بقلم محمد علي صايغ
تختلف الأنظمة السياسية تبعا لتطور وعي المجتمعات في الدول وقدرتها على إنجاز عقد اجتماعي وسياسي ينبثق عنه الدستور والقوانين الناظمة لإرساء قواعد للحكم السياسي في بلدانها . في حين أن غياب العقد الاجتماعي / السياسي في بلدان أخرى يؤدي إلى أن يتمظهر الحكم بفرض الحاكم عقدا سلطانياً وتسلطياً يعكسه دستور وقوانين ترسخ استدامة حكمه وتمنحه صلاحيات شبه إلهية عبر مؤسسات وهيئات شكلية تدور بفلك الحاكم وتسبح بحمده .
ويختلف أيضاً وجود وفاعلية الحكم المحلي او الإدارة المحلية تبعاً لطبيعة وبنية المجتمع وتطوره السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي .. إذ تعتبر فاعلية الحكم المحلي جزءاً من فاعلية وتركيبة أنظمة الحكم القائمة ، ويتسع دوره وأدائه وجوداً وعدماً وفقا للنظام الذي يستظل به ، إن كان ديمقراطياً أو ديكتاتورياً .
واذا كانت الادارة اللامركزية مرتبطة بمواضيع متعلقة بالنظام الإداري ولا علاقة لها بالنظام السياسي للدولة ، فإن أساس توزيع الوظيفة الإدارية بين السلطة المركزية وبين هيئات ادارية مستقلة تؤدي الى منحها الشخصية الاعتبارية للسلطات المحلية وخضوعها لرقابة السلطة المركزية . وعلى ذلك لا يمكن أن يكون هناك لامركزية إدارية محلية بدون مركزية ادارية عامة . فاللامركزية عامل مكمل لتلافي عيوب المركزية وليست عامل إلغاء للسلطة المركزية .
وعلى ذلك فإن اللامركزية الادارية تقوم على اعتراف السلطة المركزية بوجود مصالح محلية متمايزة عن المصالح العامة للدولة يجب مراعاتها ، مما يستدعي اكساب السلطات المحلية شخصية معنوية خاصة وتمتعها بالاستقلال المالي والإداري ، وقيام السلطة المحلية اللامركزية على أساس الانتخاب الشعبي .
أشكال اللامركزية الإدارية المطروحة في سورية اليوم
1- اللامركزية السياسية :
تختلف اللامركزية الادارية عن اللامركزية السياسية في أن الأخيرة مرتبطة بشكل الدولة السياسي وطبيعة النظام السياسي فيها ، وتندرج تحت موضوعات القانون الدستوري والنظم السياسية وليس القانون الاداري ، اذ ان تغيير شكل الدولة السياسي يتم بتغيير دستوري وليس قانوني ، بمعنى أن تتوزع فيها الوظيفة السياسية ( السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية ) وليس الادارية فقط بين المركز والولايات . ولذلك فإن اللامركزية السياسية لا تجد تطبيقاً لها إلا في الدول الفيدرالية او الكونفيدرالية .
وبما ان اللامركزية الادارية تتطابق مع الادارة المحلية ، وحيث أن التجربة المرة والمشوهة في تطبيق نظام الادارة المحلية في سوريا قد أعطى الانطباع المعاكس لمفهوم الإدارة المحلية ، فقد اتجه البعض تحت ضغط الظروف السياسية والخشية من الدفع باتجاه التقسيم أو التمهيد للتقسيم عبر المطالبة بالنظام الفيدرالي أو بأشكال من الإدارة السياسية كنظام الحكم الذاتي ، إلى تبني – تحت ضغط الظروف وتبدلها – ما سمي مؤخراً بالادارة اللامركزية الموسعة .
2- اللامركزية الادارية الموسعة :
إن مصطلح اللامركزية الإدارية الموسعة يعتبر مفهوم ملتبس وغامض ولا يستند إلى أي مفهوم إداري وقانوني علمي وإنما يمكن أن يشكل تعبيراً ناتجاً عن حالة سياسية راهنة . كما أن الحدود والمساحة الفاصلة بين اللامركزية الموسعة وبين اللامركزية الإدارية غير واضحة ومحددة ويمكن أن يشكل التوسع غير المنضبط فيها إلى الجنوح نحو اللامركزية السياسية التي هي فعليا الفيدرالية في شكلها الإداري / السياسي .
ويمكن تصور اللامركزية الإدارية الموسعة في توسيع صلاحيات الإدارة اللامركزية بشكل أكبر وأوسع مع تحديد ضوابط تحد من السلطة المركزية في تجاوز هذه الصلاحيات .
كما يمكن تصور أن تشمل صلاحيات السلطة اللامركزية المحلية الموسعة بما يأتي :
1- تخفيض تبعية السلطات المحلية اللامركزية للسلطات المركزية الحكومية . وبالتالي تحديد أوجه الرقابة وحصرها بقانون يتم إقراره بالمجلس النيابي ، ويحدد القانون صلاحيات الادارة اللامركزية بدقة ويتم التعامل مع المراسيم والقرارات المركزية وفقا للقانون وبما لا يتناقض مع صلاحيات الإدارة اللامركزية المحلية . وهذا يستدعي أيضاً إصلاح الجهاز الرقابي وسحب الصلاحيات الرقابية من السلطات المركزية ( وزراء ، محافظين .. ) إلى أجهزة رقابية متخصصة ومستقلة أو إنشاء جهاز رقابي خاص يختص بالنظر في قانونية القرارات المتخذة من السلطات المركزية أو السلطات اللامركزية .
2- ربط اجهزة الرقابة بالسلطة التشريعية ( مجلس النواب ) خاصة في النظر في القوانين المحلية ودستوريتها . وإحالة القوانين التي يحتمل مخالفتها للدستور إلى المحكمة الدستورية العليا . ذلك لأن البرلمان من الممكن أن يتولى مراقبة عمل المؤسسات الرسمية العامة ومن ضمنها السلطات المحلية . وعلى ذلك فإن المراسيم ذات التداعيات السياسية كقرارات الاستملاك أو نزع الملكية مثلاً .. الخ يجب أن تنال موافقة أغلبية أعضاء المجلس النيابي لسريانها وتطبيقها .
3- اللامركزية المالية : وتتمثل في الإقرار بحق السلطات المحلية اللامركزية في تأمين موارد ذاتية من مصادر يحددها القانون ( ضرائب ، رسوم … ) تستوفى مباشرة من المكلفين وتصرف على الخدمات المحلية دون أن تقوم السلطات المركزية باستيفائها لحساب جميع السلطات المحلية ثم توزيعها بشكل منفرد وأحيانا بشكل اعتباطي أو انتقائي على كل منها وفقا لمعايير تحددها السلطات المركزية في غياب السلطات اللامركزية المحلية . وبالتالي فإن اللامركزية الموسعة تستدعي تحصين استقلالية السلطات اللامركزية المالي وتعزيز هذه الاستقلالية لإدارة شؤونها بقدراتها الذاتية دون الاتكال على تحويلات السلطة المركزية .
4- منح السلطات المحلية الحق في تحديد الملاكات الوظيفية والتسلسل الوظيفي لموظفيها ورواتبهم وشروط توظيفهم وتعويضاتهم والتعاقد معهم بما لا يتناقض مع الرؤية العامة للسياسة الوظيفية والقانون العام الصادر عن السلطة التشريعية . وبما يلبي احتياجات السلطة اللامركزية . وقد يكون إنشاء معهد وطني لتدريب العاملين والموظفين العامين ومدرائهم المحليين على فهم القوانين وأصول تنفيذها كخطوة مهمة في الارتقاء المتوازن للكوادر العاملة في جميع المناطق الخاضعة للإدارة اللامركزية .
5- فصل السلطات المحلية اللامركزية عن الاجهزة الامنية وتدخلها في شؤونها ، وتحريرها من الهيمنة على أشخاصها وقراراتها ، وضبط عمل تلك الأجهزة الأمنية والشرطية بتطبيق القانون الخاص بها . وهذا يقتضي وجود جهاز شرطة على المستوى المحلي يرتبط برئيس المجلس المحلي المنتخب مع مجلسه ، يتولى حفظ الأمن ويتولى التنسيق مع جهاز الشرطة المركزي وطلب المؤازرة حين الحاجة . ويقوم جهاز الشرطة المحلي وفقاً للصلاحيات المحددة بالقانون بكامل مهام الشرطة الاعتيادية في حفظ النظام والأمن .
على أنه في كل الأحوال يجب التأكيد على أن وزارة الخارجية ومهامها واختصاصاتها ، والجيش الوطني ومهامه وقراراته بشأن الدفاع عن الوطن ، والثروات الوطنية الظاهرة والباطنة ، والجغرافيا السورية والحدود الدولية ، قضايا مرتبطة حصراً بالسلطة المركزية ، باعتبارهم من متعلقات الأمن القومي السوري .
3- اللامركزية الديمقراطية :
في سعي من أحد المكونات السورية ( الاكراد ) للتخفيف من حدة مطالبتهم بالفيدرالية والمناورة السياسية عليها ، أعلنوا قبولهم بنظام اللامركزية الديمقراطية وهو أيضاً مفهوم ملتبس وغامض جداً ومفتوح على العديد من التأويلات والرهانات . ذلك لأن الديمقراطية مفهوم يتحدد عند التطبيق بنوعية نظام الحكم ، إضافة إلى أن أنظمة الحكم الديمقراطية متعددة سواء في الدولة الموحدة أو الاتحادية .
والمشكلة في اللامركزية الديمقراطية اختلاف النظرة والموقف وزاوية النظر من شخص لآخر ، وحسب مايريد ويرغب كل شخص منها . كما تختلف الرؤية لمساحة تطبيقها حسب المصلحة ومصادر القوة التي يمتلكها في توسيع المساحة التي قد تصل الى التقاطع مع الفيدرالية وفرضها .
