د- عبد الناصر سكرية
المصدر : مصير
الجزء الأول
على مدار أربعة عقود متتالية كان الشعب السوري يعبر بأشكال متنوعة عن سخطه على نظام القمع والاستبداد والانحراف الوطني إلى عصبوية طائفية مقيتة، وكان يقدم التضحيات المتواصلة دفاعا عن هويته الوطنية باحثا عن حريته المفقودة وكرامته المهدورة في اقبية أجهزة الأمن التي بلغ عددها العشرات وبلغت شراستها عنان السماء وأسماع العالم أجمع.
وعلى الرغم من التحركات الاعتراضية الكثيرة التي حدثت في تلك العقود وقدم فيها الشعب السوري بكل فئاته ومشاربه السياسية ؛ تضحيات كبيرة سجونا مليئة وقتلا وتشريداً وتهجيراً ؛ إلا أن بيئة وطنية ملائمة لثورة شعبية عامة لم تتوفر إلا بعد أن تراكمت تحديات كثيرة ومعها أخطار متشعبة وفوقها تضحيات ومساهمات عامة شاملة أضيفت إلى ظرف تاريخي مؤات في الوسط العربي المحيط حينما اندلعت انتفاضات ثورية كثيرة في عدة بلدان عربية..
فكان أن اندلعت انتفاضة ثورية شعبية عارمة في سورية استجمعت في زخمها كل الطاقات النضالية والحوافز الوطنية وقيم المجتمع السوري الملهمة لتغيير حقيقي يبني دولة الحرية والعدالة والمواطنة ..
وهكذا تفجرت تلك التظاهرات المدنية الشعبية الرائعة بملايينها الشبابية وأبنائها من كل أنحاء سورية ، فشكلت تهديدا حقيقيا لسلطة الفساد الطائفي والإستبداد الأمني المخابراتي والإنحراف الوطني الشامل..وحينما دنت من بلوغ مراميها تدخلت جهات كثيرة متضررة من أي تغيير حقيقي في سورية لصالح الحركة الشعبية فهذا يهدد مصالح محلية وإقليمية ودولية كثيرة وإن تضاربت أحيانا إلا أنها تلاقت على إبقاء سلطة التبعية المأجورة ووأد الانتفاضة الشعبية الحرة بل وتشويهها وتحريف غاياتها وجرها الى مستنقعات التبعية والفساد المأجور وذلك بتسليط واجهات مرتهنة هنا او هناك لعبت ولا تزال دور المرابي الذي ينتعش من أقوات الناس وعملهم..ولقد تزعمت الولايات المتحدة الامريكية وادواتها المتشعبة مهمة إفشال الثورة وتحريف مسارها وتشويه مقاصدها انسجاما مع مخططها العدواني المسمى الشرق الاوسط الجديد…وهكذا صار الشعب السوري هو الذي يقدم التضحيات ويتحمل النتائج الإجرامية التدميرية فيما أولئك المتسلقون على جدران الثورة يبيعون ويشترون ويتاجرون بدماء الشهداء وعذابات المعتقلين وأوجاع المهجرين المشردين..إلى أن بلغ الامتهان بإرادة الشعب السوري وآماله أن وضع أمام خيارين متكاملين إما الواقع المظلم المتجبر الفاسد وإما البديل المأجور الذي يتاجر بالسياسة في جانب ويمارس القمع والإجرام في جانب آخر..
وسط هذه الأجواء والمآلات ثمة تساؤلات كثيرة تحتاج إلى إجابات واضحة محددة دفعا للالتباس الذي يؤدي إلى النكوص والتراجع أو الإحباط واليأس..
لماذا حدث ما حدث ؟
لماذا انتكست الثورة ؟
لماذا لم نحقق أهدافا ذات شأن ؟
لماذا دفعنا تضحيات عظيمة فحصلنا على مكاسب هزيلة ؟؟
هل كانت ثورة عقيمة ؟
هل الشعب السوري هو المشكلة وهو المسؤول بما يحمل في ذاته وشخصيته من رواسب وعادات كما يقول البعض ؟؟
هل عقرت نساء سورية عن إنجاب شباب وطني قادر على الدفاع عن وطنه والذود عن هويته وحريته ؟؟
هل تحملت الأحزاب والنخب السورية مسؤولياتها بشكل صحيح وموضوعي ولم تصل لنتيجة ؟؟
ليس هذا حديثا لتقييم الثورة واسباب انتكاستها المرحلية فهذا شرح آخر لكننا اردنا إثارة بند واحد يتعلق بمسؤولية النخب السورية وأوجه قصورها الذاتي عن إستيعاب المتغيرات والضرورات في آن معا..
