د. مخلص الصيادي
30 / 11 / 2024
في مشهد لم يكن يخطر على بال أحد، وبسرعة مفاجئة، سقط نظام الأسد في مدينة حلب كلها، وتداعى ذلك البناء من العنف والجبروت والإرهاب أمام تدفق المقاتلين من المعارضة الذين وصلوا المدينة بعد أن أتموا السيطرة على عشرات القرى والمواقع لقوات الأسد في محافظة إدلب.
ما تم في حلب كان مذهلا بكل الاعتبارات، الخشية الأولية من قتال وتدمير ومعارك في المدينة تبددت سريعا بعد أن انهارت قوى النظام وبدأت بالهرب الجماعي من المعسكرات تاركة وراءها العتاد والذخيرة، وبعد أن اقتحم ثوار المعارضة مراكز الأمن والمخابرات المليئة بأسرار القتل والتعذيب الذي شهدته هذه المراكز على مدى أربعة عشر عاما، وانقشعت خلال ساعات سنوات من الرهبة والخوف والذلة فرضها النظام على مدينة حلب، وعلى من تبقى من مواطني حلب. فعادت البهجة تسطع على الوجوه، والأمل بحياة كريمة حرة يشرق على محيا الناس كلهم.
وقد أحسن الثوار في بث رسائل وبيانات الاطمئنان على الأهالي عبر مكبرات الصوت، وعبر المساجد والمآذن، وبعد ليلة أولى كان الحذر سيد الموقف بين السكان، خرج الناس إلى الشوارع مطمئنين، مستبشرين. أما أولئك الذين أخرجوا من سجون الأسد، فإنهم في حالة من السعادة لا يمكن وصفها.
ويبدو أن أهم ما يًطلب من الثوار اليوم يتمثل في تأمين حلب، فهذه المدينة هي قلعة سوريا، وحصنها، وهي العاصمة الصناعية، والمدينة الأكبر التي تنافس دمشق في رسم معالم سوريا.
وتأمين المدينة حاجة ملحة حتى يشعر السوريون فيها، وفي مختلف أنحاء سوريا بالاطمئنان، وبالقدرة على استشفاف المستقبل.
والتأمين يكون في إغلاق منافذ النظام للتأثير في هذا الإنجاز، ومحاولة احباطه، كما أن التأمين يتصل بالسلوك والأعمال التي يجب إنجازها في المدينة وريفها حتى لا يخيب أمل الناس فيما تحقق.
بكل الأحوال فإن إخراج النظام وزبانيته من حلب عمل عظيم لا يمكن التقليل منه، بل إنه يمثل في ذاته إنجازا مكتمل الأركان. فحلب وقد تحررت من النظام أفضل بما لا يقاس بحلب تحت ظل النظام، لكن الناس لا يريدون مثل هذا المستوى من القياس، إنهم يريدون حلب نموذجا لسوريا المستقبل، مدينة الكرامة والسلام، والمواطنة، والعزة، يريدونها مدينة قادرة على أن تجذب المدن والحواضر السورية الأخرى إليها، وأن تدفعهم للتحرك ضد نظام الأسد، وضد طغمته الحاكمة، يريدونها نموذجا في الحياة والحكم لمستقبل سوريا التي نرقب.
هذا النوع من التأمين يحتاج إلى اشراك فعلي للمواطنين في حلب بإدارة مدينتهم، ويحتاج إلى جعل مؤسسات الدولة المختلفة: الإدارية والبلدية والصحية والأمنية والتعليمية والمالية والغذائية تحت السيطرة المباشرة للناس وفي خدمتهم.
ويحتاج إلى أن يكون ذلك كله مقيد بقوانيين واضحة صارمة، يقف الجميع، جميع المواطنين أمامها على قدم المساواة لا يتميز أمامها أحد عن أحد بسبب الدين، أو الطائفة، أو العرق، أو التابعية، أو الموقف السياسي، وتكون بطبيعتها قادرة على التصدي للفساد والمحسوبية.
ويحتاج داخل مدينة حلب مع ذلك كله إلى تحصينه من خلايا التخريب التابعة للنظام، إن وجدت، ومن خلايا داعش التي لا يجوز استبعاد وجودها ضمن صفوف الفصائل الإسلامية المختلفة، وقد عودتنا داعش على مثل هذا التغلغل، وعلى تنفيذ عمليات لا يستفيد منها إلا الأعداء وهم هنا النظام وحلفائه، وكذلك من خلايا الانفصاليين الأكراد من جماعة pyd، pkk، وهذه خلايا تنسق بقوة مع النظام، ولعل قيام النظام بتسليم مطار حلب لهذا التنظيم قبل أن تسيطر عليه المعارضة يقدم أحدث دليل على التخادم المستمر بين هؤلاء والنظام، والذي سبق قبل أعوام أن عايناه في كل المواقع التي اضطر نظام الأسد إلى التخلي عنها، من القامشلي وحتى تل رفعت، وهنا تبرز الأهمية القصوى في التفريق ما بين الأكراد ـ وهم مواطنون سوريون أصلاء بكل ما في الكلمة من معنى، المس بهم، والإفتات والتجاوز عليهم، فيه طعن للبنية الوطنية للمجتمع السوري ـ وبين الانفصاليين الأكراد الممثلين ب”حزب العمال الكردستاني التركي وفرعه السوري، الذين يمثلون خطرا حقيقيا على وحدة سوريا الجغرافية والسياسية والمجتمعية.
هذا بعض ما يجب في تأمين الداخل، داخل مدينة حلب، وداخل كل البلدان والمدن التي تم تحريرها من نظام الأسد، لتصبح نموذجا يحتذى.
أما ما يجب تأمينه خارجيا فهو وجوب الاستمرار في التقدم على طريق الرقة، وصولا إلى المراكز الاستراتيجية المتصلة بمياه الشرب الخاصة بحلب، وبمحطات التغذية الكهربائية، ووصولا الى سد الفرات ومدينة الرقة.
وكذلك فإن مما يوفر الأمان لحلب استمرار تقدم قوات المعارضة باتجاه حماة وريفها مما يتيح لهذه المدينة أن تتحرك ملتحقة بقوى الثورة، ويبدو أن قوات النظام وأجهزته بدأت الفرار من حماة.
ونحن ننتظر انضمام مناطق ومحافظات جديدة لمسيرة الثوار، وقد لا يكون بعيدا أن تتسابق درعا والجنوب السوري لاتخاذ مثل هذه الخطوة بشكل حاسم ونهائي.
خارطة تقدم الثوار على الأرض تتطور ساعة بعد أخرى، وهي في اتجاه تحقيق مزيد من المكاسب. إذا بقيت الظروف التي سمحت بهذا التطور تسير في الاتجاه نفسه.
بعد هذا العرض يكون من المناسب أن يطرح السؤال حول التغييرات التي حدث في المنطقة حتى أمكن تغيير المعادلة العسكرية على الأرض. وسمحت بانطلاق هذا الهجوم الحاسم لقوات المعارضة.
بالتأكيد نحن لسنا أمام تحرك مفاجئ ولو بدا كذلك للوهلة الأولى.
وكذلك نحن لسنا أمام معركة هائلة بين قوتين أسفرت عن هزيمة إحداهما وانتصار الأخرى، فالذي حدث على جبهة النظام كان انهيار سريعا وشاملا، وكانت المعارك محدودة، وجزئية قياسا لمدى التقدم الذي تم.
ما الذي حدث؟
السؤال مهم جدا، بل مفصلي، لأنه يتعلق بفهم ما تم، كما يتعلق باستمرار نجاح ما تم، وبالإمكانيات المتوفرة لتطويره.
ما يمكن قراءته أن الغطاء الدولي والإقليمي رفع عن نظام بشار الأسد، وقد ساهمت في رفع هذا الغطاء أربعة أحداث أو تطورات مهمة:
الحدث الأول: ما أصاب إيران الداعم الرئيس لبشار الأسد على أصداء الصراع بين حزب الله والكيان الصهيوني، والضربات التي وجهها الإسرائيليون للنظام الإيراني في سوريا ولبنان.
ولم يكن للضربات الاسرائيلية أن تؤتي أكلها لولا الجرائم والخطايا التي ارتكبتها إيران وحزب الله في فلسطين وسوريا، لقد انفصل الشعب السوري عن إيران وعن حزب الله بعد أن أظهرت ايران موقفا طائفيا عنصريا بوقوفها إلى جانب بشار الأسد وبمشاركتها في الجرائم وعمليات القتل التي نفذها النظام ضد الشعب السوري، واتخذت من حزب الله والميلشيات الطائفية العراقية وغير العراقية أداة لارتكاب أبشع الجرائم في سوريا بدعوى حماية النظام.
ثم إن إيران بعد أن دخل المجاهدون الفلسطينيون معركتهم ” طوفان الأقصى” تخلت عن شعارها ” وحدة الساحات” بدعوى التحول الى شعار ” ساحات المساندة”، وتركت غزة وأهلها تواجه قوات العدو الصهيوني كل الفترة الماضية، ثم حين تحول هذا العدو للاستفراد بحزب الله في لبنان تركته يواجه الآلة العسكرية الإسرائيلية لوحده، مستهدفة الحفاظ على نفسها ونظريتها في ولاية الفقيه، وبرنامجها النووي.
الحدث الثاني: الاستهتار الذي أبداه بشار الأسد ونظامه للعروض التي قدمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بهدف الاتفاق على مستقبل سوريا عبر لقاء قمة تحدد خلاله الطريق لتحقيق ذلك بأقل الخسائر. وقد رفض الأسد كل هذه العروض، التي يبدو أن جانبا منها كان موجها إلى موسكو لإقناع الرئيس فلاديمير بوتين أن الأسد ليس أهلا لأي مقاربة سياسية جدية لإخراج سوريا من أزمتها.
الحدث الثالث: أن الرئيس بوتين قد أرهقه هذا الصلف الذي يبديه الأسد تجاه نصائحه بضرورة التجاوب مع عروض الإصلاح السياسي، وتفعيل القرار الدولي رقم 2254، وما يتصل به، الخاص بحل المسألة السورية، والذي ما زال يعطله منذ العام 2015، وليس غريبا أن يكون الرئيس أردوغان قد طمأن الرئيس الروسي على مصالح روسيا في سوريا المستقبلية.
الحدث الرابع: وجود قيادة أمريكية جديدة لا ترى فائدة من استمرار وجود القوات الأمريكية في سوريا، وتنظر إلى العلاقة الأمريكية التركية بمنظور أهم وأعلى مما كانت عليه إدارة الرئيس بايدن، وبالتالي فإنها ليست على استعداد للاختلاف مع أردوغان بشأن الانفصالية الكردية الممثلة بحزب العمال الكردستاني وفرعه السوري، وما يدعى بقسد ومسد.
هذه الأحداث أو التطورات الأربعة هي التي أفسحت المجال لهذا الحدث المزلزل للملف السوري، والانتباه لهذه التطورات مهم لأنه يكشف لنا دور ومكانة تركيا فيما يجري، وفيما يمكن أن يجري.
وكل الدلائل تشير إلى أن هذا الهجوم الذي تم التحضير له على مدى عدة أشهر انطلق في التوقيت المناسب. وأن المدى الذي يمكن أن يقف عنده غير محدد، (حماة، الرقة، الحسكة…)، فقد يقف عند نقطة معينة وقد يمتد إلى أبعد مما يتوقع، وأن هذا يتوقف على مدى تجاوب المحافظات والمدن الأخرى مع هذه التطورات، وقبل ذلك يتوقف على ثبات الموقف التركي في تأييد هذا التحرك ومده باحتياجات الاستمرار، كما يتوقف على حسن تصرف قيادة هذه المعارضة، حسن تصرف الثوار الذين هم وقود هذه العمليات وهم الذين يخوضونها بحزم وعزم، فلا تقع بأخطاء وخطايا قد تقلب المعادلة أو تحرج قوى الدعم.
سوريا تمر الآن في أكثر الساعات حسما، والأنظار تتركز على تطورات الوضع الميداني، وعلى الموقف التركي، وكذلك أيضا على الموقف الروسي والأمريكي، ومدى التزامهما بترك الأمر للجانب التركي في تقدير مسار العمليات، وبالطبع فإن أي تغيير يجري في دمشق، وفي مدن الساحل من شأنه أن يفتح احتمالات كثيرة قد تعجل في دخول سورية مرحلة جديدة لا يكون للأسد وأسرته، ونظامه، فيها وجود.