ولذلك لابد من معيار يحدد ويضبط أي صيغة للادارة المحلية بحيث لا تنقلب إلى الفيدرالية تحت يافطة اللامركزية الديمقراطية أو غيرها ، ولا تتقزم إلى حد التماهي مع اللامركزية الادارية الشكلية كما هي مطبقة الآن في سورية . وهناك معيارين للإدارة اللامركزية إذا تم تجاوزهما تنقلب الإدارة حتما من اللامركزية مهما كانت تسميتها الى الفيدرالية :
اولاهما : إشراف ورقابة الحكومة المركزية سواءً الرقابة المباشرة أو عن طريق جهاز رقابي مختص ( القانون يحدد حجم الاشراف والصلاحيات ) .
وثانيهما : عدم امتلاك الادارة المحلية الصلاحيات التشريعية المستقلة عن السلطة التشريعية للدولة .
وفيما عدا ذلك ، فإن أية عملية تنظيم وزيادة في صلاحيات السلطات المحلية تبقى مشروعة من أجل إشراك كافة شرائح وأطياف المجتمع السوري في توسيع حقوقه في المشاركة وصنع القرار في الدولة .
وفي سبيل حل إشكالات التنازع في الصلاحيات بين السلطة المركزية ، والإدارات المحلية هناك ثلاثة اتجاهات :
1- تحديد صلاحيات السلطة المركزية على سبيل الحصر في قانون الادارة اللامركزية وترك مالا يدخل في اختصاص السلطة المركزية ضمن اختصاص المحليات .وهذا يؤدي الى توسيع اختصاصات المحليات ، لأن المشرع مهما وسع من صلاحيات السلطة المركزية فإن المسائل المستجدة العديدة ستدخل في صلاحية الولايات بفعل تغير الظروف والأحوال في الزمان والمكان .
2- تحديد صلاحيات المحليات في القانون على سبيل الحصر وترك باقي الصلاحيات للسلطة المركزية .مما يؤدي إلى توسيع صلاحيات السلطة المركزية على حساب المحليات .
3- الجمع بين الاتجاهين السابقين حيث يتم تحديد صلاحيات السلطة المركزية والمحليات كلاهما على سبيل الحصر ، وعند حصول تغيير او طارئ ظرفي يفرض اختصاصاً جديداً فيمكن اللجوء الى المؤسسات الحاكمة ( البرلمان ) لتحديد تبعية هذا الاختصاص قرباً او بعداً من اختصاص السلطة المركزية والمحليات ، ويفصل البرلمان أو يبت بعائدية الاختصاص الجديد للسلطة المركزية أم للمحليات .
ولقد أثبتت التجربة العملية للدول أن اللامركزية الادارية نظرياً وتطبيقياً في مختلف الانظمة الديمقراطية ( فرنسا مثلا ) قد أحدثت مناخاً عاماً في مشاركة الفعاليات المجتمعية والمواطنين بفعالية ، وإطلاق مبادرات الجميع في المساهمة بصناعة القرارات في مجتمعها المحلي مما يحد من طغيان السلطة المركزية ومن دور البيروقراطية الإدارية في إعاقة المجتمعات المحلية من النهوض والتطور . بعكس الأنظمة الدكتاتورية التي حولت قانون الإدارة اللامركزية إلى مظهر شكلي ودعائي ، وربطت الإدارات المحلية برابط التبعية القسرية ، بدلاً من ممارسة الإدارات الاستقلالية بما يخدم إدارتها . وبدلاً من أن تكون اللامركزية الادارية مدخلا لاستقلال الإدارات المالي والإداري ، وأن يرتكز التمثيل وممارسة الصلاحيات فيها على أساس الانتخاب الشعبي ، فإن تلك المشروعية القانونية الخاصة باللامركزية الإدارية تتحول في ظل الأنظمة الاستبدادية الى مجرد نصوص قانونية على ورق لا تجد لها مكانا في التطبيق العملي .
ومن هنا فإن استغلال طرف من الأطراف حالة الإنهاك للدولة السورية سنوات الحرب التي انتجت الموت والدمار والهجرة والتهجير من أجل فرض شكل معين للادارة تصب في الفدرلة ، ما هو إلا تعدي على الوطنية السورية ، كما أن فرض تقسيمات ادارية مصطنعة وإجراء إعلانات انتخابية من على ظهر الأزمة السورية وضمن الظروف الاستثنائية للدولة وفي غياب المؤسسات الوطنية المنتخبة هو انقلاب على الوحدة الوطنية عن طريق فرض شكلاً للدولة بشكل منفرد ، في حين أن شكل الدولة يتأسس وفق عقد اجتماعي و دستور يحدد شكل ونوع الإدارات المحلية ، يتم التوافق عليه من مجموع الشعب السوري وقواه الوطنية في ظل وحدة الدولة أرضاً وشعباً . إذ أن حل مشكلة الأقليات والإثنيات لا يمكن أن يتم إلا عبر الوطنية السورية الجامعة ، ومن خلال تأسيس نظام ديمقراطي تعددي تداولي جديد يحفظ حقوق المواطنة المتساوية ويصون حقوق الجميع ، وعلى أساس وطن واحد للجميع .