د. مخلص الصيادي
30 / 3 / 2023
في الثلاثين من مارس 2000 غادرنا الدكتور جمال الاتاسي المولود في إبريل من العام 1922 بعد حياة حافلة بالنشاط والعطاء السياسي لم تنقطع.
وكان الراحل قد ختم نشاطه السياسي قبل أسبوع من وفاته بحضور المؤتمر الثامن لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي في سوريا، وهو الحزب الناصري الذي بقي الأتاسي على رأسه منذ بدايات تأسيسه في العام 1964، وألقى في هذا المؤتمر كلمته التي كانت بمثابة رؤيته السياسية العامة للمشهد السياسي وكذلك بمثابة القاعدة التي أسست للبيان السياسي للمؤتمر.
ومسيرة حياة الراحل تجسد بحق مسيرة جيل من السوريين عاشوا مرحلة الاستعمار الفرنسي لبلدهم بعد تحلل الإمبراطورية العثمانية، ورأوا أن طريق المستقبل لهذه الامة لا بد أن يمر عبر تحررها الكامل وعبر وحدتها الجغرافية والسياسية، وأن هذه المهمة الصعبة لا يقدر على القيام بها وتحمل أعبائها ومشاقها إلا القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقية في هذه الوحدة.
ومن هنا كان الدكتور جمال الأتاسي الذي حصل على شهادة دكتوراة “في طب النفس والعقل” من باريس من مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1947 إلى جانب مؤسسيه الأوائل وفي مقدمتهم ميشيل عفلق وصلاح البيطار اللذين كانا يكبرانه بأكثر من عشر سنوات، وكان فارق السن هذا يجعل الدكتور جمال من صف الشباب من مؤسسي الحزب قياسا لعفلق والبيطار. وكان معه في هذا التوصيف رفيقاه سامي الدروبي (1921 ـ 1976)، وعبد الكريم زهور (1917 ـ 1985).
كان انتساب هذا الجيل من الشباب لحزب البعث طريقا لتحقيق ذلك الاستهداف الأكبر، لذلك كان انجاز الوحدة السورية المصرية وولادة “الجمهورية العربية المتحدة” في فبراير من العام 1958، والدور المحوري الذي بدأ يبزغ للأمة كلها بقيادة جمال عبد الناصر يمثل محطة رئيسية في حياتهم، وقد ملكهم معيارا مهما في تحديد خطواتهم في العمل السياسي، لذلك ارتبط هؤلاء والكثير جدا من أمثالهم، ومن الجيل الذي لحقهم، بهذا الإنجاز، وبالقيادة التاريخية لتلك المرحلة.
وهزت جريمة الانفصال التي فصمت عرى الوحدة في 28 إيلول / سبتمبر 1961 بعمق الضمير الوطني والقومي لدى هذا الجيل، فانتهض يقاوم هذه الجريمة مناديا بإسقاط الانفصال وإعادة الوحدة، وكان لهذا الجيل دوره القيادي في توجيه الحراك الشعبي، وفي إبقاء حركات الاحتجاج والرفض فوارة على مدى سنة ونصف السنة حتى سقط هذا الانفصال في 8 آذار/ مارس 1963، ولاحت مجددا فرصة إعادة الوحدة من خلال بناء وحدة ثلاثية تجمع مصر وسوريا مع العراق الذي كان قد تخلص من حكم عبد الكريم قاسم في 8 شباط/فبراير 1963، واستجابة للضغط المكثف من الشارع السوري والعراقي عقدت محادثات الوحدة الثلاثية في القاهرة، وولد من هذه المحادثات “ميثاق الوحدة الثلاثية”، لكن هذا الميثاق بقي حبرا على ورق، إذ لم يلبث حزب البعث في البلدين أن تخلى عنه، وبدأ البعثيون يعبثون بالوحدة الوطنية في البلدين، ويعيثون فسادا فيهما.
