أ. محمد علي صايغ
الصراع الانساني لم يتوقف منذ بدء الخليقة , وقديما كان يطلق عليه صراع الخير والشر , لكنه في حقيقته صراع مصالح , سواء بين الافراد أو الدول , والغلبة دائما لمن يملك القوة ومقتضياتها . والحروب دائما هي نتيجة صراع المصالح الخفي أو المعلن , وإن حاول البشر تغليف الحروب بشعارات واهداف لها طابع الدفاع عن النفس أو لدفع شرور الطرف الآخر أو الحفاظ على الحقوق .. الخ . ومع امتداد الحروب وما تخلفه من انتهاكات ومآسي , ومع انتشار الصراع على السلطة والامساك بها عبر الانقلابات وظهور الانظمة الاستبدادية الشمولية التي امسكت بخناق الشعوب وتجاوزت بممارستها على ابسط حقوق الانسان . ظهر مفهوم ما يعرف بالعدالة الانتقالية ثم مفهوم المصالحة الوطنية كمعالجة لآثار ما تخلفه تلك الحروب وتجاوزات الانظمة التي انتهكت الحقوق واستباحتها .
ويعتبر مفهوم العدالة الانتقالية حديثا لم يكن معروفا بشكل فعلي قبل القرن العشرين . وقد ظهر وطبق عقب الحرب العالمية الثانية حينما انشئت محاكم نورمبرج في المانيا عام 1945 لمحاكمة القادة الالمان على ما ارتكبوه من جرائم اثناء الحرب , واستغرقت المحاكمات اربع سنوات وتمحورت حول التجريم للقادة النازيين وآليات المحاكمة لهم . ومع انهيار الاتحاد السوفيتي، وما أعقبه من تغييرات سياسية مختلفة في دول أوربا الشرقية ظهرت آليات أخرى لدعم المحاسبة والمحاكمة مثل لجان الحقيقة والتعويضات . ثم جاءت تجربة دولة جنوب أفريقيا من خلال تشكيل لجنة “الحقيقة والمصالحة” الشهيرة في 1995 للتعامل مع قضايا الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها السكان السود في جنوب إفريقيا في فترة التمييز العنصري . وكذلك ما اطلق عليه في المغرب بتجربة هيئة الإنصاف والمصالحة .
ولا بد عند تناول العدالة الانتقالية من التعرف على وجهات النظر أو المقاربات لتسوية جرائم الماضي . وتبرز في هذا المجال ثلاث مقاربات :
الاولى : تتمسك بالقصاص العنيف : وترى ان سقوط النظام المستبد او الانتصار في حرب فرصة ثمينة للأخذ بالثأر من رأس النظام وأعوانه الذين استخدموا في ايقاع البطش والتنكيل بالمعارضين . وبالتالي سقوطهم وسقوط الحماية عنهم واقصائهم عن المشهد ولو ادى ذلك الى الدخول في دوامة العنف والعنف المضاد , ودخول اطراف متعددة على الخط , مما قد يودي الى انقسامات مجتمعية وتمزيق النسيج الاجتماعي , وقد يمتد الصراع على خلفيتها لعشرات السنين . وقد يتحول ممن كانوا ثوارا الى مستبدين جدد بعد الاطاحة برموز النظام السابق واجتثاثهم , كما حدث في العراق بعد اسقاط النظام السابق واعلان اجتثاث البعث .
