الكاتب رامي الشاعر- رواد الاقتصاد
21 مارس، 2024
حصلت رواد الاقتصاد على مقال للكاتب والمحلل السياسي رامي الشاعر، تحت عنوان العلاقات الاقتصادية الروسية السورية شبه مجمدة، ودمشق تتحمل المسؤولية في عرقلة الحل السياسي.
تقف سورية المنهكة اليوم على مفترق طرق مظلم، تشبه تداعياته – وبأكثر قتامة – مفترق الطرق المظلم الذي اختاره النظام السوري في معالجة الأحداث منذ الأشهر الأولى للأزمة السورية.
اليوم يقف النظام السوري عارياً، وشاهداً على الموت السريري للجميلة سورية، بل ومسؤولاً – وليس سواه – أمام التاريخ.. متهرباً أو هارباً إلى الأمام في اختبار ما هو أقسى من الوقوف على جثة وطن، وشعب أصبح ضحية التعنت وهوس الاستئثار بالسلطة وأوهام النصر الذي أصبح مساوياً – بل وأقسى- من الهزيمة.
هي كلمات من الوجع السوري، ورسالة للنظام السوري، قبل أن تكون رسائل لكل السوريين من جميع أطيافهم وانتماءاتهم.
كلمات محفوفة بخوف السوريين وقلقهم المستمر منذ ثلاثة عشر عاماً، وممزوجة بالترقب والألم والأمل لسورية ولشعبها الأجمل.. رسالة تضج بعذابات الملايين من المشردين واللاجئين والجوعى ودموع الأمهات الثكلى.
من هنا أستهل الحديث عن مسار سياسي عسكري دولي تمخض بعد تفاهمات صعبة أبان مرحلة أصعب في التاريخ السوري، وهنا أقصد مسار أستانا وموقف النظام السوري من مخرجاته اليوم. المسار الذي وُلد في العاصمة الروسية موسكو بعد الاجتماع الذي شكل مفصلاً في سيرورة الصراع السوري، والذي صدر بيان عنه في 20 ديسمبر2016 – أي بعد عام تقريباً من التدخل الروسي- وصدر حينها البيان المشترك لوزراء الخارجية لدعم وتأكيد اطلاق محادثات بين حكومة الجمهورية العربية السورية ومجموعات المعارضة المسلحة في أستانا في الفترة بين 23 و24 يناير 2017 وبحضور المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، حيث أكد البيان الذي أعلن من العاصمة الروسية موسكو تأكيد جميع الأطراف على الالتزام بسيادة واستقلال ووحدة أراضي الجمهورية العربية السورية.
لقد جاء مسار أستانا أو ماعُرف بـ ” مسار التهدئة” كمنجز نوعي من التوافق بين الأطراف المتصارعة -عسكرياً وسياسياً – دولاً وجماعات وفي أوج تضاداتهم، مشكلاً خطوة كبيرة وفعلية نحو تطبيق نص القرار ٢٢٥٤ الذي تضمن البدء بوقف اطلاق النار كمقدمة للحل السياسي، وهو ما أعربت عنه بقناعة تامة جميع وفود أستانا وبكل اجتماعاتها التي توافقت على أن لا حل عسكري للأزمة في سورية وأن الحلّ الوحيد من خلال عملية سياسية مبنية على تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 بالكامل، و بالفعل نتج عن هذا الاجتماع إنشاء آلية ثلاثية لمراقبة وضمان الالتزام الكامل بوقف إطلاق النار ومنع وقوع أي استفزازات ووضع الآليات الناظمة لوقف إطلاق النار، والتأكيد بأن أستانا منصة فعالة للحوار المباشر بين الحكومة السورية والمعارضة المسلحة التي هي الآن تحت غطاء نفوذ الدولة التركية.