في ظروف “محادثات الوحدة الثلاثية” التي عاينوها مشاركين ومتابعين ظهر جليا لجمال الأتاسي ورفيقيه، والكثير من جيلهم، أن حزب البعث لم يعد ذاك الحزب الذي انتسبوا إليه، ولم تعد الأهداف التي رفعوها وحلموا بها تمثل حضورا حقيقيا فيه، وإنما باتت سبيلا لترسيخ حكم مختلف جدا عما تطلعوا إليه، لذلك أعلنوا انسحابهم من الحزب، ورسخوا ارتباطهم بالحركة القومية الناصرية، وبالخط السياسي والفكري والنضالي الذي خطه جمال عبد الناصر، وجاء موقف هذا الثلاثي تمثيلا حقيقيا لضمير الشباب القومي الذين انضوا من سابق لحزب البعث من أجل القضية القومية، وتخلى هؤلاء عنه حينما تخلى هو عن هذه القضية، وصار أحد أهم معوقات تحقيقها.
ومنذ انفصالهم عن الحزب صار لكل من هؤلاء الثلاثة طريقة في ممارسة قناعاته، بين العمل السياسي المباشر، والعمل العلمي الفلسفي، والعمل الأدبي والدبلوماسي. لكنهم كانوا دائما في المسار نفسه، ويخدمون الهدف ذاته.
مع هذا الانحراف الخطير في مسيرة حزب البعث، وهذا القطع الذي تم بين جمال الأتاسي ورفاقه وجيله مع حزب البعث، انتقل لتكون له الصدارة في قيادة التيار الناصري في سوريا مع ثلة من قيادات هذا التيار التي تقدمت لتحمل المسؤولية في النضال من أجل الوحدة وفي التصدي لنظام البعث المستبد الانفصالي،، وتدريجيا وبسبب ظروف موضوعية، بات الدكتور جمال الاتاسي تدريجيا الأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي، ومنذ العام 1965 ـ حين حلت الأمانة العامة في المكتب الخارجي للاتحاد في القاهرة ـ ومن ثم العام 1968 اصطبغ الاتحاد الاشتراكي بصبغة أمينه العام، وبات كل حديث عن الاتحاد حديثا يتصل اتصالا مباشرا بالدكتور جمال الأتاسي، ولا نخطئ إذا قلنا أيضا إن هذه الصبغة تكاد أن تغطي أيضا عموم الحركة الناصرية في سوريا.
بحق كان الدكتور جمال الأتاسي بخصائصه الذاتية، وبحجم وتأثير الحزب الذي يقوده وبالبرنامج السياسي في العمل الوطني ” الجبهة الوطنية ” الذي اعتمده عقب عدوان حزيران الوجه الأبرز للمعارضة السورية المدنية في مواجه نظام حزب البعث في مختلف المراحل التي مر بها هذا النظام.
كان إيمان الأتاسي عميقا بأهمية تحقيق “وحدة موقف، ووحدة حركة” للمعارضة السورية لتحقيق تغيير جزئي أو كلي في الحياة السياسية السورية استجابة لاحتياجات سوريا، ولاحتياجات وتحديات الواقع العربي، وقد أطلق الدكتور جمال هذا البرنامج مستندا إلى لقاء جمعه بجمال عبد الناصر عقب النكسة، ثم بات هذا البرنامج قاعدة ثابتة في تفكيره، وبالتالي خطة مستقرة في فكر وعمل الاتحاد الاشتراكي، ولم تزل.
وحين أفشل نظام البعث الاستبدادي هذا أول جهد لإقامة جبهة وطنية في سوريا ردا على ظروف نكسة حزيران، ودفع بقيادات هذا التحرك إلى المعتقلات، كان الأتاسي في مقدمة من استقبلتهم سجون البعث في تلك المرحلة، وحين بدت بوادر انفراجة في الوضع السوري الداخلي بسبب أزمة الحزب الحاكم، لم تتغير قناعة الرجل وحزبه بضرورة بناء جبهة عمل وطني شاملة، لذلك لاقى التغيير الذي قادة حافظ الأسد في نوفمبر/ تشرين الثاني 1970، والشعارات التي أطلقها وكان يتصدرها شعار الانفتاح على الشعب، ترحابا من الاتحاد الاشتراكي ومن الدكتور الاتاسي شخصيا، والحق أن هذا التغيير في السلطة السورية لاقى في حينه ترحابا شعبيا عاما دفع إليه النظام الاستبدادي العاتي، والطفولة السياسية التي كانت وسمت نظام البعث قبل ذلك هذه الحركة.
