بقلم محمد علي صايغ
في كل عام تمر ذكرى ثورة ٢٣ / يوليو١٩٥٢ ويدور حوار عبر كتابات المهتمين والسياسيين ، بين من يعتبرها محطة إيجابية فارقة من محطات تاريخنا المعاصر ، وبين من يكيل الهجوم عليها ويركز على سلبياتها وإخفاقاتها .. بين من يعتبر مرحلتها مرحلة نهوض على طريق نهضة الأمة ، وبين من يعتبرها وصمة في تاريخنا المعاصر .. إلا أننا اليوم كناصريين في ذكرى ثورة عبد الناصر لا نتوقف عندها لنعيد تكرار أمجادها ونتغنى بما حفلت به او لندفع الى تقديس عبد الناصر كشخص عمل واجتهد ، أخطأ وأصاب .. فتجربة الثورة مثلها مثل كل تجارب الثورات مرت بمراحل نهوض ، وتعثرت بمراحل أخرى .. وهي أيضا ككل الثورات تجربة إنسانية تحتمل الصواب والخطأ ، وليس هناك من تجربة ثورية في السياسة والحكم يوحى إليها بوحي ، ولذلك تبقى التجارب محل حوار وتقييم ونقد .. لكن الوقوف عند اي تجربة إنسانية لا بد من إنصافها عند تقييمها ، والوقوف عند الملامح العامة التي رسختها على طريق نهوض مجتمعاتها ، وما انجزته على طريق التغيير المجتمعي وما جسدته من فكر وعمل يتطابق مع ٱمال وطموحات شعبها ..
ولقد انطلقت ثورة عبد الناصر من منطلقات اساسية نلخصها بالخطوط العريضة العامة التالية :
– التحرر من التبعية لقوى الهيمنة الخارجية ومراكز النفوذ الاستعمارية والأحلاف التابعة لها ، والعمل على تأسيس جيش وطني قوي للدفاع عن البلاد
– إطلاق التنمية الشاملة المستدامة عن طريق التخطيط الاقتصادي ، والتوجه للتصنيع والصناعات الثقيلة ( الدقيقة والحربية ) .. ، وفتح المشاريع الزراعية والصناعية والخدمية .. وتوظيف الكفاءات العلمية لخدمة التنمية .
– إرساء معايير العدالة الاجتماعية ، بالتوزيع العادل للثروة الوطنية ، وإعادة الاعتبار لقيم العمل والانتاج ، واستيعاب اليد العاملة ، والعمل على إزالة الفوارق بين الطبقات ، والاهتمام بالتعليم العام للوصول إلى التقدم والتطور .
– إقامة حياة ديمقراطية سليمة
– التأكيد على انتماء مصر العروبي والعمل على وحدة الأمة ، ودعم حركات التحرر العربي ، والانفتاح على حركات التحرر العالمية
– إعتبار القضية الفلسطينية قضية الأمة الرئيسية ، والالتزام بتحرير فلسطين وكافة الاراضي المحتلة ، ورفض التطبيع ، واعتبار الصراع العربي الإسرائيلي صراع وجود لا صراع حدود .
تلك باختصار شديد المبادئ والمنطلقات التي سعت وعملت عليها ثورة يوليو ١٩٥٢ .. ونجحت في جوانب عديدة ، وتعثرت في جوانب أخرى ..
إن التطرق الى هذه المنطلقات العامة اليوم ومع المتغيرات الكبرى التي حصلت في دولنا والعالم هو للاستهداء بها لصناعة مشروع الأمة الذي نفتقده اليوم في ظل هذا الانهيار الكبير الذي يجتاح أمتنا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتعليميا .. وفي ظل تحكم الاستبداد والفساد في دولنا وأنظمتنا العربية . وفي ظل حالة العجز الكبير بعد أن استطاعت قوى الردة والانظمة الشمولية وداعميها الوصول بنا ليس الى تكريس الحالات القطرية في كل بلد من البلدان العربية انسجاما مع سايكس بيكو وإنما الى هتك النسيج الاجتماعي الوطني عبر تفعيل العصبيات القبلية والعشائرية والطائفية والإثنية وإدخال بلداننا في مرحلة ما قبل الوطنية ، وجعل دولنا بيئة خصبة للتدخلات الخارجية التي أذكت الصراعات والحروب الداخلية ودفعت ولا زالت تدفع الى مزيد من التقسيم وفق مشروع الشرق الاوسط الجديد ، والمشاريع الأخرى الجديدة التي تفتح الباب واسعا أمام تلاقي وتطبيع انظمتنا مع العدو الصهيوني عبر الابراهيمية الجديدة ، والناتو العربي وغيرها من المشاريع ، لإحكام القبضة الغربية والأمريكية علينا ، وتكريس تبعية دولنا وأنظمتنا إليها .
