حسن نافعة – العربي الجديد
هلّت علينا قبل أيام الذكرى السنوية لمناسبتَين يفصل بينهما نصف قرن: حرب على الكيان الصهيوني شنّها الجيشان المصري والسوري بالتزامن في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وعملية مقاومة مسلّحة شنّتها حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023 عبر الحدود التي تفصل بين قطاع غزّة والأراضي المحتلّة عام 1948. هذان الحدثان لحظة وقوعهما مفاجأتان من العيار الثقيل، لكن تأثيراتهما اللاحقة في مجمل الأوضاع المحلّية والإقليمية والدولية القائمة أدّت إلى تغييرات عميقة على صعيد المنطقة والعالم.
قبل ثلاث سنوات من اندلاع حرب 1973، رحل الرئيس جمال عبد الناصر، وحلت في رئاسة الدولة المصرية شخصيةٌ لم يأخذها أحدٌ على محمل الجدّ حين شرعت في مهامّها، أنور السادات، الذي تمكّن من أخذ المنطقة إلى وجهةٍ معاكسةٍ تماماً لوجهة سلفه. ولأنّ حرب الاستنزاف التي أشعلها عبد الناصر كانت قد توقّفت مؤقّتاً بسبب قبوله مبادرة روجرز، قبل رحيله بأشهر، فقد أصبح السادات في وضع يسمح له بهامش لا بأس به من الحركة، من دون أن يُتَّهم بالخروج على الخطّ الذي رسمه الزعيم الراحل. وعندما تبيّن له أنّه غير قادر لا على التوصّل إلى تسوية سلمية للصراع، رغم ما أظهره من استعداد لتقديم تنازلات جوهرية، ولا على استئناف حرب الاستنزاف، رغم تحفّز الجيش المصري، الذي أعيد بناؤه على أسس جديدة عقب هزيمة 1967 لخوض معركة التحرير، فقد وجد السادات نفسه مضطراً لاتخاذ قرار الحرب بالتنسيق مع الرئيس السوري حافظ الأسد. ولأنّ وقع المفاجأة كان كبيراً عليه، بسبب نجاح خطّة الخداع التي أُعدّت لتضليله، كاد الكيان الصهيوني أن يُمنى بهزيمةٍ ساحقةٍ لولا مسارعة الولايات المتّحدة لإنقاذه، ومدّه بالوسائل كلّها، التي أدّت إلى ترجيح كفّته إبّان الأيام الأخيرة للحرب. ومع ذلك، كان ما حقّقته الجيوش العربية من انتصار في المرحلة الأولى كافياً، ليس لغسل عار هزيمة 1967 فحسب، وإنّما لتمكين العالم العربي من التمتّع بمكانة دولية مختلفة تماماً عن تلك التي كان عليها.
لم يكن الانتصار في حرب 1973 من صنع الجيشَين السوري والمصري وحدهما، فقد ساهمت فيه جيوشٌ عربيةٌ أخرى، شاركت في القتال بوحداتٍ عسكريةٍ ولو رمزية أحياناً، ودول عربية قرّرت استخدام النفط سلاحاً في المعركة، وفرضتْ حظراً فعلياً على تصديره إلى الدول المنحازة لإسرائيل. ولأنّ الشعوب العربية التفَّت حول قياداتها المنخرطة في المعركة، عاش العالم العربي لحظةً تاريخيةً فريدةً، بدا فيها موحَّداً على نحو لم يسبق له مثيل. لذا يمكن القول إنّه انتصار من صنع النظام العربي بشقّيه الرسمي والشعبي، ما يُفسِّر شيوع تقديرات تنبَّأت في ذلك الوقت بقرب تحوّل العالم العربي قوّةً عالمية مؤثّرة في المسرح الدولي، بل قادرةً على قيادة العالم الثالث. لم تصدُق هذه التنبّؤات للأسف، بسبب ما كشفته مراحلٌ لاحقةٌ ممّا كان يدور في عقل السادات في ذلك الوقت. ومع ذلك، كان مُجرَّد التعبير عنها كاشفاً حجم ما أتيح للعالم العربي من فرصة فشل في انتهازها. إذ سرعان ما تبيّن أنّ الرئيس السادات أراد لحرب 1973 أن تكون “حرب تحريك لا تحرير”، وأن تكون في الوقت نفسه “آخر الحروب”، ما يُفسِّر زيارته القدس لاحقاً، ثمّ إبرام معاهدة سلام مصرية إسرائيلية في مارس/ آذار 1979، ما أدّى إلى إخراج مصر نهائياً من المعادلة العسكرية للصراع مع المشروع الصهيوني، وتسبّب، بشكل مباشر أو غير مباشر، في سلسلة كوارثَ ألمّت بالنظام العربي، وعجَّلت بتفككه وانهياره، بدءاً بالحرب العراقية الإيرانية، التي استمرت نحو ثماني سنوات، وانتهاء بتوقيع عدة دول عربية اتفاقات تطبيع مع إسرائيل، من دون اشتراط قيام دولة فلسطينية أولاً، ما مهّد الطريقَ في نهاية المطاف أمام ما يجري حولنا اليوم.
لمعظم الأنظمة الحاكمة في العالم العربي خلافاتٍ حادّةً مع تيّار الإسلام السياسي بصفة عامّة، ومع فصائله الشيعية بصفة خاصّة
قبل أيام معدودة من انفجار “طوفان الأقصى”، وتحديداً في 22 سبتمبر/ أيلول 2023، ألقى نتنياهو خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتّحدة، بينما كان ممسكاً بخريطة تُظهِر الضفّة الغربية وقطاع غزّة ضمن الحدود السيادية للكيان الصهيوني، ما أكّد بوضوح قاطعٍ أنّ حكومته الجديدة، الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل، التي يتحكّم فيها تيّار ديني مُفرِط في عنصريته، لديها خطط عملية لتصفية القضية الفلسطينية نهائياً، وقطع الطريق على قيام دولة فلسطينية مستقلّة في المستقبل. ولأنّ تطبيع العلاقات مع العالم العربي كان يسير رغم ذلك على قدم وساق، خصوصاً في ظلّ اتفاقات إبراهيمية أُبرمت تحت رعاية أميركية منفردة، وكانت مساعي إدارة بايدن الرامية لتوسيع نطاقها وضمّ السعودية إلى ركبها تبدو على وشك النجاح، فقد تصوّر نتنياهو أنّ الطريق بات ممهَّداً أمامه، ليس لتصفية القضية الفلسطينية فحسب، وإنما أيضاً لإحكام هيمنته على منطقة الشرق الأوسط برمّتها. وفي سياقٍ كهذا، لم يكن أمام فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية المعنية بمقاومة الاحتلال والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني سوى البحث عن وسائلَ مبتكرةٍ لإعادة وضع القضية الفلسطينية في جدول أعمال النظامين العربي والدولي، فكان “طوفان الأقصى”.
لا أظن أنّ أحداً من القادة الفلسطينيين، مهما شطح به الخيال، تصوَّر أنّ بمقدور حركة مقاومة محدودة الإمكانات، مثل حركة حماس، إلحاق هزيمة عسكرية بآلة الحرب الإسرائيلية الجهنمية، خصوصاً إذا كان عليها أن تنطلق من إقليم محاصر بحراً وبرّاً وجوّاً. لذا يفترض منطقياً أن يكون أقصى ما استهدفه قادة هذه الحركة، حين كانوا يخطّطون للعملية الجريئة التي أطلقوا عليها لاحقاً اسم “طوفان الأقصى”، هو أسر ما يكفي من الجنود والمستوطنين الإسرائيليين لمبادلتهم بأكبر عدد ممكن من الأسرى الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية. ولأنّ النجاح المذهل الذي حقّقته خطّة الخداع، التي رُسِمت لتضليل العدو، فاق أكثر أحلام قادة الحركة جنوحاً، فقد مكّنها هذا النجاح، ليس من اجتياح السياج الحدودي بأعداد كبيرة فحسب، وإنّما أيضاً من قتل ما يقرب من 1200 جندي ومستوطن، وأسر ما يقرب من مائتين آخرين. ومن ثمّ، كان من المتوقّع أن يصبح ردَّ فعل الحكومة الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل عنيفاً إلى درجة الجنون، وهذا ما حدث. وبصرف النظر عن درجة اللاعقلانية التي اتسم بها هذا الردّ، فقد كان من الواضح أنّه انطوى في الوقت نفسه، ليس على محاولة لانتهاز فرصة ما حدث لتحقيق الأجندة السياسية المُعلَنة للحكومة المتطرّفة فحسب، وإنّما أيضاً لتصفية حسابات قديمة مؤجَّلة مع محور المقاومة ككل، ما يُفسِّر عدم اكتفاء نتنياهو بشن حرب إبادة جماعية على الشعب الفلسطيني، تستهدف إخلاء القطاع والضفّة من سكّانهما، وإنّما التخطيط والاستعداد في الوقت نفسه لمواجهة تدريجية مع مكونات محور المقاومة كلّها، بما في ذلك إيران نفسها، باعتبارها العقبة الوحيدة المتبقّية التي تحول دون تحقيق طموحات حكومته المتطرّفة كافّة.
