ربى خدام الجامع | Ruba Khadam Al Jamee
2023.12.28 | دمشق
لحظة إسقاط طائرة تابعة للنظام السوري لبراميل متفجرة على المدنيين
Digital War – ترجمة: ربى خدام الجامع
أعد هذه الدراسة فضل عبد الغني الذي رأس وشارك في إعداد المئات من التقارير والتحقيقات على مدار السنوات الثلاث عشرة الماضية، واعتماداً على خبرته الواسعة، درب العشرات من طلاب الماجستير، والإعلاميين السوريين، ورؤساء المكاتب السياسية وجماعات المعارضة في سوريا. كتب عبد الغني أوراقاً بحثية نشرت في مجلات ومدونات يراجعها نظراؤه، كما أسهم في إعداد مجموعة من التقارير لصالح منظمات محلية وإقليمية ودولية، وجرى تقديمه متحدثاً رئيساً في عدد من المحافل الدولية، إذ خطب أمام مجلس الأمن الأممي ومجلس حقوق الإنسان وغيرها من المحافل ذات المستوى الرفيع.
يفترض أن تكون السماء رمزاً للرحمة والسكينة والهدوء من خلال لونها الأزرق البديع وما تغدقه من أمطار وثلوج، إلا أن السماء تحولت إلى خطر يهدد المدنيين، وهذا الخطر مرئي أحياناً وغير مرئي في أحيان أخرى، إذ يمثل القصف الجوي الذي ينفذه أي نوع من الطائرات تهديداً كبيراً لحياة المدنيين، ولكن خلال السنوات القليلة الماضية، ثار جدل كبير حول استخدام الطائرات المسيرة التي لا يقودها أي طيار، إلى جانب الاستعانة بالأسلحة التي تعمل من تلقاء نفسها، والتي تعرف باسم الروبوتات القاتلة، والتي أصبحت محط انتقاد في أي نقاش يدور حول طبيعة التهديد، وعلى رأس تلك الأمور ما نفكر به عندما ندرس قدرة تلك النظم على تحديد موقع شخص معين بشكل ثلاثي من خلال نظم تحديد الموقع الجغرافي وغيرها من الوسائل التي تعتمد على استخلاص البيانات. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن القانون الإنساني الدولي بات بحاجة لمزيد من التطوير فيما يتصل بحماية المدنيين جسدياً ونفسياً من الخطر القادم من السماء. وبما أننا ندافع عن الحقوق الأساسية لبني البشر، لذا ينبغي علينا أن نضع أعلى المعايير لحماية الحق بالحياة ولتوفير الحماية من الأذى الجسدي والنفسي، كما أن الحق الجديد المقترح إضافته لحقوق الإنسان والذي يقضي بحماية الحرية بالحياة من دون أي تهديد جسدي أو نفسي قادم من السماء يمكن أن يعزز قدرتنا على حماية المدنيين الذين يتعرضون لرعب بسبب الهجمات الجوية.
لا وجود للأثر النفسي في القانون الدولي
يتعاظم الأثر النفسي للهجمات الجوية في حال كانت تلك الهجمات متعمدة، لأن هذا النوع من الهجمات أسوأ من الهجمات العشوائية، بما أنها تتسبب عادة بأكبر قدر من الأضرار، وتستهدف المرافق الصحية والتجمعات السكنية، وتكرر استهدافها للموقع الذي جرى قصفه، ولذلك يعتقد كثيرون بأن الآثار النفسية للأخطار غير المرئية تفوق آثار الأخطار المرئية، أما أنا فأجد بأنه حين يشاهد المدنيون مروحية أو طائرة حربية وهي تحلق فوقهم مرات متكررة قبل أن تقصفهم، فإنهم يعانون طوال فترات تحليقها من عذاب نفسي قاس، وكلما طال أمد العذاب النفسي، زادت آثاره على الناس وعلى المجتمعات.
يرى كثيرون بأن القانون الدولي يركز بصورة رئيسة على القتلى والجرحى والمواقع التي تعرضت للتدمير، ولا يتطرق كثيراً للمعاناة والآثار النفسية التي يخلفها كل ذلك، إلا بشكل محدود يتصل بممارسات تتعلق بالتعذيب والإخفاء القسري، والعنف الجنسي. وهنا أود أن أذكر بأن القانون الدولي لا يأخذ بعين الاعتبار المعاناة النفسية التي يعيشها الضحايا المباشرون للقصف الجوي، وكذلك الأمر بالنسبة للضحايا غير المباشرين، وفي ذلك فشل صريح، وذلك لأن ضحايا القصف الجوي لا يمثلون من قتل أو جرح بسبب ذلك القصف وحسب، وذلك لأن آثار الرعب تمتد لتشمل أحياء ومدناً بأكملها. وإثر تعرض الناس لمشاهدة صور أشلاء جيرانهم من المدنيين، التي قد تشتمل على صور لأطفال ونساء، يساور هؤلاء الأشخاص خوف من ملاقاة المصير ذاته، وهذا بحد ذاته وضع يمكن استيعابه وتفهمه، ولكن وسرعان ما يتحول هذا الخوف إلى هوس يعيشه هؤلاء بصورة يومية. ولهذا لابد من تكثيف الجهود الإنسانية والقانونية في هذا السياق نظراً لوجود حاجة ملحة لصياغة سوابق قانونية تسلط الضوء بشكل أكبر على الأضرار النفسية التي تتسبب بها الغارات الجوية سواء المتعمدة أو العشوائية وما يترتب على ذلك من حالات موت ودمار ونزوح.
الاستثناء الذي يمثله المجال الجوي السوري
في الوقت الذي يناقش فيه العالم خطر المسيرات التي تحلق بلا طيار والهجمات غير المرئية، يمثل الوضع في سوريا حالة مختلفة تماماً بسبب مستوى الوحشية التي بلغها نظراً للجوء إلى هجمات تعتمد على قصف جوي لمساحات شاسعة، إذ خلال العقد الماضي، عملتُ في مجال توثيق انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في النزاع الدائر بسوريا، وعبر الاستعانة بقاعدة بيانات أنشأتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، صار بوسعي أن أقول إن الوضع هناك يمثل دليلاً صارخاً يدفعنا لأن نضغط ونطالب بشكل عاجل بسن مزيد من القوانين والسعي للسيطرة على استخدام المجال الجوي. وحتى نضع الأمور في نصابها يمكن القول إن 75% تقريباً (أي نحو 171 ألفاً) من مجمل عدد الضحايا المدنيين (أي 227 ألف مدني تقريباً) قتلوا بسبب القصف الجوي.
يعتبر القصف الجوي سبباً لتدمير النسبة نفسها من البنية التحتية المدنية، إذ في الوقت الذي نجا فيه هؤلاء المدنيون من الموت والإصابة بعد تعرضهم لتلك الأخطار من السماء التي تظلهم، حلت على هؤلاء الناس نكبة تمثلت بتدمير بيوتهم وأماكن عملهم بسبب ذلك القصف، وهذا ما أدى إلى تصنيف الملايين من الناس كنازحين في الداخل أو كلاجئين.
حتى تاريخ اليوم، مايزال النظام السوري يستخدم مختلف أنواع الأسلحة ليقصف المدنيين من السماء، وتشمل تلك الأسلحة صواريخ سكود طويلة المدى، والصواريخ الباليستية التكتيكية التي طورها الاتحاد السوفييتي السابق، وهي عبارة عن صواريخ تطلقها مروحيات أو طائرات حربية تتميز بأجنحتها الثابتة، ناهيك عن أنواع مختلفة من الذخيرة العنقودية، وبالطبع الأسلحة الكيماوية. وجميع تلك الأسلحة أطلقت من المجال الجوي وأغلب الهجمات الصاروخية لم تكن عشوائية تماماً، بل وجهت بشكل متعمد لتقصف المشافي والمدارس والأسواق والأماكن العامة وغيرها من أشكال المجالات المدنية.
البراميل المتفجرة مثالاً
من أشد الأفكار التي خرج بها النظام السوري تدميراً فكرة استخدام البراميل المتفجرة، وهي سلاح معروف بقوته التدميرية الهائلة، وآليته البسيطة وتقنيته البعيدة كل البعد عن التعقيد، إذ تقوم فكرة البراميل المتفجرة على ملء عدد من الحاويات المعدنية بمواد متفجرة وقطع معدنية (مسامير، قضبان، رقائق معدنية) لإلحاق أكبر قدر ممكن من التدمير بما أن هذه الأشياء تتناثر في الهواء بعد انفجار البرميل المتفجر. ولقد أضاف النظام السوري أيضاً موادَّ كيماوية سامة للبراميل، فوثقنا لدى الشبكة السورية لحقوق الإنسان 93 هجمة بالأسلحة الكيماوية تمت عبر الاستعانة بالبراميل المتفجرة.
كما أن الموضع الذي يسقط فيه البرميل المتفجر يخضع لعدد من المتغيرات التي تشمل الارتفاع الذي تم إسقاط البرميل المتفجر عنده، وسرعة الرياح، وسرعة الطائرة في الجو، وكتلة البرميل، ووزنه، ونسبة ارتفاعه إلى ارتفاع السطح الذي يسقط فوقه، وطول فتيل الإشعال، وأبعاد الأجنحة الموجهة. كل تلك الأمور تبين أنه من المستحيل إصابة هدف دقيق ومحدد سلفاً، ولذلك يمثل استخدام البراميل المتفجرة انتهاكاً صارخاً للقانون الإنساني الدولي، في حين أن استخدامه بصورة عشوائية يرقى إلى جريمة حرب.
إن القرار رقم 2139 الصادر عن مجلس الأمن الأممي بتاريخ 22 من شباط 2014 يشير بشكل مباشر إلى البراميل المتفجرة واستخدامها، ويطالب النظام السوري “بوقف فوري لكل الهجمات ضد المدنيين، بالإضافة إلى وقف الاستخدام العشوائي للأسلحة في المناطق المأهولة بالسكان، ويشمل ذلك وقف القصف المدفعي والجوي وعلى رأسه البراميل المتفجرة”، ولكن على الرغم من صدور هذا القرار، لاحظنا في الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدم اكتراث واضح من قبل النظام السوري بالقانون الدولي أو بالقانون بحد ذاته، وعلى الرغم من أن هذا القرار حدد هدفه المتمثل “باتخاذ مزيد من الخطوات في حال عدم الالتزام بهذا القرار”، لم يتخذ مجلس الأمن الأممي أي خطوة أخرى في هذا الاتجاه، كما فشل في تنفيذ القرار.
في مقطع الفيديو التالي الذي جمعته وصنفته الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بوسع القارئ أن يشاهد كيف جرى إسقاط أربع براميل متفجرة على مدينة داريا 21-11-2015.
ولتقدير مدى عشوائية البرميل المتفجر وتأثيره، بوسع القارئ أن يضغط على الرابط التالي ليرى عملية إسقاط لبرميل متفجر نفذتها مروحيات تابعة لقوات النظام السوري على منطقة حاليا الواقعة جنوبي مدينة كفرنبل بريف إدلب (التاريخ: 14 من تشرين الثاني 2019).
منذ عام 2016، لم نعد نسمع أي إدانة للنظام السوري على استخدامه للبراميل المتفجرة، على الرغم من مواصلته الاستعانة بها، فقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان إسقاط نحو 81916 برميلاً متفجراً من مروحيات تابعة للنظام السوري وطائرات حربية ذات أجنحة ثابتة ابتداء من شهر تموز 2012 وحتى شهر نيسان من عام 2021، توزعت على النحو الآتي:
21013 برميلاً متفجراً جرى إسقاطه قبل تبني مجلس الأمن للقرار رقم 2139 بتاريخ 22 من شباط 2014.
60903 براميل متفجراً جرى إسقاطه بعد تبني مجلس الأمن للقرار رقم 2139 بتاريخ 22 من شباط 2014.
كما وثقنا مقتل 11087 مدنياً بينهم 1821 طفلاً و1780 امرأة (أي أنثى بالغة)، نتيجة لاستخدام النظام السوري للبراميل المتفجرة خلال الفترة الواقعة ما بين تموز من عام 2012 وحتى شهر نيسان من عام 2021. هذا وتمثل حصيلة القتلى من الأطفال والنساء نحو 33% من مجمل الوفيات المدنية التي قتلت جراء استعانة النظام السوري بالبراميل المتفجرة، وتؤكد هذه النسبة المرتفعة على أن تلك الهجمات استهدفت المدنيين عمداً، وفي ذلك جريمة بنظر القانون الدولي. وبحسب قاعدة البيانات الموجودة لدى الشبكة السورية لحقوق الإنسان، استخدمت البراميل المتفجرة في 728 هجوماً استهدف مرافق مدنية حيوية على أقل تقدير، بينها 104 هجمات استهدفت مرافق طبية، و188 هجوماً استهدف مدارس، و205 هجمات استهدفت مساجد، و57 هجمة استهدفت أسواقاً.
النزوح والنزوح القسري بسبب البراميل المتفجرة
يتمثل هدف النظام السوري من الاستخدام المكثف للبراميل المتفجرة بإلحاق أكبر قدر ممكن من الدمار بشكل مقصود مع نشر الذعر بين صفوف المدنيين. إذ خلال المقابلات التي أجريت مع الأهالي، تحدث معظمهم عن حالة الصدمة والخوف التي سادت الحي بأكمله إثر سقوط برميل متفجر عليه، كما تحدثوا على الانفجار المرعب الذي تسبب به سقوط البرميل، والأثر النفسي الذي لحق بهم جراء تدمير بيوتهم التي نشؤوا وترعرعوا فيها أو ورثوها عن أهلهم. وفي الوقت الذي جرى فيه إسقاط معظم البراميل المتفجرة على مرافق حيوية مثل المدارس والمخابز والمرافق الطبية والأسواق، إلا أن الدمار الذي لحق بالبيوت، وحالة الذعر التي تسبب بها ذلك، بالتزامن مع الدمار والخراب الذي لحق بالمرافق الحيوية، أجبر الآلاف من السوريين على النزوح من مناطقهم، إذ فر هؤلاء طلباً للأمان لهم ولعائلاتهم، بيد أن المناطق التي نزحوا إليها تعرضت هي الأخرى للقصف، وهذا ما دفع كثيرين منهم للنزوح مرات متكررة، ولهذا فإن الأغلبية الساحقة من النازحين تعرضت لتجربة النزوح أكثر من مرة.
