حسين حمدان العساف ـ كاتب وباحث
الحسكة ـ 5 تموز/يوليو 2025م
(في الصورة) مجلس الشعب السوري في مناقشة دستور 1950
بعد إعلان إدارة العمليات العسكرية إلغاء العمل بدستور 2012، وحلّ مجلس الشعب السوري والجيش والأجهزة الأمنية، أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع مرسوماً يقضي بتشكيل لجنة لانتخاب مجلس الشعب. حدّد المرسوم عدد أعضائه بمئة وخمسين عضواً، تنتخب الهيئات الفرعية الناخبة ثلثيهم، فيما يعيّن رئيس الجمهورية الثلث الباقي. ولم يُحدَّد موعد رسمي لإجراء الانتخابات، غير أنّ التوقعات تشير إلى انعقادها خلال فترة تتراوح بين شهرين وثلاثة أشهر.
ويعرف أبناء الشعب السوري أنّه لم تُجرَ في مجالس الشعب السابقة، طوال عهد نظام الأسد، أيّ انتخابات حرة أو نزيهة؛ إذ كانت القوائم تأتي جاهزة من الأجهزة الأمنية، تُفرض على الشعب فرضاً، ويُروَّج لها إعلامياً بغطاء زائف تحت اسم “انتخابات”. وبموجب هذا النهج، كان المطلوب للترشّح والنجاح الولاء المطلق للنظام قبل أي كفاءة في تمثيل الناس. ومن هنا وجدنا كثيراً من الأعضاء يتسابقون في إظهار الولاء “للأب القائد” والتغنّي بابنه “سيّد الوطن”، حتى أتقنوا فنون النفاق والانتهاز والتملّق، ودفع الأموال التي تفتح لهم أبواب المجلس وتضمن بقاءهم فيه لدورات متعاقبة.
وما إن يدخلوا المجلس حتى يعرفوا حدود أدوارهم: مدح رأس النظام، تجنّب نقد السلطة، والاكتفاء بتلميع صورتها وتبرير تقصيرها. لم يكونوا يرهقون النظام بطرح مشكلات مناطقهم، ولم يلحّوا في طلب معالجتها. كانوا صامتين إلّا إذا عُرضت عليهم مراسيم أو قوانين أو أوامر من الجهات العليا، فيخرجون عندئذ من صمتهم مصفقين لها دون تحفظ. لقد تحوّل مجلس الشعب إلى “مجلس تصفيق”، وعُرضت أوضاع البلاد بصور برّاقة مزيفة تخالف الواقع. وزاد الطين بلة أنّ بعض الأعضاء استغلوا مناصبهم لممارسة السمسرة بين المواطنين والمسؤولين لقاء المال، فتحوّلت النيابة إلى وسيلة للإثراء الشخصي. ولم يكن غريباً أن يتكرّر وجود بعضهم أكثر من دورة، وأن يُمنح مقعد النيابة لأميّين أو شبه أميين.
أما اليوم، فتأتي الانتخابات الأولى بعد سقوط نظام الأسد، في وقت تسعى فيه الثورة لإعادة هيكلة الدولة ومؤسساتها على أسس جديدة مغايرة جذرياً للسابق. ومن المعروف أنّ نجاح هذه التجربة يتوقف على نزاهة ومهارة اللجنة العليا للانتخابات في أداء عملها. والمطلوب من المجلس الجديد أن يعكس طبيعة المرحلة الانتقالية بعد الثورة، وأن يكون مرآة لوجه سورية الجديد: دولة المواطنة والقانون.
ولن يتحقق ذلك إلّا بتمثيل حقيقي لجميع أطياف المجتمع السوري، دون إقصاء أو تمييز على أساس الدين أو المذهب أو العرق أو اللغة، وبحضور الموالاة والمعارضة على السواء، باستثناء من تلوث بالفساد أو تورط في إجرام النظام السابق. ولا بدّ من إجراء دراسة دقيقة لكل مرشح، والتحقق من سيرته الذاتية والاجتماعية بما يشهد له بالنزاهة والاستقامة وخدمة الناس. كما ينبغي ألا يكون أميّاً أو شبه أميّ، بل على الأقل حاملاً للشهادة الثانوية، على أن تُعطى الأولوية لحملة الشهادات الجامعية وما فوقها، ولأصحاب الكفاءات الأكاديمية المتنوعة التي يحتاجها البلد.
المعيار الحقيقي للترشح يجب أن يكون الكفاءة والقدرة على تمثيل الدائرة الانتخابية، لا الجاه أو النسب أو العشيرة أو المال. والعضو الجديد ينبغي أن يكون صوت مواطنيه الحقيقي، يرفع مطالبهم، ويسعى إلى خدمتهم، ويساهم في صياغة القوانين وإقرار الميزانية، ويمارس كامل صلاحياته في الرقابة والمحاسبة. عليه أن يثني على الحكومة إن أحسنت، وأن يحاسبها إن قصّرت، دون تصفيق أو تطبيل أو محاباة لأي مسؤول مهما علا شأنه.