الثانية : تدعو الى نسيان الماضي : ويتمسك اصحاب هذا الرأي بالدفع على تأسيس مرحلة جديدة ونسيان الماضي كلية , بغية ارساء سلام مجتمعي يشارك فيه جميع طبقات المجتمع , وتوفير مبالغ طائلة وجهود مضنية في حال اللجوء للعدالة الانتقالية التي في النهاية لن تتوصل الى عدالة كلية وقد تطال جزئيا اشخاصا ارتكبوا الانتهاكات , واشخاص قد يكونوا ابرياء قد غرر بهم او دفع بهم على سبيل الكيد . هذه النظرة تتمسك بالحاضر الآني ونسيان الماضي الذي قد يؤول فيما بعد الى تدهور المستقبل . خاصة اذا تمكن النظام القديم – وهو يمتلك كل الآليات وعلى الاخص إمساكه بالدولة العميقة – من إسقاط أو إزاحة من أسقطوه , او تمكن من إحداث الفوضى لإفشال النظام الجديد في بدايات تأسيسه . فنسيان الماضي لا يؤدي الى نتيجة واحدة ثابته , وقد يدفع ايضا الى مزيد من الانتهاكات وتكرارها . ومن يرتكب الانتهاكات والفظائع لن يتردد في اغتنام أي فرصه للانقضاض ثانية على من سلبوه سلطته . كما ان نسيان الماضي لا يدوم وسيظهر على الساحة السياسية من يدفع بإعادة النظر في الدفاتر القديمة والمطالبة بمحاسبة من تمادى في استخدام سلطته السياسية سابقا لمعاقبة معارضيه ومنافسيه السياسيين خلال التنافس على قيادة المرحلة الجديدة .
الثالثة : تتمسك بسياسات الحق والعدل : ويعتبر اصحاب هذا الاتجاه بأن سياسات الحق والعدل هي البديل العملي لسياسات القصاص العنيف والنسيان , عن طريق تقديم حزمة متكاملة لتقويم سلوك الدولة وأجهزتها , ولإعادة النظر في الجرائم التي ارتكبتها سابقا , والعمل على محاسبة من ساهم في جرائم الماضي دون الاخلال بالقانون , والعمل على تجاوز القيود القانونية التقليدية التي تقف عائقا امام تحقيق العدالة , ومن هنا نشأت فكرة العدالة الانتقالية .
وتعرف العدالة الانتقالية بانها مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي يتم تطبيقها لمعالجة ما ورثته الحروب من انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان .
ويسعى برنامج العدالة الانتقالية عادة الى تحقيق مجموعة من الاهداف تتضمن وقف الانتهاكات والتحقيق في الجرائم الماضية وتحديد المسؤولين عنها ومعاقبتهم وتعويض الضحايا في سبيل منع وقوع انتهاكات مستقبلية , والحفاظ على السلام الدائم , والعمل على ترويج المصالحات الفردية والوطنية .
والمصالحة الوطنية تعتبر صيغة للوصول الى توافق وطني بين اطراف النزاع حين وصوله الى نهايته , او الى طريق مسدود في حسم هذا النزاع . والانتقال من المنهجية العنيفة لحسم النزاع الى المنهجية المسالمة لردم الفجوات بين الأطراف المتخاصمة أو المتحاربة . على قاعدة الاعتراف بتعددية المصالح المجتمعية , و بتعددية تمثيلياتها الفكرية و السياسية و الاجتماعية و الثقافية .
وللعدالة الانتقالية مراحل لتحقيقها :
1-الدعاوي الجنائية : وتتركز التحقيقات القضائية مع المسؤولين خاصة من الصف الاول عن ارتكابهم الانتهاكات الجسيمة أو الممنهجة , وقد أعملت هذه الالية في محاكمات نورمبرج للنازيين الالمان , كما يمكن ان تتم التحقيقات على المستوى الاقليمي او الدولي أو من قبل بعض الاجهزة الخاصة مثل المحكمة الخاصة بسيراليون .
ولعل أهم معوقات التحقيق القضائي هي التقنيات الخاصة في هذا النوع من الجرائم التي تختلف عن الجرائم العادية , في ان التحقيق القضائي هنا يعتمد على ترتيبات خاصة في بناء الجريمة وتنفيذها لأنها في الغالب يتم ارتكابها من جانب اشخاص او كيانات رسمية تتمتع بقوة سياسية كقوات الجيش والشرطة أو قوات شيه عسكرية رسمية او غير رسمية أو اجهزة امنية مما يتطلب معرفة عمل هذه المؤسسات قانونا وتحليل تصرفاتها , والاوامر ومصدرها , ومعرفة هيكليتها واجراءاتها التأديبية , مما يتطلب مهارات تحقيقية وتخصصات وخبرات لهذ النوع من التحقيقات , وانشاء وحدات متمكنة للتعامل مع هذا النوع من الجرائم الخطيرة مثل القضاة والمحامون المهرة , وخبراء تحليل عسكريون وسياسيون وطب شرعي كما يستلزم ذلك العمل مع المنظمات غير الحكومية لمساعدة الضحايا وتوعيتهم بحقوقهم وتمكينهم من الادلاء بإفاداتهم وشهادتهم وتعريفهم بحقوقهم . ذلك لان اشراك الضحايا في العملية التحقيقية هدفه إشعارهم بأهميتهم , ولتقديم الادلة ضد المتهمين دون خوف . كما انه يجب حماية الشهود من الضغوط تجنبا لعمليات شراء صمتهم بالضغط والتهديد .
