بقلم : محمد علي صايغ
٢٦ / ٣ / 2023
إذا كانت التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تسارعها خلال هذا العقد من التاريخ الإنساني قد أحدثت هزات متلاحقة في السياسات الدولية والاقليمية تجاوزت في تسارعها تحولات العقود السابقة وأوصلتنا أحداثها التي لا زلنا نعيش لحظاتها بارتداداتها ومنعكساتها الحاصلة إلى أن أصبح العالم أمام لحظات فاصلة قد تقود الى انهيار نظام الاحادية القطبية الى نظام متعدد الاقطاب ، أو قد تدفع احتمالات تفاعل الأحداث وتدافعها وتعقيدات المشهد الدولي إلى حرب نووية لا تبقي ولا تذر ، ولا أحد يمكن أن يقدر حدود تأثيرها ومٱلاتها .
جمال الأتاسي أحد المفكرين السياسيين ممن امتلك رؤية استشرافية للأحداث ، وقدرة تحليلية لما كان يجري من متغيرات ، وكان يتابع طوال حياته السياسية بمنهجية السياسي المخضرم ، التحولات والمتغيرات في السياسية الدولية وفي عالمنا العربي لا باعتبارها تحولات سياسية منفصلة عن بعضها ، وإنما باعتبار ما يجري جزء من استراتيجيات كبرى تم وضعها للسيطرة على العالم وعلى منطقتنا العربية وربطها بعجلة مصالح القوى المهيمنة ، وايضا باعتبار التحولات في منطقتنا جزء من التحولات الدولية وما يمكن أن يعكسه الصراع الدولي من أخطار كبرى او ما قد يفتح هذا الصرع من فرص تاريخية يمكن استثمارها إذا توفرت الارادة والعزيمة لدى امتنا العربية ..
وكان جمال الأتاسي في الكثير من مقالاته ولقاءاته بعد أن يستعرض ويحلل ويقف أمام المٱذق التي تجتاح أمتنا ، والفوات التاريخي الذي وصلنا اليه ، كان دائما يتسائل ويسأل ويدقق في العوامل التي تتحرك فيها السياسة الدولية ، وتتلاعب بها مراكز القرار الدولية المهيمنة ، للتحكم في مصير العالم ومستقبله.
وفي التأسيس المعرفي والمنهجي لرؤيته للتحديات والمتغيرات في أبعادها الدولية وتأثير ذلك على دول العالم وشعوبه ،فقد كان يرى :
” ١- أن حركة التاريخ وإن كانت تقدمية في اتجاهها العام لكنها تحمل الكثير من التعرجات والانكسارات التي تضيع معها الرؤية الدقيقة لاتجاه الحركة ما لم تكن النظرة إلى أحداث التاريخ شاملة وثاقبة .
٢- إن رؤية الأحداث في لحظات التحولات الكبرى والانقلابات العظمى يجب وضعها في سياق الجدل التاريخي الانساني ، باعتبارها تراكمات كمية في التطور الانساني يمكن قراءتها من منظورين :
الاول : شمولي عام يراها في جدلية الصراع التاريخي الانساني في سيرورته الطويلة يثبت او يصحح النظريات الاجتماعية والفلسفات الكبرى .
الثاني : مرحلي حيث تفرض هذه التطورات والتحولات معطياتها على أدوات الحركة الانسانية ومفرداتها خلال المدى الذي تفرضه قبل أن يولد التراكم الكمي فيها تحولات نوعية جديدة .
٣- إن حركة التغيير وإن كانت تقدمية في سياقها الكلي والنهائي لكن ليست كل حركة تغيير عملا تقدميا بل قد تكون تشويها او تعطيلا لحركة التاريخ وإعاقة لمساره الإيجابي .
٤- إن التعامل مع التغيرات والتبدلات يجب أن يتم عبر الإمساك بجدلية الصراع من أجل استيعابها وتصحيحها وفرض نتائج ومتغيرات جديدة تزيل عثرات التاريخ وانكساراته لتجعل من مسيرته أنضج وأسلم .
٥- أن الدعوة للتغيير والتجديد والتطوير لا تأتي بمجرد الرغبة بالتغيير ولو بالشكل ، إذ أن عملية التغيير والتجديد نهج وخلق وإبداع لها شروطها وأسسها ومقوماتها : وأول تلك الاسس استيعاب المرحلة السابقة وهضمها ، فالتغيير التقدمي ليست قفزات من فراغ .
وثاني الاسس : التأسيس لمرحلة قادمة واضحة الاستهدافات وليست خطوات او قفزات نحو المجهول .
وثالث الاسس : أن تأتي استجابة لمعطيات واقعية ومجتمعية ، والبيئة التي تتحرك فيها ليست مجرد نقل لتجارب غيرها ..
وبعد هذا التأسيس الفكري فإن الدكتور جمال الاتاسي في تحليله للمتغيرات ، كان يؤكد على أن ” ذلك هو النهج الذي قلنا أنه نهج في الحركة الثورية العربية وطريق نهضتنا القومية ، والذي يجب الإمساك به في ظل العواصف وفي مرحلة التبدلات العميقة ، وان نمارس وفقه دورنا في رسم مستقبلنا ومستقبل أمتنا . “
وعلى ضوء هذا الفهم يرى الدكتور جمال الأتاسي أن الخطوط العريضة لاستراتيجيتنا المرحلية في أبعادها الدولية يجب ان تستند الى خطوات واقعية ، ورؤية مختلفة للعالم ، ورؤية جديدة لأهداف نضالنا ، وخطواتنا على طريق تحقيق هذه الأهداف :
” ١- إن العالم الذي نعيش فيه لم يعد – وهو لم يكن أصلا – مجرد محيط وجوار نتحرك فيه بشكل مستقل عن الآخرين ، بل أصبحت تأثيراته في ظل العولمة أكثر قوة ، ولم يعد من الممكن التهرب منها ، فالعولمة اليوم تقتحم المجتمعات وتتجاوز الحدود وتجعل من الانغلاق أمرا مستحيلا . إن إدراك أن اقتحام الدول الصناعية الكبرى وتوظيف العولمة للسيطرة والهيمنة على الشعوب لا يعني ابدا انه لم يبق أمام الشعوب سوى الاستسلام والاندماج بالنظام العالمي الجديد ، بل يعني تفاعلا وجدلا إيجابيا يجب ان يتم بحيث تدخل الكثير من قيم العولمة وقوانينها في نسيجنا السياسي والاقتصادي والثقافي ، وبحيث يتم إخصاب الخصوصية الخاصة بنا وتحويلها الى مركز مؤثر في العولمة ذاتها ، بدل أن تبقى تلك العولمة خاضعة لمركز تأثير مصالح وأفكار “القوى العظمى المسيطرة ، وذلك بتحديث المجتمع واستثمار تقنيات وأدوات العولمة ورفع المستوى العلمي للمجتمعات بما يقوي فرص عدم الوقوع في أسر الرؤية الغربية للعولمة ذاتها ، وما قدمته التجربة الصينية والايرانية أو دول “النمور ” الٱسيوية ، في تطوير مجتمعاتها مع الحفاظ على خصوصيتها بما جعل خصوصيتها جزء من استيعاب العولمة.
٢- إن القول بالخصوصية الثقافية والسياسية لمحاربة مفردات المراكز الدولية للعولمة وخصوصا في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان دون تقديم واضح لمعالم تلك الخصوصية وحدودها ، ودون تطبيق نماذج وممارسات مقنعة وإيجابية يجعل من التحصن في تلك الخصوصية مجرد موقف تعصبي لا يعبر في حقيقته عن ثقافة وطنية خاصة بل هي ثقافة الاستبداد السلطوي .
إن التعامل مع العولمة ، وخصوصا في أبعادها الثقافية يعيد طرح الإشكالية المزمنة التي شغلت بال مثقفينا منذ عقود طويلة حول الأصالة والمعاصرة بعد أن تملك دعاة المعاصرة المتغربة أدوات وتقنيات أكثر صلابة وأوسع انتشارا ، وهي المسألة التي تفرض إعادة طرح الثورة الثقافية القائمة على تشابك العلاقة الجدلية بين الأصالة والمعاصرة .
٣- إن النظام العالمي الجديد القائم على هيمنة قطب وحيد يستدعي من الشعوب ابتكار أشكال وشعارات جديدة لمواجهة تلك الهيمنة ، وهو صراع لا يستقيم فيه عدم الانحياز والحياد ، إن الشكل المناسب لمواجهة النظام الدولي الجديد ، هو تطوير عمل منظمة عدم الانحياز لتكون هيئة تجميع للشعوب والدول المستغلة والمهيمن عليها في مواجهة هذا النظام الدولي تحت شعارات العدالة والمساواة . وهذا يستدعي الاستفادة من المتناقضات بين الأقطاب الثانوية في النظام الدولي والدفع للتعاون مع الحلقات الأضعف منها لتعميق تلك المتناقضات وتوسيع التنافس بينها ، وهذا يشكل خطوات تكتيكية مهمة في الصراع الدولي ويساعد ويدفع نحو اندفاع القطبيات الثانوية في أوروبا واليابان والصين وروسيا للمنافسة على طريق تشكيل قطبيات متعددة . ومن المهم هنا التأكيد على أهمية العلاقات الأوروبية العربية وخاصة فرنسا وتعزيز علاقات الدول العربية مع دول شرق ٱسيا .
٤- إذا كانت ” الشرعية الدولية ” وهي إحدى المفردات والمقولات التي يستخدمها النظام العالمي الجديد بصورة تلقائية مصحوبة باستخدام تعسفي للقوة المفرطة ، مستفيدا من هيمنته على مؤسسات المجتمع الدولي وفي مقدمتها ” مجلس الأمن ” فإن الشعوب يجب أن تسعى عبر استخدام مفردات تلك الشرعية الدولية ذاتها من أجل مجابهة الهيمنة الأمريكية ، ليس من خلال فضح تلك الانتقائية في تطبيق ” الشرعية الدولية ” فحسب وعبر التأكيد على وحدة المعايير ، وإنما أيضا من خلال التركيز على دور المؤسسات الدولية القانونية كمحكمة العدل الدولية ، وعبر الدعوة لتشكيل مؤسسات دولية شعبية جديدة لتضع ضوابط وأسس لتطبيق تلك الشرعية الدولية .
٥- إن التطورات العالمية كلها جاءت لتؤكد أنه لا تقدم ولا خلاص للشعوب ولا تنمية حقيقية إلا بإطلاق حرية الشعوب واحترام إنسانية الإنسان ، وبالديمقراطية مدخلا وأداة ونهجا . والتطورات أكدت أيضا أن الطريق للديمقراطية ليس مفروشا بالورود ، فهي ليست منحة أو هبة من الحاكم لمواطنيه ، ولا هي فرصة تأتي نتيجة لتشابك وتقاطع في السياسات الدولية ، وفي مصالح القوى المحيطة بتلك الأمة أو الدولة في لحظة تاريخية محددة ، وإنما هي تؤخذ وتتحصل نتيجة تراكم طويل تقوده الشعوب والأفراد وتندفع إليه الطلائع ، ونتيجة وعي يتكرس في وجدان الأمة ليتجسد نمطا للحياة في نهاية الطريق . ” .
وبرى الاتاسي أيضا :” أن الاستبداد لا يعالج بالعنف الأعمى ، والفساد لا يداوى بالدعاء ، والآمال لا تتحقق بالاحلام وإنما بالنضال وبالعمل وبالدعوة الى التغيير و بالإمساك بالنهج الديمقراطي وبالتقدم باسمه وعلى طريقه تتحقق الآمال والأهداف ، هذا ماأكدناه في توجهاتنا وكتاباتنا منذ أن قلنا بالحرية أولا وبالعمل الديمقراطي منهجا وطريقا . ” .
ويضيف أيضا : لقد قلنا بالديمقراطية وأنها لا تستقيم إلا بالتعددية السياسية والاجتماعية ، تعددية الرأي والثقافة ، وإلا بإعادة الحيوية الى مؤسسات المجتمع المدني وبناء تلك المؤسسات ابتداء ، وبإطلاق الحريات العامة وفي المقدمة منها الحريات النقابية لتبنى الديمقراطية عبر تفاعل الأفكار وعبر الممارسة والجدل الاجتماعي ، فلا شيء أقدر على بناء الحياة من إطلاق مفاعيل الجدل الخلاق بين عناصر الأمة وقواها الحية .
إن التعددية الحزبية والثقافية والسياسية هي مدخل هام لأي انعطاف ديمقراطي ولأي هامش من الحرية السياسية ، وهي طريق التغيير لحالتنا الراهنة ، والمخرج أمام المجتمع من أزمات العنف و ” العنف الكامن ” الذي يتراكم في النفوس قبل أن يعود للانطلاق المدمر والمخرب .
٦- إن رؤية الاستراتيجية المرحلية لمواجهة التغيرات العالمية كما يراها الدكتور جمال لا تنطلق من التسليم بفشل الاشتراكية كنظام اجتماعي واقتصادي في الصراع مع الرأسمالية العالمية ، رغم انهزامها ، ولا بالقول بمقولة نهاية التاريخ ، بل هي تقوم على قناعة بأن ما انهزم هو نظام أو أنظمة اشتراكية وتجارب قامت أيضا على تجاوز حركة التاريخ وجدليته عبر القفز بعملية التطور قبل نضوج مرحلة التغيير وأدواتها . ويؤكد الدكتور جمال في هذا السياق على
إننا ونحن ندعو الى تفكيك النظام العالمي الشمولي ، ووضع حد لتسلط القوى الممسكة بالسلطة والمرتبطة بالمؤسسات الدولية المسيطرة ، فإننا بالوقت نفسه ندعو الى مقاومة ذلك النمو الهائل في الطبقة الرأسمالية الطفيلية المستغلة التي تولدت من رحم النظام وعلى هامشه ، مدركين أن سياسة مضبوطة للانفتاح ولإطلاق آليات السوق وإعادة مناخات المنافسة ، لا تعني بالضرورة إعادة الوحش الرأسمالي الاستغلالي بصورته التي صار عليها ، بل هي تقوم على تصحيح المسار الاقتصادي ، وعلى إيجاد التوازن بين دواعي التنمية مع الحفاظ على المكاسب الاجتماعية للقوى الفقيرة وتعزيزها .
إن جوهر الاشتراكية الذي نتمسك به يقوم على المحافظة على دور أساسي للقطاع العام في قطاعات الانتاج الهيكلي بعد تحريره من سيطرة العقلية البيروقراطية ” السلطوية ” ومن الفساد والتسيب وتعزيز الرقابة الشعبية الحقيقية عليه ، في ظل مناخات المنافسة وتحفيز دوافع الإنتاج وإعطاء دورهام للقطاع الخاص ، ويقوم على توفير كامل الضمانات الاجتماعية بتأمين فرص العمل وتثبيت الأجور بعد ربطها بغلاء الأسعار ، وتأمين التعليم المجاني الجيد والطبابة المجانية التي هي عنوان العدالة الاجتماعية .
إن ما سقط بالتأكيد ليس الاشتراكية كفكرة ومفهوم وإنما الذي سقط هو النظام الشمولي وأدواته القمعية والقهرية ، وحتميته الميكانيكية ، أما الاشتراكية بما تمثله من نزوع للعدالة والتنمية وإلغاء استغلال الإنسان ، فهي لا تزال حاضرة في دائرة الجدل والصراع مع النظام الرأسمالي الاستغلالي المتوحش ، ولا بد من أن تحقق الانتصار عليه في سياق حركة التقدم الإنساني .