كتب: ماجد كيالي
الشراع 17 كانون الأول 2024
كانت المسحة “الأيديولوجية” لنظام الأسد (الأب والابن) والتي تلخّصت بشعارات “الوحدة والحرية والاشتراكية”، ادعاءات للمزايدة والاستهلاك والتعبئة واكتساب الشرعية، فقط، على نحو ما تفعل مختلف الأنظمة الاستبدادية الشعبوية التي تحاول من خلال ذلك تغطية هيمنتها على المجتمع وتبرير مصادرتها حقوق وحريات مواطنيها واحتكار السياسة، ونهب أو تبديد الموارد.
هذا الوضع الذي ينطوي على مراوغة وتلاعب وتورية انسحب، أيضا، على استخدام نظام الأسد قضية فلسطين التي اعتبرها القضية المركزية، مع ادعاءاته بأنه في محور “المقاومة والممانعة” ورفض التطبيع، واحتضان الفصائل الفلسطينية.
بيد أن سيرة الحقبة الأسدية مع قضية فلسطين، وحركتها الوطنية، كانت معقدة وصعبة ومهينة ومكلفة جدا، منذ البداية. وهو الأمر الذي عكس نفسه في التوتر الدائم بين معظم الفصائل الفلسطينية وخاصة “فتح” وبين النظام السوري، كما بين الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وحافظ الأسد، ووريثه بشار من بعده، بسبب تدخلات النظام السوري، ليس في الخيارات السياسية للحركة الوطنية الفلسطينية، فحسب، وإنما حتى في هيكلية الفصائل الفلسطينية، بدءا من محاولة السيطرة على حركة “فتح”، من خلال بعض ضباط الجيش السوري، الذين أدخلوا إلى جسم الحركة الوليدة، وفرضوا عليها، مقابل السماح بفتح مكاتب ومعسكرات لحركة “فتح”، في ما عرف بحادثة الضابط السوري يوسف عرابي (1966)، المقرب من حافظ الأسد، والتي نجم عنها مقتله، مع عديد من الأشخاص في أحد مكاتب “فتح” في دمشق. وقد نجم عن هذه الحادثة قيام الرجل القوي حينها (حافظ الأسد)، باعتقال ياسر عرفات وكل قيادة وكوادر “فتح” في دمشق لعدة أشهر، لم يخرجوا منها إلا بعد تدخلات من قادة بعض الدول العربية؛ وهي قصة وثقتها انتصار الوزير (أم جهاد) في كتابها: “رفقة عمر” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2022).
وبعد فشل محاولة الأسد أخذ “فتح” حاول ذلك في “منظمة التحرير الفلسطينية” من خلال إنشاء فصيلين، هما الصاعقة (التي قادها زهير محسن وبعده عصام القاضي) والجبهة الشعبيةـ القيادة العامة (أحمد جبريل وبعده طلال ناجي)، كما عبر فرض إجراءات وقيود على الفصائل الأخرى، للتأثير عليها. ومعلوم أنه لم يكتف بذلك إذ أنشأ جهازي مخابرات مختصين في شأن الفصائل، والحركة الوطنية الفلسطينية هما “الضابطة الفدائية” و”فرع فلسطين” (الذي شمل نشاطه كل شيء فيما بعد)، وبات من أقذر فروع المخابرات. وربما يفيد التذكير هنا أن كثيرا من القيادات الفلسطينية دخل المعتقلات السورية، مثل أبو عمار وجورج حبش (تم تحريره بعملية خاصة) وأبو جهاد (خليل الوزير) وعزام الأحمد، وتوفيق الطيراوي وسمير الرفاعي، وأبو طعان (قائد جهاز الكفاح المسلح في لبنان). كما قد يفيد التذكير بأن إنشاء روضة أطفال أو فريق رياضي أو إقامة معرض فني كان يحتاج من الفصائل الاستحصال على إذن من الضابطة الفدائية.
الفكرة من كل ذلك، في المحصلة، أن حافظ الأسد كان يريد الإمساك بالورقة الفلسطينية، لتحويلها إلى ورقة في يده في المساومة مع القوى الدولية والإقليمية، وأيضا لابتزاز الأنظمة العربية الأخرى، إضافة إلى سعيه لتعزيز شرعيته على الصعيد الداخلي. الأمر الذي دفع الزعيم الراحل أبو عمار إلى إشهار شعار القرار الفلسطيني المستقل، في وجه النظام الأسدي تحديدا، وهو الأمر ذاته الذي دفعه، بعد الخروج من بيروت (1982)، إلى الذهاب إلى تونس، بدلا من دمشق؛ مع نقل المقاتلين إلى بلدان عربية أخرى مثل الجزائر واليمن.
وفي غضون ذلك، قد يفيد التذكير بأن الأسد الأب هو المسؤول عن هزيمة يونيو/حزيران 1967 وأنه بدل تحمله أو تحميله، المسؤولية عن الهزيمة، كوزير للدفاع في حينه، قفز في انقلاب عسكري إلى السلطة، في مناخات أحداث سبتمبر/أيلول 1970 في الأردن، حيث تبوأ منصب الرئيس، محولا النظام الجمهوري إلى نظام وراثي.
وفيما بعد حصل التصادم الثاني مع نظام الأسد نتيجة إدخاله الجيش السوري إلى لبنان (1976)، ومواجهته للحركة الوطنية اللبنانية والفلسطينية، لمناصرة حزب “الكتائب”، وقتذاك، ما نجم عنه مجزرة تل الزعتر. بعد ذلك في الثمانينات دفع الأسد حركة “أمل” الموالية له، لمهاجمة مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة في بيروت، التي تعرضت لحصار وحشي وتدمير مبرمج في الأعوام 1985-1988، بدعوى إنهاء نفوذ “فتح” وزعيمها ياسر عرفات، ما نجم عنه تشريد سكان تلك المخيمات، وقتل المئات منهم، عدا عن الأهوال التي اختبروها في تلك الحرب، من ميليشيات “أمل” التي كانت تتولى تنفيذ السياسة السورية في لبنان، قبل صعود “حزب الله”.
في مرة أخرى، وقف النظام وراء صناعة حركة “فتح الإسلام”، التي أقامت إمارة لها في مخيم نهر البارد (طرابلس/لبنان)، والذي جرى تدميره وتشريد سكانه (2007)، في عهد الأسد الابن، فبعد التدمير اختفى زعيم هذه الحركة شاكر العبسي، الذي كان قد أخرج، قبل ذلك، من سجون النظام.
وفي الإطار ذاته لا يسعنا إلا أن نعتبر أن تشريد اللاجئين الفلسطينيين في العراق، وطردهم منه، إلى الحدود الأردنية والسورية، على يد الميليشيات الطائفية العراقية الموالية لإيران، حليفة النظام السوري، يصب في الاتجاه ذاته. ولمزيد من إهانة الفلسطينيين فقد جرى مؤخرا ضم تلك الميليشيات إلى محور المقاومة والممانعة!
وفي السياق ذاته، وفي محاولة صبيانية من الأسد الابن، في مؤتمر القمة ببيروت (2002)، جرى الحؤول دون إلقاء ياسر عرفات (المحاصر وقتها في رام الله إبان الانتفاضة الثانية) لكلمته في ذلك المؤتمر.
لكن ذروة ما فعله الأسد الابن في حق الفلسطينيين وحركتهم الوطنية، تمثل باستهداف معظم مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، بالتدمير والتشريد والحصار، وأهمها ما جرى في مخيم اليرموك، أكبر تلك المخيمات، الذي شرد معظم سكانه، بعد حادثة قصفه (17/12/2012)، إذ أخضع لحصار مشدد، مع استخدام بعض الفصائل الفلسطينية للأسف، منذ أواخر عام 2012، مع تحويله إلى حقل رماية لمدفعية النظام وطائراته، ولسلاح الجو الروسي أيضا، علما أن المخيم يعيش وسط منطقة ساقطة عسكريا؛ وهي مأساة أضيفت إلى مآسي مخيمات لبنان تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة ونهر البارد في لبنان.
المشكلة، أن ثمة فلسطينيين لا يعرفون العالم العربي تماما، ولا طبيعة النظام السوري، وأمثاله، في الضفة وغزة ومناطق الـ48، وتنطلي عليهم تلاعباته واستخداماته لقضية فلسطين وشعارات المقاومة والممانعة التي ليس لها أية مصداقية على أرض الواقع، والتي تستخدم فقط للهيمنة على شعبه. وثمة فلسطينيون، متأدلجون، يظنون أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية، كأن شعب سوريا أو أي شعب آخر ليس له قضية، أو كأن الحرية والكرامة والعدالة تخص شعبا معينا دون غيره، وكأن قضية فلسطين تغطي على حقيقة سجن نظام الأسد الأبدي للشعب السوري، أو تبررها، وكأن نظاما يقوم على الاستبداد والفساد، يمكن أن يواجه إسرائيل. أيضا ثمة فصائل فلسطينية استمرأت العيش على الشعارات، وعلى ماضيها، أكثر من حاضرها وهي لعبت الدور الكبير في تمكين نظام الأسد والنظام الإيراني، من ركوب القضية الفلسطينية، حفاظا على مكانتها وعلى تمويلها، رغم كل ما فعله هذان النظامان بالشعب الفلسطيني، والتعامل مع قضيته العادلة والمشروعة بطريقة استخدامية.
وفي الحقيقة، فإن خلاص السوريين، وكل شعوب المنطقة، من نظام الأبد الأسدي، هو خلاص من واحد من أبشع الأنظمة التي عرفها العالم، وإسرائيل الاستعمارية والعنصرية والمصطنعة تقوى بهكذا أنظمة. وبالتأكيد فإن قيم الحرية والعدالة والكرامة لا تتجزأ، للفلسطينيين ولغيرهم.
(الشراع)