نريد بهذه التساؤلات مواجهة جدية مسؤولة مع أنفسنا لندرك مواضع القصور والخلل فنتداركها ونصحح فيها ما نحن قادرون على تصحيحه مما يتعلق بنا ونتحمل وزره إذا ما بقي ممتدا فينا مخربا لمسيرتنا معطلا لغاياتنا النبيلة..هذا إذا كان هناك بعد متسع أو شيء من الوقت الكافي للتصحيح أو القدرة عليه..
إننا جميعا ندرك حجم التدخلات الخارجية التي خربت في مسيرة الثورة السورية وهو ما ينبغي أن تكون وسائله وأدواته ونتائجه واضحة مبينة للجميع ؛ إلا أننا هنا أردنا التوقف فقط عند أسباب قصورنا الذاتي الذي كان أحد أهم أسباب مآلات ثورتنا المخطوفة المحبطة..
وإذا كان موضوعيا القول أن عقودا خمسة من الإضطهاد والتنكيل بالشعب السوري حد الرعب وإلغاء الحياة السياسية في عموم سورية ، كانت سببا في عدم تبلور حركة وطنية شعبية جامعة في الأيام والشهور الاولى للثورة ؛ إلا أن هذا السبب لم يعد موضوعيا أو مقبولا بعد إنقضاء عقد كامل من التضحيات والمعاناة الشعبية الشديدة..
فماذا فعلت النخب السورية الحزبية والثقافية والسياسية لتدارك هذا النقص الحاصل ولترتقي الى مستوى تضحيات وعذابات وآلام الشعب السوري فتبادر الى تشكيل قيادة وطنية واحدة تخطط وتقود وتحمي وتصون وتبرمج الأهداف الوطنية وفق برنامج عمل مرحلي نظامي متكامل ؟؟
إن التضحيات الهائلة التي قدمها الشعب السوري خلال السنوات العشر المنصرمة كانت تكفي لتغيير أعتى الأنظمة وأكثرها دموية وإجراما ، فيما لو توفرت لها ظروف ذاتية ملائمة وأولها وأبرزها وفي رأس قائمتها قيادة وطنية ثورية مستقلة نظيفة..
وإذا كان مبرراً إنتظار سنة أو سنتين من عمر المؤسسات التي تشكلت كالمجلس الوطني والإئتلاف وما انبثق عنهما لتحديد امكانية جدواها وفعاليتها وصدق تعبيرها عن تطلعات الشعب السوري ؛ إلا أن بقاءها حتى الآن وحيدة كمؤسسات ” معارضة ” إنما يعني فشل كل الآخرين غير الراضين عنها او الواثقين بمصداقيتها ؛ فشلهم في تشكيل قيادة وطنية بديلة…وهذا بدوره ساهم في تعزيز تسلط تلك المؤسسات على مقدرات عينية وتمثيلية كثيرة ؛ وكان ولا يزال سببا في إحجام كثيرين من السوريين المخلصين عن اية مشاركة إيجابية ، كما في إحباط كثيرين غيرهم ودفعهم إلى زوايا التقوقع والذاتية والإنعزال عن مجريات كل عمل وطني..
ليس هذا فحسب بل إن غياب قيادة وطنية مستقلة شريفة للعمل الشعبي المنتفض لا يزال سببا في تنسيب صفات سلبية متنوعة بالثورة السورية واتهامات لها باطلة نظرا لبقائها محاصرة بين مطرقة النظام وسندان المؤسسات التمثيلية المرتهنة أو المأجورة سواء تلك السياسية او تلك العسكرية الميليشيوية المجرمة التي تفتك بشرفاء سورية ممن لا تصل إليهم أذرع النظام المجرم مباشرة..
فلا نلومن هنا إلا أنفسنا حينما لا نتصدى للقيادة الحرة البديلة..
وإذا كان مفهوما أيضا أن لا يكون لدى النخب الوطنية برنامجا ثوريا وطنيا واضحا للتغيير في الأيام الأولى للثورة ؛ فإنه من غير المفهوم ومن غير المقبول أبدا بقاء التحركات الشعبية مجرد تضحيات كثيرة وكبيرة جدا لكنها متفرقة تهدر على مذبح التشتت والتمزق الوطني..من غير المقبول بقاؤها تقدم على غير هدى بسبب غياب قيادة للعمل الوطني تتخذ لها برنامجا وطنيا مرحليا للتغيير واضح المعالم محدد الوسائل والأهداف والغايات ..يقنن التضحيات ويوظفها في المكان المناسب المجدي والمفيد..
