محمد علي صايغ
في مجموعته القصصية بعنوان ( نحن والحمير في المنعطف الخطير ) للأديب محمد مصطفى العمراني .
في قصته الاولى من هذه المجموعة يقول :
كنت اتناول افطاري على عجل بينما ينتظرني الحمار لنمضي نحو الكابوس .. فبالنسبة لي جلب الماء من أعلى الجبل أفضل من ذلك المنعطف الخطير الذي يتربص بي وبكافة الأطفال للوصول إلى عين الماء .. المنعطف الخطير واد سحيق تسبب في موت عدد من الأطفال نتيجة سقوطهم مع الحمير في الوادي .. كنت طوال الوقت في طريقي الى المنعطف اللعين أفكر كيف سأنجو دون أن أسقط مع حماري أسفل الجبل …
وبعد أن غادرت القرية لإتمام دراستي ، وبعد زمن طويل .. كنت قد سمعت أن أهل القرية بعد وفاة عدد من الأطفال بالوادي استطاعوا إيصال الماء إلى منازلهم ، وحمدت الله أنهم قد استغنوا عن ذلك الوادي السحيق ..
والغريب والعجيب أنني حين عدت للقرية بعد عدة سنوات . وجدت أن مشروع الماء للمنازل قد توقف ، نتيجة مخاصمات و منازعات الأهالي على من يشرف أو يقود أعمال مشروع إدارة المياه .. بعدها عاد الناس إلى نقل المياه على الحمير من الوادي الخطير ..
وفي حديث مع وجهاء القرية سألتهم :
لماذا لا تسلكون طريقاً آخر آمن للوصول إلى العين…؟
كان ردهم المفاجئ الذي أفزعني :
” نحن نمشي وراء الحمير وهي من تسلك بنا ذلك الطريق ” .
هذه القصة تجسد عقلية الناس الذين تعودوا على سلوكيات في حياتهم ولم يستطيعوا إعمال التفكير لتغييرها .. بل أحياناً لا يجدون غضاضة إن كانت تقودهم الحمير .. وما أكثر هؤلاء الناس في مجتمعاتنا ، ابتداء من الأسرة والعائلة والعشيرة… وحتى المدن التي يحسب فيها المرء نفسه متحضراً ، وحتى في النخب والعوام على السواء في المجتمعات المتخلفة مصابون بداء التقليد وما اعتادوا عليه .. وبداء تعظيم وتقديس الرموز والقادة والزعماء بحيث لا يستطيعون الانفكاك عن ما تعودوا عليه .. وما تعلموه من زمن بعيد ، لا يرون الحضارة إلا من زاوية واحدة .. ويحاولون تقليد سلوكيات الشعوب الأخرى المتقدمة تقليداً .. بدون أن يلفظوا ما بداخلهم من أفكار عفا عليها الزمن ، وتراهم فعلياً يعيشون التناقض الفظيع في حياتهم ..
في إحدى ” الدورات ” التي خضعت لها شخصياً عن ” حقوق الطفل ” والتي تتعلم من خلالها كيفية معاملة أطفالك ، وبأن عليك أن تضبط نفسك حين التعامل معهم ، إذ لا يجوز على الإطلاق ممارسة أي عنف تجاههم ، وأن عليك إدارة حوار معهم ، لا استخدام العنف بمواجهتهم .. كان المحاضر محاوراً جيداً ، ويملك أفكاراً قيمة عن طرق معاملة الأطفال ..
في الاستراحة سألت المحاضر : هل لديك أطفال ، قال : نعم ، فقلت له : قل لي بصدق ، هل تمارس العنف معهم ؟؟ سكت برهة ثم قال : أحياناً يخرجونني عن طوري فأضطر أن أضربهم ..
ذلك هو أحد نماذج الازدواجية بين ما نفكر ونقنع الٱخرين به ، وبين سلوكياتنا الحقيقية في التطبيق ….