يتلخص هدف النظام السوري من كل ذلك بالانتقام بصورة وحشية، إذ لم يكفيه اجتثاث الناس من بيوتهم، بل أراد أيضاً إرغامهم قدر الإمكان على دفع أبهظ الأثمان انتقاماً منهم على مطالبتهم بالتغيير السياسي، وهذه الحقيقة الأساسية تغيب عن معظم الباحثين عند سؤالهم عن هدف النظام وراء قصف الأحياء المدنية لهذه الدرجة المرعبة وبهذه الكثافة. أما الشبكة السورية لحقوق الإنسان فترى بأن تدمير المدن والقرى يمثل استراتيجية متعمدة هدفها دفع الناس للنزوح وبث اليأس في نفوسهم، وحثهم على الاستسلام، وما ينجم عن ذلك من معاناة بسبب تعرضهم لكل ذلك بصورة متعمدة، ناهيك عن الأثر الأشد تدميراً الذي يصيب المشردين والنازحين. إذ بما أن هؤلاء خسروا بيوتهم وممتلكاتهم وأعمالهم ومتاجرهم التي كانت بين يديهم في يوم من الأيام، تتحول تلك الفئات إلى أشد الناس فقراً وتهميشاً في المجتمع.
لا يقتصر أثر الهجمات الجوية على القتل والإصابات، بل يتعداه ليصل إلى تدمير البيوت والمحال، وبالتالي نزوح أهلها وأصحابها، بما أن قيمة تلك البيوت والمتاجر قد تصل إلى ملايين الدولارات، ففي بلد كسوريا، يعتبر شراء بيت أمراً غاية في الصعوبة، وقد يتطلب الأمر أجيالاً حتى يتحقق، ولهذا فإن تدمير أي بيت أو متجر يخلف أشد ضرر نفسي على العائلة، لاسيما الأطفال، فقد لاحظنا في كثير من المدن والأحياء التي تعرضت للقصف الجوي السوري والروسي بأن التدمير كان هدفاً مقصوداً بحد ذاته، أي أن غايته إلحاق أكبر معاناة وخسائر ممكنة بالمدنيين الذين طالبوا بالتغيير السياسي الديمقراطي.
فيما يلي صور التقطت بالأقمار الصناعية، وحصلت عليها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وتظهر الغوطة الشرقية وخان شيخون، ومعرة النعمان، وفي هذه الصور، قارنا حجم الدمار قبل وبعد الهجمات الجوية التي نفذها النظام السوري وحلفاؤه الروس، فخلصنا إلى أن الغالبية العظمى من البيوت والمحال تعرضت للقصف والتدمير، على الرغم من بعدها عن خطوط الاشتباك، إلى جانب إسقاط عدد من البراميل المتفجرة على مرافق حيوية مثل المدارس والمخابز والمرافق الطبية والأسواق.
إن هذا القصف الوحشي والتدمير الذي طال البيوت والمرافق الحيوية، وحجم الرعب الذي يبثه في النفوس، دفع الآلاف من السوريين للهروب إلى أماكن ينعمون فيها بأمان أكبر، إلا أن المناطق التي وصل إليها النازحون داخلياً تعرضت للقصف أيضاً، ما أجبرهم على الانتقال والنزوح من جديد، وكما لاحظنا، تبين بأن غالبية النازحين داخلياً أجبروا على النزوح أكثر من مرة.
إن حالات القصف الجوي التي وقعت في سوريا على مدار العقد الماضي تدفعنا للتفكير ملياً بأفضل الطرق المناسبة للتحكم بالمجال الجوي والسيطرة عليه، ولمنع ظهور تهديدات وأخطار قادمة من السماء، إذ يعتبر هذا الخطر أعظم خطر بما أنه تسبب بقتل كثيرين فضلاً عن الدمار والنزوح والرعب النفسي الذي خلفه. أما مسؤولية العمل لتحقيق الهدف المتمثل بحماية أرواح المدنيين من الهجمات الجوية فتقع على عاتقنا جميعاً.
المصدر: Digital War