إبراهيم نوار – كاتب مصري
“القدس العربي”
الأربعاء , 5 أبريل , 2023
السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تواجه معضلة كبرى، بين خيار الرحيل، وخيار البقاء وتعزيز الوجود. وقد كان الشهر الماضي مليئا بالتطورات الصاخبة، التي تلازم معضلة الاختيار بينهما. وبوسعنا القول بأن حدة هذه المعضلة تفاقمت بشدة، بسبب تداعيات ثلاثة زلازل سياسية كبرى:
الزلزال الأول، ذو طابع جيوستراتيجي، صنعته الولايات المتحدة بنفسها، ألا وهو زلزال الانسحاب المذل من أفغانستان في أغسطس من عام 2021 ، بعد عشرين عاما من الاحتلال والحرب المستمرة. هذا الزلزال يرتبط كذلك بإنهاء العمليات القتالية في العراق بعد عام 2016، وتخفيض القوات في سوريا منذ عام 2018، وكان من أهم تداعياته أنه ترك وراءه فراغا عسكريا واسعا وعميقا، تحركت لملئه بسرعة روسيا وتركيا وإيران والتنظيمات المتطرفة المسلحة، الموالية لكل منها أو التابعة لها.
الزلزال الثاني، ذو طابع سياسي، صنعته إسرائيل بنفسها، مع نتائج الانتخابات العامة في العام الماضي، بصعود الصهيونية الدينية المتطرفة إلى كراسي الحكم في تل أبيب في ديسمبر، وهو ما فجّر حربا أهلية سياسية بين الإسرائيليين، وموجة عنف جديدة ضد الفلسطينيين، وترك تأثيرا سلبيا في العلاقة بين الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية، وصلت إلى حد أن وزير الأمن الإسرائيلي قال إن بلاده لم تعد النجمة الواحد والخمسين في العلم الأمريكي. كما أعلن رئيس الوزراء رفضه للضغوط الأمريكية بشأن القانون الذي يهدر استقلال القضاء، ويضعه تحت سيطرة الحكومة والأغلبية البرلمانية في الكنيست. ومع أن الخلاف بشأن التعديلات القضائية لن يضعف علاقة التحالف الاستراتيجي بين الطرفين، فإن توقيت الخلاف يثير الشكوك حول ادعاء واشنطن إنها تقود حلفا عالميا للدول الديمقراطية، كما يضعف النفوذ الإقليمي لها في الشرق الأوسط، لارتباط الخلاف بتداعيات سلبية خطيرة على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وعلاقة واشنطن بشركائها العرب (!) ومنهم السعودية ودول الخليج.
أما الزلزال الثالث، وراء معضلة الخيارات الأمريكية في الشرق الأوسط ، فهو زلزال سياسي في طبيعة العلاقات الدولية – الإقليمية صنعته الصين، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي «تملك النية والقدرة على إعادة رسم النظام العالمي»، طبقا لما جاء في «استراتيجية الدفاع القومي»، التي أصدرتها إدارة بايدن في أكتوبر من العام الماضي. المبادرة التي رعتها الصين بدعوة السعودية وإيران لاستئناف العلاقات بينهما، قلبت معادلات توازن القوى، الذي كانت واشنطن تسعى لإقامته إقليميا، بخلق محورين متصادمين في المنطقة، واحد تقف على رأسه إيران وحلفاؤها، والثاني تقوده إسرائيل والولايات المتحدة، ومن ورائهما دول الخليج. وقد استطاعت الدبلوماسية الصينية من الناحية العملية إفساد المشروع الأمريكي للشرق الأوسط، بخلق جسر للتقارب بين السعودية وإيران، وهو ما يمكن في حال نجاحه، أن يؤدي إلى إدارة النزاعات بينهما بالطرق السلمية، وليس بالحرب، التي تتربح منها إقليميا وعالميا كل من تل أبيب وواشنطن. كما أن الزلزال السياسي الذي صنعته الصين، يفتح نافذة واسعة لتطوير العلاقات العسكرية والاقتصادية بينها وبين دول الخليج.
كيف ترد واشنطن
حمل الشهر الماضي ملامح فزع أمريكي من التداعيات السلبية لما يحدث في الشرق الأوسط؛ فأرسلت واشنطن إلى المنطقة في رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية الجنرال مارك ميلي، ثم وزير الدفاع لويد أوستن، ومن قبلهما زار المنطقة منذ أوائل العام الحالي، وزير الخارجية أنطوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، كذلك شاركت القوات الأمريكية في عدد من المناورات العسكرية مع إسرائيل، ومع دول عربية، لغرض إثبات حضورها العسكري، وإضفاء قدر من المصداقية على هذا الحضور، خصوصا من خلال تكثيف أنشطة القيادة العسكرية المركزية، التي يصادف العام الحالي الذكرى الأربعين لإنشائها (1983- 2023). كما ازدحم جدول أعمال القيادة المركزية بعمليات عسكرية فعلية، ضد جماعات موالية لإيران، بعد أن تعرضت القاعدة العسكرية الأمريكية في الحسكة (شمال شرق سوريا) لهجمات بطائرات مسيرة أدت إلى إصابة 12 جنديا أمريكيا، ومقتل متعاقد أمريكي وإصابة آخر، فردت هي على ذلك، بالتعاون مع إسرائيل، بهجوم على منشآت لجماعات موالية لإيران في 23 مارس. وبينما كانت القيادة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط، مشغولة عملياتيا بمناورات عسكرية في بحر العرب، وعمليات في شرق البحر المتوسط وسوريا، كان قائد هذه القيادة الجنرال مايكل كوريللا مشغولا في واشنطن بتقديم شهادات إلى مجلس الشيوخ (16 مارس) ومجلس النواب (23 مارس)، أمام لجنة القوات المسلحة في كل منهما، برفقة قائد القيادة الافريقية التابعة للجيش الأمريكي الجنرال مايكل لانغلي ومسؤولين كبار من وزارة الدفاع، منهم الدكتورة سيليست والندر، مساعدة وزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي. هذه الشهادات جاءت في سياق ما يمكن أن نعتبره «حملة مراجعة وإعادة تقييم» لدور الولايات المتحدة ووجودها العسكري في الشرق الأوسط، على ضوء تداعيات الزلازل الجيوسياسية الثلاثة الكبرى التي أشرنا إليها. وتكشف الشهادات، والمناقشات التي دارت بشأنها في الجلسات المفتوحة في مجلسي الكونغرس، عن حالة من التخبط الشديد بشأن الخطة المستقبلية للولايات المتحدة في المنطقة.
