفال تملّقا بعيد يهودى فى القصر الرئاسى فى حين يغيب عن قداس للبابا تضامنا مع اللاجئين الغرقى… لقد سقط التحجج بالقيم الديموقراطية التى طالما تم التدخل الخارجى بحجة نشرها… وسقطت الثقة بأن الأمم المتحدة وسيلة لتحقيق الأمن والسلام العالميين وليست فقط أداة لبسط هيمنة القوى النافذة بطريقة سلسة!
كل ذلك يدفع شعوبا بأكملها نحو الإحباط والتطرف… ليس كون أن هذه الشعوب تميل إلى التطرف، لأن فيها من يدينون بالإسلام… بل لأن الولايات المتحدة وأوروبا التى برزت فيها هذه القيم من خلال النضالات السابقة لشعوبها باتت هى أيضا تتجه نحو التطرف… ديموقراطيا وعبر الانتخابات، كما إسرائيل اليوم. ديموقراطية ممولة من نفس الشركات والدول التى تموّل الاستيطان والحرب الإسرائيلية اليوم. وديموقراطية تحالف فيها اليمين المتطرف مع الحركة الصهيونية للوصول إلى الحكم… وسيصل فى كثير من البلدان التى لم يعد فيها رجالات دولة يجرءون، مثل وزير الخارجية الفرنسى السابق دومينيك دو فيلبان فى مجلس الأمن حاشدا الجهود سنة 2003 ضد تبرير غزو العراق زورا عبر الأمم المتحدة.
محقّ من يقول إنه يجب على المسلمين إعادة قراءة الإسلام. ولكنه محق أيضا من يقول يجب فى الولايات المتحدة وأوروبا إعادة قراءة قيم المسيحية واليهودية والحرية والتعددية والعلمانية والديموقراطية والأمن والسلام العالمى… والحد الأدنى من الإنسانية.
إن العبرة فى أكثر البلدان تضامنا اليوم مع الشعب الفلسطينى… أى جنوب أفريقيا التى دفع أهلها حديثا ثمن تلك القيم.
سعيد تحسين جدّ سمير العيطة
سمير العيطة: رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب