سليمان أبو ارشيد – عرب 48
تحرير: محمود مجادلة
30/03/2024
يعتبر كتاب د. نبيه بشير، يوم الأرض: ما بين القوميّ والمدنيّ – سيرورة وتحوّل، الذي صدر عن مركز مدى الكرمل عام 2006، واحدا من الدراسات القليلة التي تناولت يوم الأرض كمحطة تاريخية هامة في مسيرة جماهيرنا في الداخل وشعبنا الفلسطيني عموما، وهو مرجع مهم يؤرخ لحدث مفصلي ويتناول بالبحث والتحليل حقبة مهمة من تاريخنا.
يقول بشير في مقدمة الكتاب إن أهمية يوم الأرض تتجلى في كونه انعكاسا لإرادة جماعية للعرب في البلاد جاء ابتغاء التصدي لمحاولة دولة إسرائيل سلخهم عن أرضهم، من خلال ابتلاع حيزهم الجغرافي والقضاء على بعده المكاني كمجموعة سكانية وقومية وكأفراد، وإن ذلك يأتي في ظل إقصائهم وإبعادهم أيضا عن حيز المدينة الإسرائيلية، من جهة، وإقصائهم من تعريف الدولة من جهة أخرى.
ويشير إلى أن السكان العرب (البقية الفلسطينية الباقية في البلاد بعد النكبة) أدركوا أن خطوات دولة إسرائيل بمؤسساتها وأذرعها المختلفة، التي ترمي إلى مصادرة أراضيهم وحيزهم الجغرافي، تقوم على أسس قومية، أي لوكنهم عربا، وأنها ترفض بالمقابل اندماجهم بالمجتمع الإسرائيلي وتعمل على إقصائهم وتهميشهم في قراهم ومدنهم وبلداتهم وتضييق حيزهم المكاني.
وهو يرى أن هذه الدراسة تأتي لتحلل وتوضح ما أثمر عنه هذا الصراع بوصفه نافذة تطل على تفاصيل أساسية يمكن لها أن تكشف لنا عن سمات مركزية على صعيد الثقافة السياسية والعلاقة مع دولة إسرائيل وتطلعات هذه الفئة الفلسطينية السياسية، لافتا إلى أن منتصف السبعينات تحولت إلى حلبة صراع مصيرية بين هذه الفئة الفلسطينية وبين دولة إسرائيل وأنها ستثمر قاعدة مؤسسة للعديد من السمات الجماعية والفردية للفلسطينيين وعلاقتها بالدولة.
وعن نتيجة هذا الصراع وما أثمره، يقول إن الدراسة تميل إلى تبني نتيجة مفادها أن السكان العرب الذين خرجوا من يوم الأرض كأقلية قومية تحمل سمات مركزية للتعريف بالـ”مجتمع”، لم يحسموا وجهتهم على صعيد الخيار بين جملة مطالب القومية الطابع أو المدنية الطابع، وقد اتسمت السنوات القليلة اللاحقة بمحاولاتها بين الدمج وتخفيف حدة التوتر القائم بينهما.
وهو يقصد هنا الحفاظ على نقطة التوازن بين الوطني والمدني التي ميزت سلوك فلسطينيي الداخل السياسي، والتي جعلت من أحداث يوم الأرض وأكتوبر 2000 وهبة الكرامة 2021، مجرد هبات وطنية لم تؤدِ إلى انجراف شامل، وبتعبير آخر نستطيع القول إنه مثلما خافت القيادة مما حدث في يوم الأرض فتراجعت خطوة أو ربما خطوات إلى الخلف، كما اعتقد البعض، فإن ذلك ما حدث أيضا في المحطات اللاحقة سالفة الذكر (أكتوبر 2000 وهبة الكرامة في أيار 2021) وهو يحدث اليوم في السلوك المنضبط إزاء ما يحدث في غزة.
لإلقاء الضوء على هذا الموضوع، وبالتزامن مع إحياء الذكرى الـ48 ليوم الأرض التي تحل في ظل الحرب الدموية على غزة، أجرينا هذا الحوار مع د. نبيه بشير، ابن مدينة سخنين والمحاضر في جامعة بيرزيت.
“عرب 48″: تعاملت في كتابك الذي صدر بعد 30 عاما على الحدث، مع يوم الأرض كمحطة تاريخية في مسيرة جماهير الداخل الفلسطيني، وما تركه من أثر حاسم في بلورة ما كان قد اصطلح على تسميتها بـ”البقية الباقية” كمجموعة قومية داخل دولة إسرائيل، بما تفرضه حدود المواطنة وأفق الانتماء الوطني الفلسطيني…
بشير: الحقيقة أن كل شيء وأي شيء يتقزم أمام ما يحدث في غزة، ولكن إذا فتشنا عن الخيط المشترك بين الحدثين، نجده في كون هذا الشعب بأجزائه وتجمعاته المختلفة يتعرض منذ 75 سنة وأكثر لحرب إبادة عبر ممارسات وأشكال مختلفة، منها العنيفة كما حصل في نكبة 48 وما أسموه هم النكبة الثانية في غزة، ومنها الملاحقة والقمع والتهميش ومصادرة الأرض وموارد الرزق والثقافة وتدمير مقومات الوجود الجماعي، وغيرها من الممارسات المنهجية المتواصلة منذ عقود.
البقية الباقية في الـ48 التي صادروا منها الوطن وتركوها على هامش الدولة الحديثة التي تم إنشاؤها على أنقاض شعبنا، فرضوا عليها الحكم العسكري زهاء الـ20 عاما ليقطعوا سبل التواصل ليس بينها وبين محيطها العربي الواسع بعد إغلاق الحدود مع الدول العربية المجاورة، بل حددوا تجولها داخل وطنها وبين القرية والأخرى بكل ما يعنيه ذلك من تضييق ليس فقط على الحريات بل على مصادر الرزق والتعليم والثقافة والحياة الحرة.
ولم تكتف الدولة (إسرائيل) بمصارة أراضي اللاجئين الفلسطينيين، التي تشكل الأغلبية الساحقة من أرض فلسطين، بل لاحقت من تبقى في وطنه على أرضه من خلال حملات مصادرة واسعة استمرت منذ عام 48 وحتى يوم الأرض 76 وتواصلت بعد يوم الأرض أيضا، وذلك بهدف تجريد الفلسطينيين من أرضهم وتحويلهم إلى أيدي عاملة رخيصة في السوق الاقتصادي الإسرائيلي.
عشية يوم الأرض كانت مخططات مصادرة لعشرات آلاف الدونمات في منطقة سخنين وعرابة ودير حنا أساسا وفي منطقة الناصرة، كفركنا وعين ماهل، ولكن برأيي أن ما فجر يوم الأرض ليست المصادرة المجردة، فالفلسطيني لم يتعامل مع الأرض كمصدر رزق أو كأملاك بل تعامل معها كوطن، وبعد مصادرة الوطن الكبير عام 48 تراجع من تبقى في فلسطين إلى حدود وطنه الصغير المتمثل بقريته أو مدينته وحدود فضاء أرضها الممتدة وزيتونها العامر.
“انفجار” يوم الأرض حدث لأن الفلسطيني شعر أنهم يصادرون الوطن مرة ثانية، أو هم يصادرون ما تبقى له من وطن، وهم يقتربون إلى اقتلاعه من جذوره، وهو الذي شهد تهجير 48 ولا يستبعد أن يلقى نفس المصير.
“عرب 48”: هي قضية وطن ونتاج تراكم التعسف والظلم والحرمان والقهر على مدى 20 عاما، وحالة تمرد على الواقع السياسي وهبة قلبت الطاولة ووضعت النقاط على الحروف، وبلورت – كما أشرت في كتابك – “البقية الباقية” كمجموعة قومية ذات انتماء وطني فلسطيني أصيل حتى لو حملت الهوية الإسرائيلية…
بشير: ليس من المفهوم ضمنا أن تعيش في بلاد هي بلادك وقيادتها تعاملك على أنك غريب ولاجئ وغازي، هذا شعور قاتل خاصة وأنك تعرف أن هذا الوطن كان قبل بضع سنوات وطنك، هذه الجبال المحيطة بسخنين والتي أقاموا عليها المستوطنات كانت بمثابة خلفية البيت وملاعب الطفولة.
لذلك هي قضية وطن ونحن نعرف أن غالبية الناس التي خرجت لتتظاهر وتواجه لم يكن لديها أرض، كان هناك وعي أن الصراع يدور على البيت والحاكورة والوجود، وهذا الوجود تبلورت معالمه الاجتماعية والسياسية بعد معركة يوم الأرض التي وضعت جماهير الداخل الفلسطيني على خارطة السياسة الإسرائيلية والفلسطينية أيضا، بعد أن انتزعت الاعتراف بحضورها في الساحتين وفجرت النقاش حول مكانتها.
“عرب 48” قلت أن الهبة كانت فطرية وعفوية ولم تأت بقرار، علما بأن الإضراب أعلن بقرار من لجنة الدفاع عن الأراضي التي شكل الحزب الشيوعي عمودها الفقري؟
بشير: أولا، الحزب الشيوعي عندما بدأ يتحدث عن الإضراب لم يكن يقصد ذلك فعليا، بل قصد التلويح والتهديد بالإضراب، وكل قيادات الحزب ما عدا توفيق زياد حاولت إجهاضه لولا وقوف توفيق زياد وتهديده، كما أن الحزب الشيوعي فقد السيطرة على الشارع حتى قبل اليوم الأول، ولم يستطع أن يوقف اندفاع الناس التي خرجت للدفاع عن بيتها ووجودها.
في عرابة هناك قصص طريفة حول امرأة خرجت تقاتل الجنود بـ”الكريك”، وعندما سألوها إذا كانت خائفة على أولادها، قالت: كل أولاد عرابة أولادي؛ هنا يكمن الفرق بين الخطاب السياسي الحزبي وبين مشاعر الناس وانفعالات الناس وأهداف الناس.
هذه المشاعر وهذا الاندفاع العاطفي الوطني هو ما صنع ملحمة يوم الأرض وسطر فصولها البطولية التي روت الأرض بدماء الشهداء، وأعادت لاحقا أرض “المل” ومنعت توسيع المصادرة، مثلما أعادت لهذه الجماهير هويتها العربية الفلسطينية الأصيلة التي أرادوا مصادرتها أيضا.
قياداتنا خافت من حجم يوم الأرض وأصدائه في العالم ومن تدخل منظمة التحرير الفلسطينية وحاولت حجب دورها، وكانت تتتوجس من أن تفلت الأمور من يدها، لأنها أرادت إبقاء الحدث في النطاق المحلي وعدم تحوله إلى حدث وطني ببعد فلسطيني ودولي.
وقد حاول الحزب الشيوعي إعادة الخطاب إلى “قمقم” المساواة والحقوق المدنية، لكن الأحداث كانت قد تعدت ذلك وفرضت يوم الأرض على الأجندة الفلسطينية والدولية والإسرائيلية، أيضا، كحدث وطني من الدرجة الأولى، دخل التأريخ الفلسطيني الحديث واحتل مكانه في الرزنامة الفلسطينية الوطنية.
“عرب 48”: نتائج يوم الأرض وتداعياته السياسية اللاحقة كانت بمثابة انقلاب على نهج الحزب الشيوعي، فرغم تشكيل الجبهات كمحاولة لاحتواء القوى الجديدة، برزت حركة أبناء البلد والحركة التقدمية لاحقا، ثم الإسلامية بجناحيها في طيف سياسي أنهى عهد هيمنة الحزب التي دامت لعقود؟
بشير: هذه التداعيات ضربت حتى الحزب الشيوعي ذاته وأثرت على خطابه ولو شكليا، وساهمت ببروز تيار وطني قاده توفيق زياد وصليبا خميس وغيرهم، كما أنها تسببت بشرخ بين الحزب والشبيبة والدائرة الطلابية، أدت الى انشقاق قسم كبير منهم لاحقا.
كما أنها أفرزت قوى سياسية جديدة، كما ذكرت، وساهمت في مأسسة الخطاب السياسي، حيث احتلت لجنة الدفاع عن الأراضي كجسم قيادي دورا رياديا لسنوات طويلة، وجرى مأسسة اللجنة القطرية لرؤساء المجالس المحلية التي انبثقت عنها لاحقا لجنة المتابعة، إضافة إلى نشوء اللجان الطلابية والاتحادات والجمعيات وغيرها.
“عرب 48”: لكن بالرغم من ذلك فقد أخفقنا في قضية الأرض تحديدا؟
بشير: السلطة لجأت بعد يوم الأرض إلى أساليب التفافية غير مباشرة، مثل إقامة المناطر ومد سيطرة المجالس الإقليمية على احتياطي الأراضي التابعة للقرى والمدن العربية، حيث بتنا نرى أن حدود مجلس “مسغاف” الإقليمي تصل إلى بيوتنا وأنك لا تستطيع التصرف بأرضك الواقعة تحت نفوذه دون موافقته.
بهذه الطريقة، وبطرق أخرى مثل التحريش والمحميات الطبيعية، جرى خنق القرى والمدن العربية ومحاصرة توسعها العمراني، وبالتالي تحويلها إلى غيتوات مزدحمة بعد أن جرى تحويل أهلها إلى عمالة رخيصة في المدن اليهودية، وهو ما يخلق تربة خصبة للفقر والجريمة.