الكاتب: موقع الخنادق- غرفة التحرير
الثلاثاء 16 كانون الثاني , 2024
لم يعد الأمر معضلة أو خافياً على أحد، فالمواقف الغربية حول ما يحدث اليوم في فلسطين وغزة بات معروفاً من قبل الكثير من الأوروبيين وخاصة بين النخب والصحفيين والسياسيين على حد سواء. وقد نشرت صحيفة “ناشونال ريفيو” في الثامن من كانون الثاني مقالاً، لا يتحدث عن التضارب في المواقف الأميركيين واستغلال هفوات المتظاهرين فحسب، بل بدأت بالتحريض ضدهم، لينتهي المقال باستعراض المواقف متضاربة ما بين السياسيين في مجلسي النواب والشيوخ، والتي تعكس مزاج الشارع بشكل عام المناهض للصهيونية. الإنقسام الذي يبديه المقال هام جداً، ويدل على تباين وتضارب في المواقف ما بين الأميركيين.
بالتأكيد لن نجد الكثيرين في مجلس النواب الأميركي ممن يقفون ضد الموقف الأميركي الذي أعلنه الرئيس جو بايدن بدعم “اسرائيل”، ولكن ثمة من ينادي في داخله بتدخل عاجل من قبل الولايات المتحدة من أجل وقف الحرب على غزة، وإيقاف المجازر التي تحدث فيها تحت عنوان “من حق اسرائيل الدفاع عن نفسها”. إنقسامات وصلت إلى مجلس النواب متماهية مع انقسامات الشارع، كما وصل تأثيرها إلى صحافيين وسياسيين وموظفين ومشاهير. وقد أدت معارضة هؤلاء لموقف الحكومة إلى طرد صحفيين لأنهم تحدثوا عن المجزرة الصهيونية في غزة، واستقالة بعض الموظفين في البيت الأبيض، وطرد آخرين من أعمالهم. ومع ذلك فقد تصاعدت ردات الفعل المساندة لفلسطين لتكتسب فعالية أكبر.
تحتل مجزرة الهولوكوست المكانة الأكبر في بناء عقيدة الشعب الأميركي، وهي حالة مستمرة، وما تزال تُدّرس في المدارس، وتكتب حلقات البحث حولها ويتم تناول السير الذاتية للناجين من المحرقة، وتؤجج مشاعر الطلاب للتعاطف مع الضحايا، بجدية ومصداقية. لكن هذا ليس العامل المؤثر الوحيد في بناء المواقف الأميركية وخاصة ما بين النخب. ففي الولايات المتحدة هناك أيضاً أتباع العقيدة البروتستانتية او الإنغليكية، وهم يشكلون الغالبية العظمى والأقوى ضمن إدارة الدولة، والتي تؤمن أن قدوم المسيح لن يكون إلا بقيامة اسرائيل الآمنة، ولن تكون اسرائيل آمنة إلا إذا أقيمت الدولة اليهودية الصرفة. قد يعتبر البعض أن هذا مجرد أساطير، ولكن هذه الأساطير هي التي أنتجت التكتلات “اللوبيات” السياسية التي دعمت الحكومات والرؤساء الأميركيين مادياً ومعنوياً، وحشدت الملايين من أجل انتخابهم. تحمل التكتلات هذه العقيدة وتعمل من أجلها ليل نهار، فعلى سبيل المثال منظمة “يونا اسرائيل” أو “نبني اسرائيل” في داخل الكيان، هي منظمة صهيونية تضم مبشرين إنجيليين من الولايات المتحدة، وعناصر من اليمين المتطرف الصهيوني برئاسة تساحي ميمو.
تمثل دولة الكيان الأمل للمسيحيين المتدينين في الولايات المتحدة لناحية اقتراب نزول المسيح عليه السلام، ومعظم أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين ينتمون إلى هذه الفئة. ومن بين المتأثرين بقصص المحرقة ومن بين هؤلاء المتدينين نوابهم الذين يمثلونهم في الكونغرس. ولكن المعضلة التي قلبت كيان الكثير من هؤلاء وأخرجتهم في مظاهرات كبيرة، هو حجم المجازر التي ارتكبها الكيان، وهو يستعطف الشعوب لتبرير قتل الأطفال والمدنيين لحماية نفسه مذكراً العالم بالمجزرة الكبرى التي ارتكبت ضده، مما قلب المقاييس رأساً على عقب.
خرجت حركات من رحم مأساة الصراع مع الصهاينة لأكثر من 75 عاماً، فلسطينيون وعرب هاجروا إلى أميركا، تحمل قضية فلسطين في ضميرها، ونشط مؤسسوها خلال السنين الماضية بقوة في الجامعات الأميركية ومنها على سبيل المثال حركة BDS، التي تعمل منذ التسعينات تقريباً في الجامعات الأميركية. استطاعت هذه الحركات استقطاب عدد أكبر من السياسيين والأحزاب اليسارية وحتى الفنانين منذ بداية المجازر التي ابتدأت في غزة. ولذلك فقد شهدنا العديد من التحركات الكثيفة جداً في داخل الجامعات الكبرى مثل ييل وهارفارد وبنسلفانيا. تعرض رؤوساء هذه الجامعات لمساءلة الكونغرس وتم ممارسة التنمر ضدهم خلال محاكمات أجريت تحت قبة مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، لأنهم لم يقوموا باجراءات تعسفية ضد تحرك الطلاب، وهذا يدل علىى انقسام كبير ما بين الطبقات الأكاديمية. وأهم ما في هذه التحركات أنها أنتجت طلاباً وجماهيرا بدأت تدعو لفرض العقوبات، وسحب الاستثمارات والمقاطعة للكيان المؤقت. وعلينا ألا ننسى دائماً أن بيض أمريكا، والذين طالتهم كطبقة متوسطة الأوضاع الإقتصادية الصعبة في حين توجه المساعدات الحكومية نحو المهاجرين والصهاينة، مازالوا في عمقهم التاريخي- النفسي يعتبرون اليهود والملّونين فئة أقل منهم شأناً.