إن اجتثاث إرث الفساد والتملق والسمسرة واجب، كما أنّ من الضروري تحديد مدة العضوية بدورة واحدة فقط، كي لا يتحوّل المقعد النيابي إلى وسيلة تمكين شخصي أو إلى جسر للتمدد في السلطة. ما نريده لمجلس الشعب الجديد هو مجلس يمارس صلاحياته كاملة في التشريع والرقابة وتعديل الدساتير والأنظمة، ويعزّز دولة المؤسسات وحكم القانون، ويفتح المجال لتعدد الأحزاب الوطنية المعارضة منها والموالية، شريطة أن تكون غير متورطة في الفساد أو الطائفية أو الاستبداد.
نريده مجلساً يعزّز دور منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني، ويرسخ حرية الصحافة والإعلام، ويقود جهود مكافحة الفساد، ويسعى إلى تحقيق العدالة الانتقالية. مجلساً تشهد جلساته مناقشات صاخبة مثمرة، ومعارضات بنّاءة، ومحاسبات مسؤولة لا تستثني أحداً، بمن فيهم رئيس الجمهورية نفسه. فهل سيكون المجلس القادم كذلك؟

انتخابات أم مهازل؟
الحسكة ـ 21 تموز/يوليو 2020م
كنت قد كتبت مقالاً سابقاً بعنوان: “انتخابات أم مهازل؟”، نشر على صفحات التواصل الاجتماعي، عن مهازل ما سُمّيت بانتخابات مجلس الشعب في دورته الأخيرة بمحافظة الحسكة المنعقدة في عهد النظام المخلوع، وهذا نصه:
تأتي انتخابات مجلس الشعب يوم الأحد 19 تموز 2020م، والناس في محافظة الحسكة، كما في بقية المحافظات السورية، يعيشون أزمات خانقة متراكمة أفقدتهم الأمل بالمستقبل: أزمة كهرباء، أزمة مياه، ارتفاع فاحش في أسعار التموين وغيرها، انهيار متدرج في قيمة الليرة، بطالة متفشية، وانحطاط أخلاقي عام. يضاف إلى ذلك الاحتلالات العسكرية للأراضي السورية، وتصاعد المشاريع الطائفية والعرقية، وهيمنة شبح التقسيم الذي يهدد وحدة البلاد. أما السلطة الحاكمة، فوقفت إزاء كل ذلك موقف العاجز، حتى لم يبق لها في الجزيرة سوى مربعين أمنيين مترنحين في الحسكة والقامشلي، لا تتجاوز مساحتهما بضعة أمتار، أوهى من خيوط العنكبوت.
في هذا الوقت القاتم، ومع الخوف من جائحة كورونا التي أخذت تتسلل إلى ديار الناس، جرت انتخابات “مجلس التصفيق” وسط مقاطعة شعبية واسعة. يعرف السوريون نتائجها مسبقاً، وقد خبروا ألاعيبها نصف قرن، ففقدوا الثقة بها وبأسمائها. كانت القوائم مفروضة عليهم، وهدف معظم المرشحين تحقيق مصالح شخصية قبل أي خدمة عامة. ومع تقديري للقلة القليلة التي خدمت مجتمعها بقدر محدود، فإنّ القائمة خلت من أي صوت معارض، كما أنّ المرشحين لم يعلنوا برامج انتخابية واضحة، وإن أعلنوا فهي شكلية لا يثق بها أحد.
الأغلبية الساحقة منهم تفتقر إلى الكفاءات القانونية والعلمية، وبعضهم أنصاف متعلمين، ووجوه مكررة ملّها الناس بعدما تعاقبت على المجلس ثلاث مرات أو أكثر من دون فائدة. وكأن مجتمع الجزيرة عقم عن إنجاب الكفاءات والأصوات الجريئة، وكأنّه لم يبق في الساحة إلا “حديدان”. والأسوأ أنّ النظام تخلّى عن عادته القديمة في توزيع المقاعد بين القبائل والعشائر، ليقتصر على تمثيل قبيلة واحدة بثلاثة أسماء، مهملاً سائر المكوّنات. هذا النهج الانتقائي الجائر زاد الشرخ في النسيج الاجتماعي.
المراقبون مجمعون على وصف ما جرى بالمهازل. فقد تحدّثوا عن ضخّ أموال الرشاوى في المراكز، وعن استخدام أكياس ممتلئة بالبطاقات الشخصية من دون حضور أصحابها، وعن تكرار التصويت بالبطاقة الواحدة في أكثر من مركز، بل وعن “إحياء الموتى” للتصويت! تزوير فجّ جرى علناً، من دون التفات إلى احتجاج أو اعتراض. وليس هذا بجديد؛ فقد اعتاده السوريون منذ نصف قرن، حين كان رأس السلطة يفوز منفرداً بنسبة 99,97%، حتى صار التفرد والإقصاء إرثاً سياسياً ثابتاً، جلب على البلاد الكوارث والدمار والانقسام.