منذ ذلك التوقيت والأمل يحدو الجميع بالامتثال لهذه الثوابت المتفق عليها لوضع حد للكارثة السورية. إلا أنه – وحسب رأيي الشخصي وملاحظاتي الخاصة – مازال النظام السوري بذهنية غير قادرة على إحداث أي دفع في العملية السياسية بما يحقق الخروج من الكارثة السورية، خصوصاً وأن النظام وحسب تصريحاته وما تمخضت عنه الاجتماعات الأمنية مازال غير مستعد للجلوس مع الأتراك، وهو ما يمكن توصيفه – حسب رأيي الشخصي- خروجاً عما تم الاتفاق عليه في محادثات أستانا كمنصة حوار.
وهنا يتبدى أمامنا السؤال التالي، والموجه لكل من يهمه سورية ومستقبلها. ما الذي سيحدث إذا اختارت تركيا خيار الانسحاب من الشمال بعد رفض النظام للجلوس معها، وبالتالي رفض مخرجات دول مجموعة أستانا؟. وما هو مصير الملايين من السوريين في تلك المناطق في حال الانسحاب التركي وماهي مسؤولية النظام السوري المعني أولاً واخيراً بشعبه وأراضيه. والأكثر من ذلك، ماهي التداعيات التي سيتركها الفراغ التركي في هذه المناطق في منطقة تكتظ بالفصائل المسلحة، الأمر الذي يعني عودة الصراع المسلح الذي سيأخذ هذه المرة طابع الحرب الأهلية في تلك المناطق حيث تحظى المجموعات المسلحة بالقدرة العسكرية والاقتصادية والتأييد من سكان هذه المناطق. ومن البديهي و الحالة هذه توسع وامتداد هذه الحرب إلى مناطق اللاذقية وشمالها، خصوصاً مع غياب الضامن التركي، مع الإشارة – وحسب معلوماتي- أن النظام السوري سيكون عاجزاً مئة بالمئة على السيطرة الأمنية على تلك المناطق، مع الإشارة أيضاً، إلى إنه لن يكون هناك أية قوة قادرة على منع حدوث صدامات عسكرية هناك في حال الانسحاب التركي، وربما قد ينتقل دور الضامن التركي في التهدئة ومنع صدامات عسكرية إلى مجرد داعم لوجستي ما يعني عودة الصراع إلى المربع الأول.
أما بالنسبة للدور الروسي كأحد أطراف أستانا – في حال الانسحاب التركي- فلابد لي أن أشير بأن مراهنات دمشق على أن روسيا ستتدخل عسكرياً إلى جانب النظام فهذا مستحيل، لأن روسيا تعرف وتعي حقيقة الوضع على الأرض السورية، وتعرف مزاج وسيكولوجية الشعب السوري، وبالتالي لا يمكن أن تتدخل بأي شكل من الأشكال فيما يخص فرض إخضاع شرائح كبيرة من الشعب السوري لإرضاء ما يريده النظام السوري بعد كل هذا التعنت في الأداء بخصوص العملية السياسية التي أصبحت تستلزم خلال هذه المرحلة الجلوس مع التركي والامتثال لما أسست له تفاهمات أستانا.
أما بالنسبة لقاعدة حميميم فالنظام السوري يدرك بأن لها مهام محددة وهي محاربة التنظيمات الإرهابية المصنفة دولياً، وهذا هو الأداء العام للتدخل الروسي، وليس قمع إرادة الشعب السوري في أي منطقة من مناطقه سواء في الشمال أو الجنوب أو غير ذلك. وبالتالي فإن أوهام مراهنات دمشق على أن روسيا بفضل الملف السوري حققت مصالح حيوية لها ومنها القاعدة البحرية الجوية، التي يعتبرها النظام السوري إنجاز استراتيجي قدمه لروسيا على شواطئ البحر المتوسط، ما مكنها – حسب رواية دمشق- باستعادة هيبتها في الشرق الأوسط والعالم. لذلك أقول؛ أن من يعتقد ذلك سيكون واهماً وماهي إلا مراهنات خاطئة.