الكاتب الياباني ” نوبواكي نوتوهارا ” يتقن اللغة العربية ، وترجم العديد من الروايات والقصص والكتب العربية إلى اللغة اليابانية ، وأمضى أربعين عاماً مستطلعا أحوال العرب في كثير من المدن العربية ، حتى أنه كان يذهب إلى الأرياف والقرى ويمكث فيها ليتفحص أحوال الناس وسلوكياتهم وتفكيرهم .. هو ليس مستشرق لنقول عنه – كما يقال عادةً – في أنه يتلاعب أو يزور وفق غايات تقتضيها المهمة المنوطة به في ذلك ، بل هو يحب العرب جداً…
في كتابه ” العرب وجهة نظر يابانية” يمكن تلخيص بعض ماورد به بشكل مكثف من أفكار وانطباعات عن العرب ، يتحدث عن الشعب الياباني ويثير تساؤلاً فيقول : عندما تسأل ياباني هل تكره أمريكا التي ضربتكم بالقنابل الذرية .. يكون جوابه لا أبداً .. لانه بفضل هذه الضربة عرفنا مواطن ضعفنا ومواطن قوتنا ، واستطعنا التركيز على مواطن قوتنا وتجاوز نقاط ضعفنا ..
ثم ينتقل إلى أهم انطباعاته عن العرب فيقول :
– نحن نضيف حقائق جديدة في العلم والابداع ، ويكتفي العرب باستعادة الحقائق التي اكتشفها في الماضي البعيد .
– عند العرب الدين أهم ما يجب تعليمه ، لكنه لا يمنع الفساد ، العرب متدينون جداً وفاسدون جداً ..
– الحكومة لا تعامل الناس بجدية ، ولا تعطي لهم أية قيمة أو اعتبار ، بل تسخر منهم وتضحك عليهم .
– حين يدمر العرب الممتلكات العامة فهم يعتقدون أنهم يدمرون ممتلكات الحكومة لا ممتلكاتهم
– المسؤولية لدى الناس لا تتعدى أبداً الاهتمام بشأنهم الخاص ، لكنهم يحجمون عن العمل في الشأن العام ابتداء من نظافة الشارع وحتى بالانخراط بالعمل السياسي ..
– العرب يعانون من الازدواجية .. يشتكون من قمع السلطة ويمارسونه داخل أسرهم ومدارسهم وفي إدارتهم لمؤسسات العمل أو إدارة المنظمات والجمعيات والأحزاب ، ينتقدون الحكام وديكتاتوريتهم ، ويمارسون الديكتاتورية عندما يصلون إلى أي سلطة ولو كانت سلطة غير ذات قيمة ..
– الاستعمار مارس العنصرية والتفرقة على الشعوب العربية وعلى الرغم أنهم اكتووا بنار العنصرية لكنهم يمارسون العنصرية بمواجهة بعضهم سواء كان الاختلاف في العرق أو الجنس أو الدين والمذهب أو الطبقة الاجتماعية … كل ذلك ، وحسب ذلك ، تتحدد مكانة الشخص في المجتمع .
– في المجتمع العربي تغيب شخصية الفرد وخصوصيته ورأيه المستقل ، في المقابل تسود في القوى والكتل والمؤسسات السياسية والمجتمعية الرأي الواحد والنموذج الواحد والعرق الواحد والدين الواحد والايديولوجيا الواحدة والزعيم الواحد …
هذه بعض انطباعات ” نوتوهارا ” الواردة في مؤلفه عن طبيعة مجتمعاتنا العربية ..
أعتقد أنها لا تحتاج لتعليق أو شرح … إنما السؤال كيف نتجاوز واقع مجتمعنا ومراوحتنا في مكاننا ، وكيف يمكن أن نحذو حذو اليابان مثلاً التي استطاعت أن تتجاوز ذاتها ، وتغلق على مرحلة سابقة ، وتفتح مرحلة جديدة مستندة إلى الحوافز الإيجابية كقيم العمل والالتزام به ، وأهمية الوقت والزمن واستغلاله في الانجاز ، وأهمية التعاون والتعاضد ونبذ العنف والكره والإكراه مع الٱخرين ، وأهمية نبذ الإزدواجية فكرا وسلوكاً ، وأهمية التطلع للحاضر والمستقبل ، والتوقف عن الاستغراق الطويل في الماضي والتقوقع داخله … فالاحداث لا تتكرر .. والزمن لا يتوقف عند مرحلة من التاريخ .. والعالم يتقدم ، فإما أن نلحق به ، أو نبقى تابعين وعاجزين ، وعجز أي شعب من الشعوب لا يأتي من خارجه بل عجز داخلي كامن فيه ، وعجز في إرادة التغيير لأحواله ومواقفه ورؤيته وأسلوب حياته .. والأمم التي لا تتغير قد لا تموت ، ولكنها تبقى عاجزة عن الفعل والتأثير في التاريخ الإنساني ، و لا تقوى على التطور و النهوض من جديد .