عبد الحليم قنديل – كاتب مصري
القدس العربي
السبت , 1 أبريل , 2023
لا يتوقع أحد عاقل، أن تتوقف انهيارات «إسرائيل» الداخلية، فقد بنيت هذه «الدولة» على زيف مطلق، لا يحجب أبدا حقيقتها ككيان احتلال استيطاني إحلالي، وأريد لها أن تبدو كدولة طبيعية، لها سمات دول الغرب الاستعماري الذي أنشأها ويحميها، وتنتحل صفة المجتمع المستقر بتكوينه التاريخي، وبصراعات الطبقات والمذاهب فيه، وبتوزيعات نخبه إلى يمين ويسار ووسط، وبتداول سلطة يبدو ديمقراطيا، وبفصل سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية، يجعل إسرائيل كما يزعم المؤسسون والتابعون، تبدو كمثال ديمقراطي غربي فريد وسط صحراء الاستبداد العربي المحيط .
تعريف «إسرائيل» لنفسها كدولة يهودية خالصة، يواجه بحقيقة مختلفة، هي أنها تحتل أرضا هي فلسطين التاريخية كلها، إضافة للجولان، غالبية سكانها من الفلسطينيين العرب
بدا الاصطناع ظاهرا في القصة كلها، فما من دولة طبيعية في الشرق والغرب والجنوب والشمال، تبدو على الهيئة «الإسرائيلية»، جرى ويجري جلب سكانها من بيئات تاريخية وعرقية وثقافية مختلفة، اللهم إلا في دول الإحلال الاستيطاني في الأرض الجديدة عبر القرون الأخيرة، كما جرى مثلا في تاريخ الأمريكتين الشمالية والجنوبية، وفى أستراليا ونيوزيلندا وغيرها، مع فارق مرئي تماما، هو أن دول الاستيطان النهائي الناجح، أحلت جماعات الاستيطان بثقافاتها الوافدة، ومحت أو كادت تمحو كل وجود مؤثر للسكان الأصليين، ولم تبق منهم سوى شذرات سكانية متفرقة، لا تقوى بعد اقتلاع جذورها الأصلية على مقاومة ذات مغزى، فقد أفنيت الشعوب الأصلية بمذابح جماعية مروعة، وهو ما أتاح للشعوب الوافدة، أن تبني مجتمعاتها في خلاء سكاني وجغرافي، وأن تستعير من ثقافة المنشأ الغربي الغازي، وأن تطور ما يشبه الديمقراطيات الغربية، بعد مخاضات عنيفة، وثورات وانتفاضات، وهو ما لم يحدث مثله في سيرة الاستيطان الإسرائيلي، ولا في سير حالات سبقت من استيطان الغاصبين، خصوصا في قلب العالم القديم، كما جرى مثلا في الجزائر وجنوب افريقيا، وقد انتهت إلى استيطان فاشل بامتياز، ولأسباب ظاهرة، أهمها كثافة حضور الشعوب الأصلية، واستعصاؤها على مذابح الاقتلاع والإحلال، أضف إلى ذلك مآزق أخرى في حالة «إسرائيل»، التي أراد لها مؤسسوها، أن تبدو كدولة حديثة، ترتكز في عملية تكوينها على أساطير توراتية قديمة في الوقت نفسه، وهو ما بدا في معضلة ديفيد بن غوريون المؤسس الأول، القادم وأسرته من بولندا، والملحد بلا شبهة، فقد كان يهزأ بالتوراة ووعودها وأرض ميعادها، لكنه يراها مفيدة نافعة في جلب اليهود إلى فلسطين، ويثق بالقوة وحدها، التي لا تبني كيانا محاربا بغير «الكيبوتزات» و»الهستدروت» وتكريس أساطير العمل العبري، وعبثا حاول بن غوريون مع نظرائه تطبيع الدولة، فلم يجد سوى ما سماه «إعلان الاستقلال»، وإن بدا في العنوان زيفه، فهو في حقيقته إعلان احتلال لا استقلال، مشفوع بأساطير دينية كاذبة، لا يصدقها بن غوريون نفسه، الذي لم يجد متسعا لصياغة دستور لدولته، ينظم به سلطاتها وعقدها الاجتماعي، فقد وجد نفسه بصدد كيان مهمة، لا كيان دولة يجرى تطبيعها، والمهمة الحربية المفتوحة، لا تتساوق مع بناء مجتمع مدني مستقر، وكيان المهمة بلا حدود، لا تحميه سوى العسكرة الدائمة، والذهاب لملاقاة الخطر، وبغير حدود يمكن عقلنتها وتبريرها، فالمهمة العدوانية بلا نهاية، والدولة بالتعريف ذات حدود نهائية معروفة، والذين اجتمعوا في الكيان من مشارب متنوعة متناقضة، بعضهم يؤمن بأساطير زيف من نوع «إسرائيل الكبرى»، وبعضهم الأكثر نفوذا يترك الأقواس مفتوحة، ولا يستبقي من اليهودية سوى معنى ثقافي، يتسق مع دعوى الصهيونية، التي تزعم أن اليهودية ليست مجرد ديانة، بل هي شعب وقومية وعرقية واحدة نقية، وهو ما لا يقوم عليه دليل في الواقع، ولا في علم تطور الأجناس، فلا «الأشكناز» الغربيون يشبهون «السفارديم» الشرقيين والعرب، ولا «يهود التوراة» الذين انقرضوا تقريبا، يشبهون المتهودين من نسل مملكة «الخزر» القروسطية في شرق أوروبا، وهم الكثرة الغالبة بين يهود الغرب والمجلوبين منه، وفي غابة التناقضات، كان اللقاء الوحيد الممكن على حد السيف، وعلى ملتقى الحروب الناجحة المدعومة من الغرب بكل قوته، وحين توقف الفوز الحربي السريع، بدأت التناقضات تطفو على السطح، وتؤتي أكلها السام في العمق، ولم يكن من فراغ، أن نفتالي بينيت زعيم حزب «البيت اليهودي» مثلا، وهو ابن اليمين الديني الإسرائيلي المهووس بأوهام التوراة، وإن كان يعادي بنيامين نتنياهو اليوم، ويجد نفسه محشورا رغم أنفه في زمرة ما يسمى أحزاب وجماعات المركز، والجنرالات واليسار، وتعتبر نفسها في حرب مع حلفاء نتنياهو الأشد تطرفا ويمينية، وفي زحمة التباسات مختلطة بالانهيارات، بدا نفتالي هلعا على مصير «إسرائيل» كدولة، وقال إنها تواجه خطرا وجوديا غير مسبوق منذ حرب 1967، فقد كانت هذه الحرب آخر انتصارات إسرائيل، ولم تفز «إسرائيل» بعدها في حرب أبدا، لا في حرب الاستنزاف، ولا في حرب 1973 ولا في حرب لبنان ولا في حروب غزة الخمس، وها هي اليوم، ومنذ سنوات، تواجه حربا من نوع مختلف في الضفة والقدس والداخل المحتل منذ نكبة 1948، أي أنها تواجه الحرب بين ظهرانيها، وفي صلب فكرتها المتواطأ عليها تلفيقا، والتي لم تحسم أبدا هوية الدولة، إلا بصياغات رجراجة على الورق، فتعريف «إسرائيل» لنفسها كدولة «يهودية» خالصة، يواجه بحقيقة مختلفة، هي أنها تحتل أرضا هي فلسطين التاريخية كلها، إضافة للجولان، غالبية سكانها من الفلسطينيين العرب، لا من اليهود المجلوبين، ثم إن تعريف إسرائيل لنفسها أحيانا كدولة «ديمقراطية»، يواجه بحقيقة نافية للديمقراطية، فلا تتسق الديمقراطية مع الاحتلال والفصل العنصري، ثم إنه ليس من تعريف متفق عليه لليهودية في إسرائيل، وتضخم اليمين اليهودي المتطرف يهدد بجعل «إسرائيل» اثنتين لا واحدة، «إسرائيل» لليهودية الأرثوذكسية «الحريدية «، و»إسرائيل» أخرى لليهودية الثقافية و»الإصلاحية»، وبين «الإسرائيلتين» فصام داخلى، بدت فيه مشاهد الأسابيع الأخيرة العاصفة، وتدفق مظاهرات الغضب من الطرفين، المتدافعة إلى الشارع بمئات الألوف، وكأنها تمهيد لصدام دموي، تخوف معه بعضهم من اندفاع «إسرائيل» إلى حرب أهلية بين «إسرائيل العلمانية» و»إسرائيل الحاخامات».
المحصلة إذن، أنه لم يكن للكيان الإسرائيلي أن يصل إلى حالة الانشقاق الأخيرة، وإلى دوامات الانفلات الجامح، الذي زحف من الشارع إلى صلب جيش الاحتلال نفسه، لم يكن لذلك وسواه أن يحدث في التكوين الهجين، إلا تحت ضغوط خمسة عقود مضت من الشعور المتزايد بالإحباط، وبتدني فرص الفوز في المقتلة، التي بنى كيان المهمة الإسرائيلي على اتصالها، فالقصة أبعد من خلاف عابر باسم إصلاح أو تقويض القضاء و»المحكمة العليا»، وأكبر من شهوة «نتنياهو» بالبقاء على رأس السلطة، وعبر «هد حيل» القضاء الذي يطارد جرائم فساده وخيانته للأمانة، ولم يجد لذلك سبيلا، غير التحالف في حكومته «السادسة» مع المدانين بالإرهاب وأرباب السوابق، من نوع أحزاب بن غفير وسموتيريتش، وكلهم يتلطى تحت عناوين دينية من ماركة «العظمة اليهودية» و»الصهيونية الدينية»، ويريدون أن يجعلوا من القضاء ظلالهم لا سيفا عليهم، ويدركون بالغريزة أن عقائدهم إجرامية، وأن استتارها بالدين محض زيف، لا يتساوق مع اعتبارات الدولة أي دولة، حتى لو كانت كيان مهمة كالكيان الإسرائيلي، ولا حتى مع مخاتلات اللعب على الحبال، التي درج عليها زعماء «إسرائيل» الكبار والصغار، وتسوية التناقضات بتجاهلها غالبا، وتوجيه طاقة التجمع الإسرائيلي للعدوان الهمجي على الشعب الفلسطيني المقاوم، وهو ما دفع فرقاء السطح «الإسرائيلي» للبحث عن تسوية مع نتنياهو، وتهدئة الاشتباك الداخلي بعد استعراضات القوة التي جرت، والتقاط مناورة نتنياهو بتأجيل مناقشة قوانين السيطرة على القضاء في «الكنيست»، والبحث بالتفاوض عن صيغة وسطى، قد لا يدوم أثرها طويلا، فاليمين الديني المدعوم بتزايد متصل في قوته الانتخابية، استغل حتى فرصة التهدئة لكسب قوة سلاح إضافية، وإضافة ميليشيا باسم «الحرس الوطني»، بعد تسليح مئات آلاف المستوطنين، وفي حرب كبرى يتصورها ضد صحوة المقاومة الفلسطينية، لا يجد لها بديلا لكسب ما يسميه «إسرائيل الكبرى»، التي عرض بعضهم خريطتها المتضمنة للأردن ولما وراء الأردن، وفي عوارض دفاع نفسي مع اجتياح المخاوف للكيان الإسرائيلي، واللجوء مجددا لحقيقته ككيان مهمة حربية دائمة لا كدولة طبيعية، بينما يحتمي الواهمون بطبيعية دولة إسرائيل وراء جدار رمزي اسمه «المحكمة العليا»، لا تعني للفلسطينيين سوى حقيقتها كأداة قهر وتسويغ احتلال، يواجه كيانه انهيارات داخل لا مفر منها، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا .