
بعد عام على التحرير…
موقف حزب الإتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي
عام مر على الخلاص من النظام الأسدي وتحرير سورية من سلطة عاثت فساداً وإفساداً في المجتمع السوري، وعملت على تفكيكه وتخريب بنيته الوطنية، وارتكبت في السنوات التي تلت الحراك الثوري للشعب السوري في آذار/ مارس 2011، مجازر وجرائم غير مسبوقة بحق سورية شعباً وأرضاً وحضارة.
في هذه الذكرى نشارك شعبنا احتفالاته بهذا الإنجاز، ونحن نتطلع للمستقبل مؤكدين على عدد من الحقائق:
1) ثبات موقفنا الأصيل في تأييد هذا الإنجاز الذي تحقق بإسقاط نظام آل الأسد وطي صفحته، استناداً لنضال الشعب السوري طيلة نصف قرن، وللتضحيات العظيمة التي قدمها بعد تفجر الثورة في مارس 2011، وفتحت الطريق لهذا الانجاز الكبير الذي أعاد سورية الى تموضعها الطبيعي على خريطة المنطقة والعالم، وقد حققت الإدارة السياسية خطوات مهمة في المسار الدبلوماسي على هذا الطريق، من هنا نؤكد استمرار موقفنا الداعم والإيجابي لهذه الإدارة ، رغم تسجيلنا نقاط متعددة على هذا القصور وضعف الأداء في بياناتنا إلى الشعب السوري.
2) نحن وصفنا دائماً النظام الأسدي البائد بأنه نظام ” مستبد وفاسد، طائفي وقاتل” وكان خيارنا أن نبني نظاماً وطنياً ديمقراطياً، يمثل الشعب السوري بكل أطيافه وتنوعاته على قاعدة المواطنة المتساوية بين الجميع في الحقوق والواجبات ، وأمام القانون ، وفي التوزيع العادل للثروات، لا تمايز بينهم سوى الكفاءة، مواطنون أحرار في الحركة والتملك والاستثمار في كل أرجاء وطنهم، على هذه القاعدة نتطلع إلى نظام ديمقراطي، تنبع سلطته السياسية والتشريعية من الإرادة الشعبية عبر صناديق الاقتراع، في مناخ سياسي قائم على التعددية السياسية، وحرية تشكيل الأحزاب، وعلى التداول السلمي للسلطة، وما يتبع هذا النظام من آليات وتجليات متعددة.
3) دعونا بشكل مبكر، وما زلنا، إلى “مؤتمر وطني عام” تنبثق عنه سلطات تشريعية وتنفيذية وهيئة تأسيسية لإعداد دستور دائم للبلاد، يكون منطلقاً لعمل جامع يحرك قوى الوطن كله، وقد حدد حزبنا تقييمه لكل الخطوات التي قامت بها السلطة السياسية الانتقالية، وانتقدنا ما رأيناه خطأً أو تجاوزاً، (الإعلان الدستوري، تشكيل مجلس الشعب، تشكيل الحكومة، مؤتمر الحوار الوطني ..) .
لكن مع تأييدنا ودعوتنا لهذا المؤتمر، نرى أن تكون الدعوة من خلال السيد رئيس الجمهورية – الممثل الفعلي للإدارة الانتقالية لانه يمتلك الحق لمثل هذة الدعوة بحكم منصبه وقيادته.
إن سورية بحاجة إلى مؤتمر وطني عام ،يعلن من خلاله رؤية وطنية جامعة تلتقي فيها الارادات، وتتعزز عبر هذه الرؤية وحدة الوطن ، وترسم خارطة طريق لمستقبل سورية ، وتوضع من خلالها سورية على خارطتها الحقيقية على المستوى العربي والدولي.
4) نتابع وبقلق الدعوات التي تنطلق من البعض بشأن هوية سورية، ويجب أن يكون واضحاً ومعلوماً أن العبث بهوية سورية أمر خطير ويجب على السوريين جميعاً التصدي له بكل وضوح وعزم.
وعلى الرغم من كل ما فعله النظام البائد فينا، وما أحدثه من تخريب في نسيجنا الاجتماعي فإننا كسوريين لا نبحث عن هوية جديدة لوطننا، الهوية السورية واضحة وليست محلاً للمساومة، فالهوية لا تخترع، وإنما هي انتماء حضاري وثقافي تصنعها حركة التاريخ، والتنوع الذي يشير إليه البعض تبريراً لمثل هذه الدعوات هو وجه من أوجه الهوية السورية القائمة على العروبة والإسلام، فسورية ليست حديثة الوجود ، وليست وليدة اتفاقيات سايكس بيكو، وما هو مرتبط بهذا الوصف هو “التجسيد الراهن للدولة السورية”، سورية وجود تاريخي يحمل عمقاً يمتد مئات، بل آلاف السنين، عرفت من قبل باسم بلاد الشام، وتكثفت فيها حضارات موغلة في القدم، توجتها الحضارة العربية الإسلامية التي استمرت في الوجود والتراكم المعرفي والثقافي والروحي على مدى خمسة عشر قرناً، بدأت بالعهد الراشدي وما زالت مستمرة، وفي إطار هذا الوجود الممتد تحقق للمجتمع العربي السوري خاصية التنوع، التي أثمرت غنى وكثافة حضارية ومعرفة وامتيازاً واضحاً، وكان هذا الامتياز مستهدفاً من قبل كل القوى الخارجية الغازية في محاولة لتحويله إلى ثغرة للتفريق والتمزيق.
إن اسم الجمهورية العربية السورية هو تجسيد لهذه الهوية، وإشارة حاسمة لبعدها الحضاري والسكاني، ولواقعها الجيوسياسي، ولمسؤولياتها أيضاً.
5) إن الأخطار تحيط بسورية من كل جانب، واعتداءات العدو الصهيوني على سورية، منذ اليوم الأول للتحرير لم تتوقف، ومحاولاته تغيير الوضع على الأرض بالقوة وبسط سيطرته على مزيد من الأرض السورية ليضمها الى الجولان السوري المحتل، ومحاولته العبث ببنية المجتمع السوري، وتواصله مع القوى والحركات الانفصالية التي تغذت ونمت زمن النظام البائد، والاعتداء الأخير المستمر على بيت جن، كله يؤكد حاجة سورية الماسة إلى بناء جيش وطني حقيقي تنتظم من خلاله طاقات الشعب السوري، ويمتلك القدرة عتاداً وعديداً على حماية أرض الوطن، وقد أظهر انكشاف أمننا الوطني تجاه الاعتداءات الإسرائيلية خطورة قرار حل الجيش العربي السوري.
6) لا شك أن العدالة الانتقالية مطلب جوهري لفتح الطريق أمام مرحلة جديدة والتأسيس لولادة دولة وطنية ، ولا شك أنه في مرحلة النظام الأسدي وقعت أطراف من المعارضة في ارتكاب تجاوزات وحتى جرائم حرب، وهذا يحدث في تاريخ الثورات، ومن الطبيعي أن يحاسب مرتكبو هذه الجرائم، لكن حين تطلق عبارة “العدالة الانتقالية” فإن هذا المفهوم يذهب مباشرة إلى تلك الانتهاكات والجرائم التي صارت “سجية، وسمة” للنظام البائد، ولا يجوز خلط هذه بتلك، لأن من شأن هذا الخلط “تمييع” عملية المحاسبة.
ولقد أكدنا دائماً أن العدالة الانتقالية مدخل رئيسي لضمان السلام الاجتماعي، وأن الغموض الذي يكتنف هذا المسار حتى الآن، والتأخير في كشف ما توصلت اليه التحقيقات مع المعتقلين من مجرمي النظام البائد، يثير قلق الشارع السوري، ويطرح التساؤلات بشأن ملف المغيبين قسرياً.
7) وإذ يبتهج شعبنا بمرور عام على الخلاص من نظام الاستبداد، فإن الخوف يتزايد من طرق المعالجات الخاطئة والقاصرة التي تعاملت بها السلطة وقواها العسكرية والإعلام الممثل لها مع الأحداث التي وقعت في جبل العرب وقبلها في الساحل، مع اختلاف الرؤية حول كل منهما، وقد أشرنا في كل مواقفنا إلى أهمية التعامل الوطني الموضوعي مع هذه الأحداث، لما لها من تأثيرات سلبية على مستقبل سورية التي نريد.
إن التبريرات التي قدمتها الإدارة الانتقالية بشأن هذه الأحداث غير كافية لتطمين الناس ، وموقفنا لا يستند إلى رفضنا وإدانتنا للعنف الذي وقع خلال معالجة هذه الأزمة فحسب ، وإنما إلى المنطق والخلفية التي ظهرت خلال ممارسة هذا العنف، لقد وضح أمر لابد من التوقف عنده وهو “الدافع لارتكاب هذا العنف”، حيث أن العنف طال مدنيين أبرياء ولم يستهدف المعارضين للسلطة الجديدة فقط، أي أن العنف لم يقم على أساس الصراع العسكري وحمل السلاح ، وإنما قام كثير منه على الموقف الطائفي، فجرى القتل والاستباحة والاعتداء على الأفراد والبيوت والأسر لصفتهم المذهبية أو الطائفية، وهذا أخطر ما في الأمر ، وهذه جريمة بحق المجتمع كله. وقد أكد الرئيس أحمد الشرع، وأكدت الوثائق السياسية والتصريحات المتكررة أن الوطن السوري المنشود يبنى على قاعدة المواطنة، وأنه لا مكان للطائفية في هذا البناء، وجاءت هذه الممارسات مناقضة لهذا الالتزام.