التيّارات العقائدية المعنية بالدفاع عن قضايا عادلة لا تختفي، حتّى ولو هزمت عسكرياً في الميدان، طالما ظلّت القضايا التي تدافع عنها حيّةً
يشير المسار الذي سلكته الجولة الحالية من الصراع المسلّح مع الكيان الصهيوني إلى حرص النظام الرسمي العربي على تجنب الانخراط فيها على أيّ نحو، تحت ذريعة أنّها تدور مع “أذرع إيران في المنطقة”، وأنّ “حماس”، أحد هذه الأذرع، بادرت باستخدام العنف. ولأنّ لمعظم الأنظمة الحاكمة في العالم العربي خلافاتٍ حادّةً مع تيّار الإسلام السياسي بصفة عامّة، ومع فصائله الشيعية بصفة خاصّة، فمن الواضح أنّ الكيان الصهيوني نجح في إقناعها بوجود مصلحةٍ مشتركةٍ تقضي ليس بالعمل لإضعاف هذه الأذرع فحسب، وإنّما لمحاولة استئصالها من جذورها أيضاً، ما يُفسِّر إحجام هذه الأنظمة عن ممارسة ضغوط حقيقية لوقف الحرب، رغم ما يرتكبه الكيان من جرائم بشعة تشكّل انتهاكاتٍ غير مسبوقةٍ للقانون الدولي.
قد يصعب التكهّن بالنتائج التي قد تنتهي إليها جولة الصراع الحالية، لكن هي المرة الأولى التي يقف فيها النظام الرسمي العربي متفرّجاً على أعمال إبادة جماعية يقوم بها الكيان العنصري ضدّ الشعب الفلسطيني، وعلى عملية تدمير تامٍّ وممنهجٍ ليس لقطاع غزّة فحسب، وإنّما للجنوب اللبناني أيضاً. صحيح أنّ بعض الأنظمة العربية تأمل بأن تنتهي هذه الجولة باختفاء الفصائل التي تنتمي لتيّار الإسلام الجهادي كلّها، وربّما بسقوط النظام الإيراني نفسه، لكنّ ذلك لن يحدث على الأرجح لسببَين رئيسَين. الأول لأنّ التيّارات العقائدية المعنية بالدفاع عن قضايا عادلة لا تختفي، حتّى ولو هزمت عسكرياً في الميدان، وإنّما ستعود إلى الظهور، ربّما بطريقة أقوى، وباستخدام وسائلَ أكثر عنفاً، طالما ظلّت القضايا التي تدافع عنها حيّةً وبلا حلول تنطوي على الحدّ الأدنى من العدالة، خصوصاً أنّ الواقع الراهن يشير إلى أنّ الفصائل التي تنتمي إلى هذه التيّارات ما زالت صامدةً في الميدان رغم مرور أكثر من عام على اندلاع القتال. السبب الثاني أنّ دخول إيران خطّ المواجهة العسكرية المباشرة مع الكيان يعطيها الحقّ في الظهور بمظهر المدافع الأول عن القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. ولأنّ إيران دولةٌ راسخةٌ في المنطقة وأكثر تقدّماً من الدول العربية على الصعيدَين العلمي والتكنولوجي، وربّما تكون في طريقها لكي تصبح دولة نووية، يرجح أن يكون النظام الرسمي العربي هو الخاسر الأكبر في هذه الجولة، وأن يخرج منها في حالة من الضعف تجبره على الاختيار بين الانحياز إلى إيران أو إلى الكيان الصهيوني في المواجهة التي يتوقّع أن تطول بينهما.