ورغم أن أجواء التفاؤل بفرص وجود نظام جديد في سوريا انزوت سريعا، ومؤشرات الارتداد إلى الديكتاتورية السياسية والحزبية تتابعت، إلا أن الدكتور جمال تمسك بإعطاء الفرصة والوقت للأسد للوفاء بوعود كان قد قطعها له شخصيا مضمونها إقامة حياة سياسية حقيقية متعددة الأركان وجبهة عمل وطني ذات مصداقية، وحرية حقيقية للمواطن السوري.
وأذكر هنا أن هذا التوجه الذي التزمه الأمين العام للاتحاد الاشتراكي واجه معارضة شديدة داخل الاتحاد، وداخل اللجنة المركزية واللجنة التنفيذية العليا، ما أسفر عن هزة عميقة داخل التنظيم، أصابت كل مؤسسات التنظيم، لكن لم يمض عام حتى توصل الأمين العام الى القناعة نفسها التي عبر عنها المعارضون لهذه السياسة، وقرر الانسحاب من هذه التجربة الجبهوية البائسة، والتحول الى المعارضة، لكن تلك الهزة التي أصابت الاتحاد أحدثت فيه شروخا داخلية وانكسارات عميقة لم تندم بعد ذلك أبدا.
وعلى الطريق نفسه بدأ الاتحاد الاشتراكي من جديد جهود بناء جبهة معارضة لنظام حافظ الأسد، الذي كان قد تفرد وتوحش، مستعينا بوهج حرب تشرين / رمضان وبدماء شهداء تلك الحرب، وبتلك الجهود ولد في العام 1979″التجمع الوطني الديموقراطي”. وكان الاتحاد الاشتراكي وأمينه العام الدكتور جمال الاتاسي قطب الرحى فيه، وهو الذي بقي يقود هذه المعارضة المدنية في الداخل السوري حتى رحيله في العام 2000.
هذا الرجل السياسي حتى العظم، والمفكر والمنفتح دون حواجز على تيارات الفكر المختلفة، والملتزم بأهداف النضال العربي، بالتيار الناصري، والمشارك بقوة في كل تحرك تحرري قومي بدءا بثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941، ولم يكن قد بلغ العشرين من عمره، كان في التزامه الفكري والحركي يرفض أن يكون “مقولبا “، كانت قناعته وفكره المنفتح هي القالب الوحيد الذي يلتزم به، كان ناصريا، لأنه كان يرى في الناصرية طريقا للهدف والغاية، لذلك حينما استشعر بضرورة تطوير النظرة الناصرية للديموقراطية والتعدد الحزبي، لم يتأخر في اعتماد هذه الفكرة وتأصيلها وإدماجها بالفكر الناصري، فكتب “الحرية أولا”، وكان حين وقف على نكسة 1967 مستبصرا وناقدا كتب “دروس النكسة”، ثم صاغ رؤيته للمتغيرات هذه في كتابه ” إطلاله على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وفكره الاستراتيجي والتاريخي”، ورغم الأجواء الماركسية التي كانت تحيط به في نشاطه السياسي وفي ثقافته العامة، إلا أنه استطاع أن يقيم أدوات حوار وتواصل فكري وسياسي مع المسألة الدينية، ومع الإسلام السياسي، ليكون بذلك أقرب إلى التصور والموقف الناصري من هذه المسألة ذات المكانة الجوهرية في الأمة، وكانت بداية هذا الادراك في تقرير المؤتمر السابع للحزب حينما صدر التقرير بعبارة مشهور جاءت وكأنها رد على حالة التفرد والتأله التي أحاط بها حافظ الأسد نفسه، وعملت أجهزته على ترويجها:
” بسم الله، ولا مطلق وأزلي إلا إياه، وما عدا ذلك نسبي وتاريخي، ونحن منه حركة وعي إنساني يتقدم، ونحن فيه حركة جدال، وباسم العروبة، والعروبة تاريخ وثقافة، وإليها ننتسب، ووطن قومي نناضل في سبيل تلاحم مقوماته ووحدة كيانه …..”