من أهم المشاهير الذي تم تبادل لقاؤه على وسائل التواصل الإجتماعي، بن أفليك، ممثل أميركي شهير، وهو دليل على نشاط هذه الحركات منذ زمن، نشر له مقطع قديم عمره أربع سنوات على التيك توك، والفيس بوك، وهو يتحدث عن القضية الفلسطينية، ويدحض الإحتلال الصهيوني في فلسطين، ويقصد هنا فلسطين الـ 67. ولكن ازدات وتيرة المتحدثين المشاهير على وسائل التواصل الإجتماعي خاصة، والذي كان له التأثير الكبير في دفع الإعلام الأميركي لإستضافة معارضي الحرب، ليس رغبة بمعالجة القضية الفلسطينية بطريقة موضوعية ولكن من أجل الحصول على إدانة لحماس في السابع من تشرين الأول/ اكتوبر، كما حدث للمعارضة للمجازر الممثلة سنثيا نيكسون، المعروفة، في برنامج المشهد “THE VIEW” الشهير على قناة ABC، مثلت نيكسون في واحد من أكثر أفلام هوليوود رواجاً “الجنس في المدينة”، وهي اليوم جزء من الفريق التمثيلي لمسلسل يحمل العنوان نفسه، لذا فالممثلة نيكسون قادرة على الوصول إلى جمهور أميركي كبير. وكما حدث مع نيكسون، استقبل بيرس مورغان في برنامجه الشهير باسمه على CNN، أهم المشاهير المنددين بدور اسرائيل في المجازر بعد طوفان الأقصى مثل، باسم يوسف واندرو تيت، وتحدث الأول من عمق المأساة الفلسطينية، والثاني من عمق إيمانه بالقضية الفلسطينية، ووقف لمورغان بالمرصاد وقارن المأساة الفلسطينية بمأساة الأفارقة الأميركيين مع العنصرية ومقارنتها بما يحدث مع الفلسطينيين، والعمق الذي دخلت فيه هذه اللقاءات لم تمر مرور الكرام على مشاهديها.
انقسام داخل الكونغرس حول دعم إسرائيل
الإنقسام بدأ يغزو الكونغرس الأميركي مما يدل على أن طوفان الأقصى قد بدأ يغمر قاعات الكابتول، وقد يغرقها أيضاً، وهو يحشد المعارضين للسياسة الأميركية عبر الدعم المطلق للصهاينة، والأهم أن المعارضين لما يحدث في غزة هم من الحزب الديمقراطي والذي بات يعاني انقساماً داخلياً يسير مع انقسام الشارع الأميركي. من هؤلاء النواب رشيدة طليب والهان عمر وغيرهما والذين تتم محاصرتهم كل يوم. وأما في مجلس الشيوخ الأميركي فقد وصف السيناتور الأميركي المستقل بيرني ساندرز بأن موافقة الولايات المتحدة على تقديم مساعدات إضافية لـ “اسرائيل” بقيمة 10 مليارات دولار بأنها: “خطوة غير مسؤولة”. فيما انتقد السيناتور جواكين كاسترو تصرفات “اسرائيل” في غزة بأنها “غير متناسبة بشكل صارخ وغير أخلاقية وتنتهك القانون الدولي”. وقالا إن الدمار في غزة تجاوز الدمار الذي خلّفه القصف الأميركي في مدينة دريسدن الألمانية، وقصف المدن اليابانية في الحرب العالمية الثانية. أما السيناتور كريس فان هولين، وهو ديمقراطي يمثل ولاية ميريلاند، فقد كتب مقالاً في واشنطن بوست طالب فيه الحكومة الأميركية عدم الإنسياق وراء العواطف ومن تكرار الخطأ الذي ارتكبه الأميركيون بالإنسياق وراء مشاعرهم بعد 11 أيلول/ سبنتمبر 2001، والتي انطوت على “تجاوزات استراتيجية”.
هذه المعارضات التي تشهدها الولايات المتحدة في داخل الحزب الواحد، تدل على أن الحرب على غزة قد تؤدي إلى شرخ الحزب الواحد في الولايات المتحدة خاصة مع خروج المظاهرات الكبيرة في الحجم والمضمون والتي باتت تطالب بحرية فلسطين من البحر إلى النهر، وتصف الصهيونية بالإرهاب. إنه خروج عن 75 عاماً من تطبيع الأميركيين في اعتبار الدولة العبرية الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وبدأت التساؤلات الحقيقية حول الكذب الذي تمارسه الحكومة الأميركية على شعبها من أجل دعم التبرير اللامحدود لدولة الإرهاب الصهيوني ومن داخل أحزابها التقليدية.