فجوة بين القدرة والمسؤولية
وتبين شهادات الدكتورة والندر والجنرال كوريللا، وجود تناقض حاد بين مسؤوليات القيادة المركزية طبقا لاستراتيجية الدفاع القومي لعام 2022، والقدرات العسكرية المتاحة لها. وطبقا لشهادة كوريللا فإن القيادة العسكرية المركزية مناط بها تنفيذ أهم الأولويات العسكرية الواردة في الاستراتيجية للمنطقة. وجاءت تلك الأولويات، في شهادة والندر على النحو التالي: أولا، المحافظة على خيارات عسكرية ذات مصداقية لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي. ثانيا، مكافحة أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة. ثالثا، إرباك تنظيمات العنف المتطرفة مثل «القاعدة» و»داعش» في سياق الإلتزام بمواصلة الحرب على الإرهاب. رابعا، ضمان حرية الملاحة عبر الممرات البحرية الدولية. خامسا، العمل مع إسرائيل لحماية أمنها. وطبقا لاستراتيجية الدفاع القومي، فإنه إذا كانت الصين تمثل العدو الرئيسي للولايات المتحدة عالميا، فإن إيران تستحوذ على هذه الصفة إقليميا. ومن هنا تظهر قوة الضربة الدبلوماسية التي وجهتها بكين إلى واشنطن للتقريب بين كل من السعودية، التي ما تزال مصنفة على أنها «شريك» لأمريكا وإيران المصنفة عدوا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن استراتيجية الدفاع القومي للولايات المتحدة مبنية على أساس رؤية للردع المتكامل، والمنافسة بين تحالفات وليس بين دول، ومن ثم فإن نجاحها لا يتوقف على القدرات الأمريكية المنفردة، وإنما على بناء تحالفات أوسع مع أكبر عدد من الدول ضد الصين وروسيا. وتبين قراءة محضر الجلسة المفتوحة للجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، أن الجنرال كوريللا يشكو من وجود فجوة بين الإمكانيات العسكرية، وبين المهام الموكلة إلى القيادة العسكرية المركزية التي يتولى رئاستها. وقد ذكر صراحة أنه تقدم بطلب لزيادة الإمكانيات المتاحة لقواته، سواء بالنسبة للتسليح التقليدي مثل الطائرات، أو للتسليح غير التقليدي مثل المعدات العسكرية المسيرة غير المأهولة بطواقم بشرية. ومع أن الكونغرس ووزارة الدفاع لم ينتهيا بعد من عملية المراجعة وإعادة تقييم الدور العسكري للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فقد تم في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، اتخاذ عدد من القرارات لتعزيز دور القيادة المركزية. إذ قررت وزارة الدفاع أن ينضم للقوة الجوية التابعة للقيادة في الشهر الحالي، سرب من طائرات «أيه -10»، وهي طائرات هجومية أقل قدرة من الطائرات «إف- 16» و»إف -15». كما تحتفظ القيادة بكتيبتين مضادتين للصواريخ من طراز «باتريوت» تابعتين للجيش الأمريكي. كذلك أعلن المتحدث الرسمي باسم القيادة المركزية، استبقاء المجموعة القتالية البحرية الأمريكية بقيادة حاملة الطائرات «جورج إتش دبليو بوش» في شرق البحر المتوسط، ضمن مسرح عمليات القيادة المركزية، بعد الهجوم الأخير الذي تعرضت له القاعدة العسكرية الأمريكية في الحسكة. وتضم تلك المجموعة حوالي 5 آلاف جندي، أي ما يزيد عن خمس أمثال القوة الأمريكية المتمركزة في شمال شرق سوريا (900 جندي). هذه القوة البحرية تتبع القيادة العسكرية الأمريكية في أوروبا، وليس القيادة المركزية. وكان من المقرر أن تعود حاملة الطائرات بوش والقوة المرافقة لها إلى قواعدها في الولايات المتحدة في نهاية الشهر الماضي. الاستنتاج الكبير الذي نستخلصه من تطورات الموقف الأمريكي في الشرق الأوسط، هو أن الإدارة الأمريكية ما تزال متخبطة بين احتياجات تخفيف وجودها العسكري بسبب أولوية الحرب مع الصين وروسيا، وضرورات البقاء، بسبب ضخامة مسؤوليات تحقيق أولويات استراتيجية الدفاع القومي في الشرق الأوسط، خصوصا وأنها تخسر حاليا رهان تأسيس حلف عسكري ضد إيران، وتعجز عن تحويل المنطقة إلى ساحة إضافية للحرب الباردة الجديدة.