2-لجان الحقيقة : وهي هيئات غير قضائية تجري تحقيقات بشأن الانتهاكات التي وقعت في الماضي القريب , وإصدار تقارير وتوصيات بشأن سبل معالجة الانتهاكات والترويج للمصالحة وتعويض الضحايا واحياء ذكراهم , وتقديم مقترحات لمنع تكرار الانتهاكات مستقبلا .
3-برامج التعويض وجبر الضرر : وهذه مبادرات تتم بدعم من الدولة , وتسهم في جبر الاضرار المادية والمعنوية المترتبة على انتهاكات الماضي وتشمل خليط من التعويضات المادية والرمزية كالتعويضات المالية والاعتذارات الرسمية … وعلى ان لا تتخذ التعويضات شكل ” الحسنة” التي تعطى للسائل , وانما يجب ان يترافق جبر الضرر مع الاعتراف العلني للدولة به والاقرار بمعالجة آثاره , وبان هذا التعويض حقا لهم , وواجب على الدولة تجاههم .
4-الاصلاح المؤسسي : ويستهدف اصلاح المؤسسات التي كانت سببا في الانتهاكات ( وخاصة القطاع الامني والعسكري والشرطي والقضائي .. الخ ) , واعادة هيكلة هذه الاجهزة وتطهيرها من المسؤولين الفاسدين وغير الأكفاء , وان تتابع الجهود الى تعديلات تشريعية واحيانا دستورية وكذلك اخضاع المؤسسات الى ضمانات المحاسبة والاستقلالية والشفافية وتوفير وسائل الحصول على العدالة وانشاء برامج تدريبية للمسؤولين العموميين حول معايير حقوق الانسان والقانون الانساني الدولي .
5-جهود تخليد الذكرى : وتعتمد على انشاء المتاحف والنصب التذكارية التي تحفظ الذكرى للضحايا , لرفع مستوى الوعي الاخلاقي بشأن جرائم الماضي لمنع تكرارها مرة ثانية .
إن هذه المراحل أو الآليات لا تطبق بصورة منفصلة عن بعضها البعض , وانما يجب ان تعمل وفق رؤية تكاملية وشمولية . إذ انه بعد الارث الكبير من انتهاكات حقوق الانسان وخاصة في الدول الاستبدادية التي تراكمت فيها الانتهاكات وأوصلت بلدانها الى حالة انفجار الازمات والنزاعات الاهلية والحروب , فإن مجتمعات تلك الدول – بحكم الواقع – تفقد الثقة بحكم القانون وتتمسك بدوافع الانتقام . ومن هنا يبرز دور العدالة الانتقالية في تخفيض أو تحجيم وتيرة العنف والعنف المتبادل من خلال تسييد قواعد القانون عبر الدعاوي والتحقيقات القضائية المستقلة وانشاء لجان التحقيق وبرامج التعويض عن الضرر … لكن تطبيق العدالة الانتقالية في كثير من الاحيان لا تسير بالسلاسة النظرية المرجوة , وكثيرا ما يقف بوجه تطبيقها معوقات تقف أمام تحقيقها . ولعل أهم المعوقات للعدالة الانتقالية الآتي :
أولا : غياب الإرادة السياسية : ان تحقيق العدالة الانتقالية في بلد ما بدون وجود ارادة سياسية تعتزم محاسبة مرتكبي الجرائم يعد أمر لا جدوى منه , مما يستوجب حين تطبيق العدالة الانتقالية عدم تسييس المحاكمات ونزع الطابع السياسي عنها وذلك عن طريق تعيين مجلس مستقل للإشراف على التحقيقات والمقاضاة مثلما حدث في جنوب افريقيا , وكما حدث في المكسيك حينما تم تعيين مدعي عام خاص للتحقيق في الجرائم الفيدرالية التي ارتكبها الموظفين العموميين ضد الحركات السياسية والاجتماعية تجسيدا لضرورة وجود الثقة في تطبيق القانون . كما يجب إعمال مبدأ افتراض البراءة قبل المحاكمة لضمان نزاهة المحاكمة .