إننا في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي رصدنا هذه الثغرة الخطيرة، وحذرنا من أثرها على المجتمع، وعلى الوطن، التي ادت الى عزل وإضعاف القوى الوطنية الديمقراطية داخل مجتمع جبل العرب الأشم، وهي القوى الأغلب والأهم والتي كانت تعطي هذا الجبل مكانه في بنية سورية وفكرها وتطلعها، وقد جاء موقف الأخوة من دروز جبل الشيخ إزاء العدوان الصهيوني “الإسرائيلي” على بيت جن، كأحدث تعزيز لوحدة الموقف والمصير والانتماء الوطني العروبي، وأصبح من الواضح الآن أن المخاطر التي تحيط بسورية الوطن والشعب، والتي تهدد وحدة سورية الجغرافية، والمجتمعية ما زالت تلقي بثقلها على واقعنا، ومن القصور ألا تبادر السلطة لتسوية هذه الأمور، ومن الخطأ أن تذهب إلى المعالجة بعد تفاقم هذه المشاكل وتدخل القوى الخارجية، وفي مقدمتها الكيان الصهيوني، لتزيد من هذه المخاطر، وهو ما نشاهده في أزمة السويداء.
8) إن من أكثر ما يقلقنا ويثير تخوفاتنا غياب مفهوم ” العدل الاجتماعي” عن أداء السلطة السياسية وقراراتها، وهذا مسار لا يتحقق إلا من خلال الالتزام بتأمين سبل العيش الكريم للمواطن السوري، الذي يؤمن له الغذاء والكساء والمأوى والصحة والتعليم، ويوفر له خاصية ” الاطمئنان على المستقبل”، ولم يتعرف المواطن السوري بعد، على مكانة هذا المفهوم في سياسات الدولة عبر السنة التي مضت، حيث بات كل شيء ” يسعر” بقيمة السوق، وليس بقيمة الاحتياجات الإنسانية.
إن المواطن السوري، شهد ويشهد منذ التحرير اتفاقات وتعهدات وتوقيعات بشأن مشاريع ضخمة بالمليارات فيما لا يزال يعاني من كل شيء، وفي مقدمة ما يعانيه تدني الأجور إلى مستوى خطير وغلاء الأسعار دون ضوابط، ودخول مؤسسات الدولة على خط زيادة تكاليف الحياة.
إن هذا الوضع خطر على المواطن السوري والبلاد، لأنه ينذر بما يدعى بـــــ “وحدة الناقمين”، فيتحد أصحاب المصالح الانفصالية والطائفية والمرتبطين بجهات خارجية في سياق واحد ضد الدولة الجديدة، وفي هذا أكبر تهديد للسلم الاجتماعي.
9) التأكيد على موقف التصدي الواعي والحازم لكل المشاريع الانفصالية والدعوات الطائفية التي تعمل على تمزيق سورية، المجتمع والجغرافية، ويتقدم هذه المشاريع “قسد” ومن يعمل معها لإنشاء كيان ذي خصوصية تحت أي مسمى، وقد دل مفهوم “العقد الاجتماعي” على عمق توجههم الانفصالي.
إن الدعوة إلى إعادة بناء الدولة على أساس “اللامركزية” دون محددات يفتح الباب لتمزيق سورية، ومع تطور ملف قسد خلال العام المنصرم والمحادثات الجارية معهم برعاية أمريكية مباشرة، فأننا نؤكد على موقفنا الواضح والمحدد، بأن كل الإثنيات في سورية التي تعتبر نفسها غير عربية هي جزء أساسي من النسيج الوطني السوري، وهذا يستوجب علينا جميعاً العمل ومعاً لضمان حقوقهم الوطنية دستورياً فلهم ما لنا وعليهم ما علينا في سورية الموحدة أرضاً وشعباً.
10) سجل العام المنصرم صموداً عظيماً، وأداءً غير مسبوق في ملف القضية الفلسطينية التي نلتزمها ونعتبرها أحد أهم المؤشرات على صدق الالتزام الوطني والقومي والديني لأي قوة أو نظام، وإذ نحيي القوى الفلسطينية الباسلة على ما أنجزته في مقاومة قوى الاحتلال والعدوان، ونرفع الرأس عالياً بصمود الشعب الفلسطيني وصمود الغزيين، وبقيادتهم التي تحملت مسؤولية هذه المعركة المستمرة وغير المسبوقة، فإننا نعتبر أن تأكيد كل القوى الوطنية السورية على الموقف المبدئي تجاه تحرير الجولان السوري المحتل فرض لازم، ونضع المقاومة الشعبية التي أبداها أهلنا في “بيت جن” في التصدي للعدو الصهيوني فاتحة أمل في تصعيد الموقف الشعبي المقاوم للاحتلال، وفي تأكيد أن المعركة ضد هذا العدو واحدة على كل الجبهات، وهو ما نعتز به، ندعمه، وننتمي إليه.
دمشق 7/12/2026 المكتب السياسي


