ثقافة ومجتمع – المجلة
الكاتب السوداني الكبير الراحل الطيب صالح مقال له منذ أكثر من 30 عاما
الطيب صالح
20 أبريل 2023
كتب صاحب “موسم الهجرة إلى الشمال” هذا المقال، كجزء من مساهمته الأسبوعية في الصفحة الأخيرة من مجلة “المجلة” والتي واصل كتابتها دون انقطاع لسنوات طويلة، وأهمية هذا المقال ليس في كونه نبوءة لما يشهده السودان هذه الأيام من اقتتال وصراع عنوانهما السيطرة، بل في كونه شاهدا على تلك الأزمات العميقة التي رافقت السودان طوال عقود، بينما يواصل أبناء السودان الحلم بدولة مدنية ديمقراطية تخرجهم من ظلمة الماضي وتقودهم نحو المستقبل المزدهر.
في ما يلي نصّ المقال:
هل السماء ما تزال صافية فوق أرض السودان أم أنهم حجبوها بالأكاذيب؟
هل مطار الخرطوم ما يزال يمتلئ بالنازحين يريدون الهروب إلى أي مكان؟ فذلك البلد الواسع لم يعد يتسع لهم. كأني بهم ينتظرون منذ تركتهم في ذلك اليوم عام ثمانية وثمانين. يُعلن عن قيام الطائرات ولا تقوم. لا أحد يكلمهم. لا أحد يهمه أمرهم.
هل ما زالوا يتحدثون عن الرخاء والناس جوعى؟ وعن الأمن والناس في ذعر؟ وعن صلاح الأحوال والبلد خراب؟
جامعة الخرطوم مغلقة، وكل الجامعات والمدارس في كافة أنحاء السودان. الخرطوم الجميلة مثل طفلة ينيمونها عُنوة ويغلقون عليها الباب، تنام منذ العاشرة، تنام باكية في ثيابها البالية، لا حركة في الطرقات. لا أضواء من نوافذ البيوت. لا فرح في القلوب. لا ضحك في الحناجر. لا ماء، لا خبز، لا سُكر، لا بنزين، لا دواء، الأمن مستتب كما يهدأ الموتى.
نهر النيل الصبور يسير سيره الحكيم، ويعزف لحنه القديم. (السادة) الجدد لا يسمعون ولا يفهمون، يظنون أنهم وجدوا مفاتيح المستقبل. يعرفون الحلول، موقنون من كل شيء. يزحمون شاشات التلفزيون ومكرفونات الإذاعة. يقولون كلاما ميتا في بلد حي في حقيقته ولكنهم يريدون قتله حتى يستتب لهم الأمن.
الخرطوم الجميلة مثل طفلة ينيمونها عُنوة ويغلقون عليها الباب، تنام منذ العاشرة، تنام باكية في ثيابها البالية، لا حركة في الطرقات. لا أضواء من نوافذ البيوت. لا فرح في القلوب. لا ضحك في الحناجر. لا ماء، لا خبز، لا سُكر، لا بنزين، لا دواء، الأمن مستتب كما يهدأ الموتى
من أين جاء هؤلاء الناس؟ أما أرضعتهم الأمهات والعمات والخالات؟ أما أصغوا للرياح تهبُّ من الشمال والجنوب؟ أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط؟ أما شافوا القمح ينمو في الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟ أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد، وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي مصطفى؟ أما قرأوا شعر العباس والمجذوب؟ أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسوا الأشواق القديمة؟ ألا يحبون الوطن كما نحبه؟ إذا لماذا يحبونه وكأنهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنهم مسخّرون لخرابه؟
أجلس هنا بين قوم أحرار في بلد حر، أحس البرد في عظامي واليوم ليس باردا. أنتمي إلى أمة مقهورة ودولة تافهة. أنظر إليهم يكرمون رجالهم ونساءهم وهم أحياء، ولو كان أمثال هؤلاء عندنا لقتلوهم أو سجنوهم أو شرّدوهم في الآفاق.
من الذي يبني لك المستقبل يا هداك الله وأنت تذبح الخيل وتبقي العربات، وتميت الأرض وتحيي الآفات؟
الدكتور “إدون كير”، كان حتى عام 1986 رئيسا للمجلس القومي لتقييم الدرجات الأكاديمية وهو مجلس أنشئ بميثاق ملكي عام 1966 لمنح الدرجات الجامعية للذين يدرسون في معاهد غير الجامعات وإليه يرجع الفضل أن الفوارق بين الجامعات والمعاهد الفنية Poly-technics قد أُلغيت وأصبحت هذه المعاهد تمنح شهادات جامعية معترف بها. منحوه الزمالة الفخرية لهذا ولأنه ساعد في تذليل العقبات كي تصبح كلية “قولد سمث” مدرسة كاملة في جامعة لندن.
بروفسر “كارل ويت” حامل نوط الإمبراطورية البريطانية وعضو الأكاديمية الملكية. رسام، يسمونه “أبا” الفن الحديث في بريطانيا. تعلّم الرسم في كلية “قولد سمث” عام 1933. عمل مدرّسا في الكلية الملكية للفنون حيث صار أستاذا عام 1957 إلى أن تقاعد عام 1973. قال عميد الكلية في تزكيته:
“إن منح الزمالة الفخرية لهذا الابن النابه من أبناء كلية “قولد سمث” يدل على عمق فخرنا به وأيضا على السمعة التي كوّنتها الكلية أنها المعهد الأول لتدريب الرسامين في بريطانيا”.
من أين جاء هؤلاء الناس؟ أما أرضعتهم الأمهات والعمات والخالات؟ أما أصغوا للرياح تهبُّ من الشمال والجنوب؟ أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط؟ أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسوا الأشواق القديمة؟ ألا يحبون الوطن كما نحبه؟ إذا لماذا يحبونه وكأنهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنهم مسخّرون لخرابه؟
الرايت أنُربل فايكاونت (وايتلو)، اسكتلندي حامل نيشان الإمبراطورية من طبقة فارس. زميل شرف. يحمل درجة الدكتوراه في القانون. عضو في مجلس مستشاري الملكة. تخرّج من جامعة كيمبردج. نال وسام الشجاعة لحسن بلائه في الحرب العالمية الثانية. انتُخب نائبا في مجلس العموم عام 1954 عمل وزيرا للتجارة ووزيرا للمالية ووزيرا لشؤون إيرلندا الشمالية. انتُخب عام 1975 نائبا لرئيس الحزب وأصبح نائبا لمسز ثاتشر رئيسة الوزراء. في عام 1985 دخل مجلس اللوردات وأصبح “زعيما” للمجلس. في عام 1988 ترك الحياة السياسية باختياره ولكنه لم يختف من الحياة العامة، فقد صار بحكم سنّه وتجربته السياسية الطويلة أحد الحكماء الذين يلجأون إليهم في الملمات. سوف يعيش باقي عمره معزّزا وحين يموت، سوف يموت قرير العين في فراشه. تكتب صحيفة الـ “تايمز” صفحة كاملة في تأبينه، وكل الصحف. سوف تقام الصلاة على روحه في “ويستمنستر أبي” وتُعاد طباعة مذكراته وتصدر كتب عن حياته. سوف يحتل مكانه الذي يستحقه في سجل تاريخ الأمة، ويصبح جزءا من المثلوجيا القومية التي تعمل في وجدان الشعب وتنتقل من جيل إلى جيل.
وهل حرائر النساء من “سودري” و”حمرة الوز” و”حمرة الشيخ” ما زلن يتسوّلن في شوارع الخرطوم؟
هل ما زال أهل الجنوب ينزحون إلى الشمال وأهل الشمال يهربون إلى أي بلد تقبلهم؟
هل أسعار الدولار ما تزال في صعود وأقدار الناس في هبوط؟ أما زالوا يحلمون أن يقيمون على جثة السودان المسكين خلافة إسلامية سودانية يبايعها أهل مصر وبلاد الشام والمغرب واليمن والعراق وبلاد جزيرة العرب؟
من أين جاء هؤلاء الناس؟ بل، من أين هؤلاء الناس؟