ثانيا : عدم صياغة استراتيجية واضحة : ذلك لان تخبط السلطة القضائية في صياغة القرارات وعدم قدرتها على رسم طريق واضح للانتقال بالبلاد الى وضع افضل يضعف فرصة تحقيق العدالة الانتقالية . لذا لا بد من وجود خطة استراتيجية تصاغ بطريقه جيدة خاصة في حالة وجود عدد ضخم من مرتكبي الجرائم الواجب محاسبتهم عليها , وعلى ان تتسم الخطة بالشفافية , وان يتم وضع خارطة تفصيلية قبل الدخول في عملية التقاضي , تتضمن فكرة عامة عن نوع الجرائم المرتكبة وزمن ومكان ارتكابها , والهوية المرجحة لمرتكبيها , والاستناد الى التحقيقات التفصيلية والرسمية التي يجب ان يقوم بها مجموعة مؤهلة , وبمشاركة المجتمع المدني والمختصين من ذوي الخبرة في هذا الاتجاه .
ثالثا : عدم وجود نهج تقني ملائم لفهم الجرائم المرتكبة : لعل أهم معوقات تحقيق العدالة الانتقالية هو اختلاف تقنيات التحقيق في جرائم النظام واجهزته . وهنا يجب التفريق بين الجرائم المنظمة التي يتم فيها تقسيم العمل بين المخططين والمنفذين وبين الجرائم الفردية الناتجة عن الفوضى المجتمعية الحاصلة . إذ ان عدم وجود ترتيبات في بناء الجريمة وتنفيذها يجعل من العسير التفريق بين هذين المستويين من الجرائم , مما يتطلب ضرورة تعدد تخصصات القائمين بالتحقيق في الجرائم , وجمع الادلة من خلال استرجاع الوثائق وتحليلها , وما يتطلب ذلك من مهارة في التعامل معها لمنع الاشخاص موضوع التحقيق من تخريب الادلة او تحريفها , كما يتطلب ذلك وضع نموذج مقترح لهيكل التحقيقات يقوم على تحليل الانماط المختلفة عند التحقيق في الجرائم المرتكبة حيث يشير كل نمط الى مجموعة من الوقائع التي تنطوي على درجة من التخطيط والسيطرة المركزية للأجهزة الحكومية , وتعتمد في القياس على تكرارها ومكان حدوثها وطبيعتها , مما يساعد في اثبات هذه الجريمة بعينها كجزء من عملية مخططه ومنظمة وليست جريمة قائمة على دوافع الانتقام الفردي العشوائي . ورغم ان جرائم اجهزة النظام لا تتصل جميعها بشكل منظم فإن التحقيق على اساس فرز الانماط يمكن ان يكون حاسما لتحديد مسؤولية الاشخاص الذين يعملون من وراء ستار .
رابعا : عدم احترام احتياجات وحقوق الضحايا : فلا فائدة من الحديث عن العدالة الانتقالية اذا لم يتم إشراك الضحايا في العملية , لانهم يعتبرون الهدف من تحقيقها في الاساس وأكثر من عانوا من غيابها . لذلك يجب على الدولة في مرحلة الانتقال السياسي القيام باشراك الضحايا في كافة ادوار التحقيق والمحاكمة , وحماية الشهود عند الادلاء بشهادتهم وكفالة حمايتهم بعد إدلائهم بها انسجاما مع مبدأ ” عدم الاضرار بهم ” .