وفي حواره مع مجدي رياض (كتاب حوار شامل مع الدكتور جمال الاتاسي عن الناصريين والناصرية ) دعا الأتاسي إلى تنحية قضية العلمانية، فهي ليست من ثوبنا، ولم تكن حين استخدمت تستهدف معنى الإلحاد، أو معنى إبعاد الدين عن الحياة، مشيرا إلى أن “كلمة علمانية” تثير الكثير من الالتباسات، وفي السنوات الأخيرة لم نعد نستخدم هذا المصطلح ولم يعد موجودا في أدبياتنا، …….. لقد قمنا بتغيير المصطلح، نقول بديلا عنه “عدم المذهبية” بل إنه يذهب إلى القول ” نعم للدولة الإسلامية، لا لدولة دينية مذهبية” فالخمينية لا، هناك الإمام المعصوم، ويتكلم باسم الله.
هذا التطور الفكري وهذه الحيوية الفكرية سمة من سمات الدكتور جمال الأتاسي ، وقد رافقها نشاط سياسي وعملي في الاتجاه نفسه، فقد شارك بفعالية في أعمال ونشاطات المؤتمر القومي الإسلامي. ودعا إلى تعزيز العلاقات السياسية والحركية بين التيارين القومي والإسلامي، باعتبارهما تياري الأمة وجناحي قوتها، وكان من نتائج عمل هذا المؤتمر في دوراته المتوالية إصدار الوثيقة الفكرية التي حملت اسم “المشروع النهضوي العربي”، والتي رسمت طريق التجدد الحضاري لهذه الأمة وأقامته على أعمدته الستة:
“التجدد الحضاري، الوحدة، الديموقراطية، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية، الاستقلال الوطني والقومي”.
جمال الاتاسي رحمه الله وفي آخر كلمة له، في 21 مارس 2000 في افتتاح مؤتمر الاتحاد لخص كل المسيرة السياسية التي ناضل وحزبه من أجلها، وكل سمات التوجه التي يتطلع إليها.
وإذ افتتح كلمته بالحديث عن الظروف الأمنية القاسية حيث ينعقد المؤتمر ” تحت وطأة نظام مستبد شمولي عمل بإصرار على الغاء وجودنا ووجود أية حركة سياسية ديموقراطية تقوم في المجتمع، وتقف في معارضته ومعارضة تسلطه واستبداده وفساده أو في استقلالية عنه، وتستعصي على التدجين والاحتواء” وقد نبه إلى أن حزب الاتحاد الاشتراكي ما هو إلا ” جُرم صغير في هذا الوطن العربي الكبير المترامي الأطراف، وفي خضم حركات جماهير الأمة التي تطلعت ومازالت تتطلع للنهوض، للحرية بكل أبعادها السياسية والاجتماعية، للتقدم والوحدة والتجدد الحضاري” فإنه ختم كلمته بالتأكيد على قضيتي الديموقراطية في العمل الوطني، والعمل الجدي المبرمج لتحقيق وبناء الأداة القومية لتحقيق وحدة هذه الامة.”
هذه ملامح من حياة جمال الاتاسي لا تؤرخ لهذه الحياة، وإنما تضيء هذا الدرب الذي سار عليه الناصريون في سوريا، وتعلموا من خلاله وعلى قاعدة منهجية ثابتة وواضحة التجدد والتطوير في الفكر والممارسة، والتجاوب من التحديات التي تواجه الأمة في طريقها لتحقيق أهدافها.