إن حالة الانحدار الكبير في مجتمعاتنا ، وأمام تبعية نظمنا وارتهانها للخارج للإبقاء على ديمومة حكمها يضع شعبنا وقواه الوطنية والسياسية امام مهمات كبرى للتغيير وعلى رأسها النضال المتواصل لتغيير أنظمة الحكم الشمولية بنظام ديمقراطي تداولي ، وقبل ذلك ايضا النضال من أجل استعادة استقلالنا بعد ان عجزت نظمنا حتى على الحفاظ على دولها القطرية ولتضعنا اليوم أمام مرحلة ” التحرر الوطني ” بامتياز .
وبالرغم من أن ثورة عبد الناصر لم تستند الى ايديولوجيا مسبقة او فلسفة شاملة للحكم في ادارة الدولة والمجتمع .. إلا انها طورا بعد طور ارتكزت الى مبادى استمدتها من ٱمال وطموحات ومعاناة شعبها ، وعملت مرحلة بعد أخرى الى تطبيقها .. لكنها عجزت في الانتقال الى تطبيق أحد مبادئ الثورة المتمثل في إقامة حياة ديمقراطية سليمة فكان ذلك أحد الأبواب المهمة التي دخلت من خلالها قوى الردة بعد وفاة عبد الناصر لتطيح بمشروع الأمة الذي تبناه عبد الناصر لتصل بنا انظمتنا الشمولية المملوكية الى ماوصلنا اليه من انحطاط وتخلف …
وإذا كان جيل الثورة قد أطلق بعد وفاة عبد الناصر شعار ” حنكمل المشوار ” إلا أنه في واقع الأمر قد عجز عن استكمال هذا المشوار ، بالرغم من نضالات الكثيرين على هذا السبيل ودفعهم اثمانا باهظة من حياتهم ، إلا أن جيل الثورة وطلائعها الثورية بقيت اسيرة ” نخبويتها ” ولم تستطع الاستفادة من الحاضنة الشعبية أو قيادة الكتلة الشعبية والقاعدة الجماهيرية التي تركها لها عبد الناصر واستثمارها على طريق الاستمرار في خط الثورة وانجاز المشروع النهضوي الجامع للامة .
الناصرية ليست مجرد شعارات نطلقها أو نرددهها على السنتنا ، أو مجرد مقولات نضعها على صدورنا نياشين نتباهى بها ، الناصرية قيم ومبادئ ورؤية استراتيجية ، مطلوب العمل عليها وتمليكها للجيل الجديد الذي لم يعرف عبد الناصر او يختبر دوره وفعله وحضوره ، هذا الجيل الجديد الذي يقع على عاتقه إنجاز التغيير يحتاج إلى ” القدوة ” وإلى الوقوف معه في إعادة صياغة مجموعة الأهداف وصياغة رؤى استراتيجية عصرية تقترب من طموحاته وٱماله وطريقة تفكيره لتغيير واقعه الى الافضل .. وهذا يتطلب من كافة القوى الناصرية والقوى الوطنية ومفكريها والمهتمين بنهوض أمتنا وتقدمها ونهضتها ، تجديد الناصرية بمضامين ورؤى عصرية بعد كل المتغيرات والتحولات والظروف التي عصفت ولا زالت تعصف بامتنا .