على النخبة السورية أن تمتلك الشجاعة الكافية لتصارح الشعب السوري العظيم بحقيقة عجزها الذاتي عن التقدم ومجارات تضحياته والإرتقاء إلى مستواها وتحمل مسؤولياتها التاريخية الملحة فيما اذا كانت عاجزة فعلا عن ذلك ؛ وذلك حقنا لمزيد من الخراب والدمار والدماء والتهجير والإنهيار..وإلا فلتبادر فورا الى تجاوز ذاتها ومعوقاتها الذاتية لتعيد الأمل والثقة بالثورة وبالمستقبل..في ذات الوقت الذي يتوجب عليها العمل على تصعيد نخب شبابية قيادية جديدة من أولئك الشباب الذين تصدوا بصدورهم العارية لموجات الإجرام المتلاحقة ؛ أولئك الصامدون في الداخل يعملون في كل ميدان ومجال من أجل حماية الناس ومساعدتهم على البقاء والصمود والمواجهة..
لقد تجاوزت الحركة الشعبية الثورية المنتفضة كل قدرات النخب السياسية التي كانت قائمة عند إندلاع الثورة .تجاوزتها بعد أن فاجأتها وتقدمت عليها عطاء وتضحية وإيثاراً.. يدل على هذا أن كل التضحيات كانت من تلك القيادات الشعبية التي ظهرت ميدانيا وتصدت لمهام الثورة والمواجهة ..كما أن الأثمان الباهظة دفعتها الفئات الشعبية كلها عدا تلك النخب القابعة تحلل وتنظر من وراء مكاتبها الجميلة..ولعل هذا أحد أسباب عجزها عن قيادة الانتفاضات الشعبية حينما كانت حاضرة فاعلة تحتاج للتوجيه والحماية والرعاية والتطوير..
إن الجهود التي بذلها ويبذلها مئات وربما آلاف الناشطين السوريين في أرجاء العالم المتفرقة سعيا وراء سراب تدخل دولي او مساعدة دولية للشعب السوري في مطالبه الانسانية العادلة ؛ إنما تشكل أحد أوجه القصور الذاتي لتلك النخب وعجزها عن فهم وإدراك كنه النظام الحاكم وطبيعة وأهداف ومصالح القوى العالمية التي تسانده وتحميه. وحقيقة اطماعها جميعا في الوطن السوري والجغرافيا السورية كما في التاريخ السوري أيضا..
إن اللهاث وراء موقف دولي الى جانب الشعب السوري إنما هو إضاعة للوقت وللجهد وللنتائج أيضا..
إن الجهود الجبارة التي بذلها ولا يزال كثيرون من الفعاليات السورية في الفضاء الدولي كانت كافية لحماية الثورة وتنظيم صفوفها وبلورة مطالبها وقيادتها الوطنية ؛ فيما لو كانت بذلت في الداخل السوري لترتيب شؤونه ومتطلبات صموده وبقائه وحماية قياداته الشبابية المنبثقة عن حراكاته الميدانية ، وتنشئتها تنظيميا وحركيا لتتحمل مسؤولية ما عجزت عنه النخب السابقة للثورة ..
تلك فرصة أضاعتها تلك النخب والفعاليات يوم ان كان بإمكانها الاهتمام بالداخل الميداني وليس بالخارج المجاني..
هذه تجربة أخوتنا في الثورة الفلسطينية ومآلات تضحياتها بعد خمسة عقود من النضال والفداء..ها هو الداخل الفلسطيني قد أصبح عماد الصمود والمقاومة والأمل بالانتصار ..أما الخارج الفلسطيني وهو الكثير الانتشار والعميم نوعية وامكانيات فإنه لم تعد له فعالية في العمل الثوري والوطني الفلسطيني..
ومهما تعاظمت قوة الخارج السوري وفعالياته فلن تبلغ خمس ما تحصل عليه الخارج الفلسطيني من تأييد دولي ومن إمكانيات متنوعة ومع ذلك عاد ليتطلع الى الداخل ليكون منطلق الثورة والتغيير..فهل نتعظ ونعود فنولي الداخل ما يحتاجه من دعم ورعاية وتثوير وترشيد وقيادة ؟؟
كذلك تحمل تجربة أهلنا في العراق دلالات كثيرة ودروسا عميقة ينبغي أن نتعلم منها ونصحح مواقعنا وتوجهاتنا فلا نقع في فخ ما وقعت فيه نخب عراقية وطنية لا تزال تدفع ثمنه ضعفا وتشتتا حتى اليوم..