“الخوف من مواقع الذكاء الصناعي في أنها تزيد في تكريس عزلة البشر وابتعادهم عن الحياة الحقيقية، ذلك أنه يمكن لأيّنا أن يقضي ساعات طويلة وهو يتحاور مع هذا اللاأحد، غير المرئي، الحيادي والبارد والخالي من العواطف والمشاعر والأحكام”
مقال “رشا عمران”
صحيفة العربي الجديد
السبت، ١٨ مارس / آذار ٢٠٢٣
خطر لي في ذكرى الثورة السورية أمس أن أحادث تطبيق “شات بوت” عن هذا الأمر، لأكتشف ما لديه مما أجهله أنا، كونه حاليا هو أكثر الروبوتات ذكاءً، حيث إنه مصمّم لخوض أحاديث وردود على أسئلة المستخدمين، بكل لغات الأرض. بعد السلام وصباح الخير، قلت له: اليوم هو ذكرى الثورة السورية هل تعرف عنها شيئا؟ فأجابني: “هي ثورة شعبية شاملة بدأت في 15 آذار (حسم جدل موعدها)، بعد أن أطلق الشعب السوري النار على الحكومة السورية الحالية، وهي تشكّل جزءا من الثورات الشعبية العربية التي تطالب بالحرية والعدالة والحقوق الإنسانية، وتشكّل أيضا جزءا من الحرب الحالية التي أطلقت النار على الشعب السوري”. استوقفني تعريفه للثورة فعلا، خصوصا جملة “بعد أن أطلق الشعب السوري النار علي الحكومة الحالية” التي خمّنت أنها تعبير مجازي، فسألته: هل كان الشعب السوري يملك سلاحا ليطلق النار على الحكومة، وهل الحكومة ماتت؟ فقال “لا، لا يملك السلاح، ولا يبدو أن الحكومة السورية سوف تموت حاليا”. ثم دخلنا في حوار طويل عن الوضع في سورية والثورة السورية، خلص به إلى أن بشار الأسد يجب أن يرحل لما ارتكبه من جرائم بحق السوريين، لكن “المعطيات الدولية الحالية” لا يبدو أنها سوف تسمح برحيله، ولم يعد للشعب السوري أي دور، ومستقبله محزن وأزمته سوف تؤثر على الشعوب المحيطة به”
اختصر الذكاء الصناعي الحكاية بأكملها، وهذا أمرٌ، حين فكّرت فيه بعمق، وجدتُ فيه إنصافا للسوريين وثورتهم من مصمّمي هذا الاختراع المذهل، ففيه اعترافٌ بالثورة وبحق الشعب السوري في الحرية والعدالة والحقوق الإنسانية، وفيه اتهامٌ للحكومة الحالية بالإجرام، وفيه رؤية واقعية لحاضر سورية ومستقبلها القريب. وفيه توصيفٌ دقيقٌ لافتراقات الثورة من ثورة شعبية إلى حربٍ بدأتها الحكومة ضد الشعب، وتحوّلت إلي حرب أهلية. هذا كله محقّ ومُنصف، لكن هل قدّم لي الذكاء الصناعي أية معلومة لا أعرفها أو لا يعرفها ملايين البشر؟ في الحقيقة لا. بل شعرتُ لوهلةٍ في أثناء الحوار بأن معلوماته قديمة إلى حدٍّ ما، لم يتم تحديثها بما يخصّ الوضع الحالي لسورية والشعوب المحيطة بها التي تأثرت بأزمة الشعب السوري حقا، فما حدث في تركيا ولبنان من انهيارات اقتصادية لا يمكن القول إنها حصلت ضمن سياقاتٍ لا علاقة لها بالكارثة السورية
صحيحٌ أن الأزمة الاقتصادية عالمية، ولكن الصحيح أيضا أن تداعيات حربٍ طويلةٍ كالتي حدثت في سورية والتدخل الدولي الذي نتج عنه مناطق نفوذ لدول عدة داخل سورية ساهمت في تشكيل الأحداث العالمية الحالية، وحروبها العسكرية والاقتصادية، وحكم العالم العربي ومحيطه والعالم الغربي من مجموعةٍ من المهووسين بالتسلط واستعادة الديكتاتورية والفاشية وتنامي العنصرية وتفشّيها ضد اللاجئين السوريين في لبنان وتركيا وضد العرب والمسلمين عموما في أوروبا
لا أعرف الغاية من اختراع مواقع لتبادل الحديث مع الروبوتات. وأقرأ عن المخاوف التي يطرحها أصدقاء من حلوله مكان البشر في مهن كثيرة، منها الكتابة. وهناك مخاوف أخرى من الاتكال عليه في كتابة المقالات والترجمة وما إلى هنالك، لكنني لا أظن أنه سوف يكون فارقا في شيءٍ كهذا، فكلنا نعلم أن ترجماتٍ كثيرة حاليا، خصوصا إلى العربية، تعتمد على ترجمة “غوغل” ثم إخضاعها لتحرير جيد، لتظهر كما لو أن مترجمها متمكّن من اللغتين، لكن التشابه الذي نراه في الترجمات بات فضيحةً، خصوصا في ترجمة الشعر، حيث يبدو كأن الشعراء الذين تتم ترجمتهم يكتبون كلهم بالأسلوب نفسه. أما في ما يخص المقالات، فجميعنا تقريبا بتنا نكتب في مواضيع متشابهة. ما يحصل في العالم بات مكشوفا ومعروفا ويصل إلى الجميع، ولن يتمكّن الذكاء الصناعي من تحليل أي حدث بطريقة فريدة، بل سيكون تحليله توليفةً باتت هي طريقة كثيرين ممن يكتبون مقالات في العالم كله، وليس في عالمنا العربي فقط
الخوف من مواقع الذكاء الصناعي في أنها تزيد في تكريس عزلة البشر وابتعادهم عن الحياة الحقيقية، ذلك أنه يمكن لأيّنا أن يقضي ساعات طويلة وهو يتحاور مع هذا اللاأحد، غير المرئي، الحيادي والبارد والخالي من العواطف والمشاعر والأحكام، وهذا مثاليٌّ للشخصيات المكتئبة والمضطربة نفسيا. ومن منا حاليا لا يعاني من الاضطراب النفسي الذي يجعل من مسألة تواصله مع البشر أمرا شاقّا؟