وإذا كانت الديمقراطية بوابة أي تغيير منشود ، فإن ما يتقدم عليها اليوم إنجاز التحرر الوطني بكل أبعاده ، فلا ديمقراطية في ظل دول تابعة ومرتهنة للخارج ، ولا ديمقراطية في ظل أنظمة الفساد والاستبداد ، ومافيات المال والابتزاز ، ولا تغيير إلا في ظل مشروع نهضوي جامع للتغيير تشتغل عليه القوى الوطنية في قاعدتها الجماهيرية وتعمل على تحشيدها بفكر منفتح ورؤى عصرية للتغيير ، عبر تفاعل وحوار ثقافي وسياسي ومعرفي مع الجيل الجديد ، وقبل كل ذلك إنجاز تغيير ديمقراطي داخل القوى الوطنية ذاتها ، يحدث تغييرا فعليا في بنيتها وبناها وفي علاقاتها الداخلية ومع القوى الحية في مجتمعها ..
الأمة العربية تمر الٱن بمرحلة التخلف التاريخي والحضاري ، وتحت وطأة محاصرة النظم للقوى الشعبية الجماهيرية وضرب قواها الحية وتشتيتها وتفتيتها وما رافق ذلك من صراع الثقافات والغزو الثقافي الذي مهد للاستبداد والتخلف والتبعية ، فإن نهج التغيير الديمقراطي يعني أول ما يعنية العمل على صياغة مرتكزات الوحدة الوطنية لشعبنا ، وبناء مقومات وحدة الأمة والتبشير بها ..
ومن هنا فإن مهمة إنجاز التغيير الديمقراطي يقع على الجميع وعلى الأخص القوى الوطنية الحاملة لمشروع التغيير الوطني وما يتطلب ذلك من العمل الدؤوب في انجاز وحدتها أو العمل في إطارات العمل المشترك في تحالفاتها في سبيل إنهاء تشتتها وتبعثرها ، وتجاوز حالة العجز وحالة ” اللافعل ، واللاجدوى ” الى مرحلة الفعل والتأثير الإيجابي في حركة الاحداث والمتغيرات الكبرى التي تعصف بالدولة والمجتمع ، ومدخلها الى ذلك وضع برنامجها الاستراتيجي الجبهوي وتطويره والعمل من خلاله لتوسيع قاعدتها الجماهيرية والتكاتف والعمل الجدي في تطوير فعلها وأدائها وادواتها معا ، وتطوير معارفها السياسية والثقافية بما ينسجم مع التطور العالمي الثقافي والمعرفي والتقني ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة .
وإذا كنا في ذكرى ثورة يوليو ١٩٥٢ نجدد تمسكنا بمبادئ الثورة العامة والنهج القومي الذي دفع به عبد الناصر وانزله من وسط النخب السياسية ومنتدياتها الخاصة الى عمق الجماهير الشعبية في أرجاء الامة العربية ، فإن مهمة تطوير وبناء استراتيجيات ورؤى عصرية في السياسة والحكم ، تقع على عاتقنا جميعا وعلى كافة القوى والفعاليات السياسية والثقافية . كذلك فإن جيلنا ، والجيل الجديد – بعد الزلزال الكبير الذي هز كيان مجتمعاتنا ودولنا خاصة بعد ما بات يعرف بالربيع العربي – مطلوب منه ” تحدي اليأس ” والدفع الدائم بجذوة التغيير .. فاليأس إحباط للنفس والعمل ، وتثبيت للاستسلام والخنوع ، ولابد لتجاوز حالة اليأس الاقتراب من الجيل الجديد والتفاعل معه وتزويده بتجربة الثورة الناصرية وتجربتنا السياسية بفتح حوار نتناول بموضوعية – دون تعصب أو انغلاق او مسخ للحقائق – إيجابيات التجربة الناصرية ، وتجاربنا السياسية ، وسلبياتهما وإخفاقاتهما ، ونستلهم من الجيل الجديد رؤيته للحاضر والمستقبل ورؤيته للتغيير الذي يتطلع اليه .
وجيلنا ، والجيل الجديد مطالب بالثورة والتغيير الجذري في الدولة والمجتمع ، إذ لم تعد تنفع الاصلاحات الشكلية أو الترقيعية ، ولا بد من وضع استراتيجية واقعية للتغيير ، تتطلع دائما للهدف والجدوى ، مستفيدة من المتغيرات الكبرى في الصراع الدولي الحاصل ، واستثمار انعكاساته في التغيير المنشود . وذلك دور وفعل وتأثير مطلوب من القوى والفعاليات السياسية ، دور يأخذ بقوة الفعل والنضال والتفاعل في أوساط المجتمع ، وهو دور لا يعطى أبدا على طبق من ذهب.