هنا لابد لي من التذكير بأن روسيا كدولة لا يمكن أن تتأثر بمرحلية التجاذبات السياسية، لأنها دولة تاريخية لها وزنها التاريخي والمعاصر وهي في العرف الدولي – أي روسيا- لم تذهب يوماً كدولة غازية لأنها ذات اكتفاء ديموغرافي وجغرافي وحيوي كقلب للأرض الأوراسي، وبالتالي فإن عقيدتها العسكرية والسياسية التاريخية لا تسمح لها بأن تصطف لصالح نظام متغير عاجلاً أم آجلاً لكي توجه إمكانياتها ضد الشعب السوري.
إن استمرار الأوضاع في سورية على حالها اليوم من التردي والجوع والتشرد، الذي يتحمل مسؤوليته تعنت النظام السوري وعدم قبوله بأية خطوة نحو الحل السياسي وتطبيق الاتفاقيات والتفاهمات. ونتيجة ذلك فقد أصبح هناك قناعة راسخة عند المسؤولين الروس بأن المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على عاتق سلطات دمشق. وهنا طبعاً لا أستثني أداء المعارضة ولكن المسؤولية الأولى على سلطات دمشق، لاسيما بعد أن جرت عدة محاولات من القيادة الروسية للبدء بالحل السياسي في إطار الحوار السوري التركي، وكان يقابله الرفض من قبل النظام السوري الذي ظهر بشكل واضح وجلي أنه لا يريد التقدم نحو أية خطوة أو تقديم أية تنازلات تدفع نحو إيقاف الكارثة السورية، معتقداً أن الانتصار هو الإمساك بزمام السلطة في بلد مقسم ومدمر ومشرد أهله، في الوقت الذي يكتفي فيه بجزء من حصته من الأرض السورية الموزعة على زعماء الحرب وسلطات الأمر الواقع.
من هذه النقطة، سأتجرأ بالقول وبكل صراحة، أنه في حال تفاقمت الأوضاع وبقيت حالة التعنت على ماهي عليه اليوم، واستمر النظام في رفضه الجلوس مع الأتراك للبدء بالعملية السياسية، فأنني لا أستبعد أن تنهي روسيا تواجدها في سورية، وربما تخليها أيضاً حتى عن الضرورات المهمة للقاعدة البحرية في اللاذقية.
وهنا لابد لي أن أؤكد أن العلاقات الاقتصادية مع دمشق مجمدة، ولا يمكن أن تتغير بدون مبادرة جدية من دمشق بحيث تقتنع بها القيادة الروسية، وأهمها العلاقة مع تركيا التي مازالت بدون نتائج تُذكر بسبب رفض القيادة في دمشق. وبالتالي فإنّ من يراهن على أنّ روسيا مضطرة للدفاع عن النظام مقابل الامتيازات التي تتمتع بها من خلال القاعدة البحرية فهو متوهم ومخطئ.
والسؤال أمام هذه الحقائق، ما هو الحل لوقف التردي اليومي لشعبنا السوري؟
أقول هنا؛ بالتأكيد ليس الحل باللجنة الدستورية أو مكان اجتماعها، وإنما الحل بتحقيق الخطوة الأهم، ألا وهي اللقاء بين النظام في دمشق والجانب التركي ودون أي شروط. أما بالنسبة للشروط التي يتحدث عنها النظام السوري للانسحاب التركي فهي شروط غير منطقية بالمطلق في الوضع الحالي، كون هذا الانسحاب يحتاج لخطوات مرحلية تبدأ من عملية الانتقال السياسي السلمي على كافة الأراضي السورية استناداً لقرار مجلس الأمن الدولي 2254، ومخرجات مؤتمر سوتشي للحوار السوري-السوري، وإلا فإن أهداف التواجد العسكري لمجموعة أستانا على الأرض السورية والتي بالدرجة الأولى وبفضلها يسود نظام التهدئة يمكن أن ينتهي بليلة وضحاها، عندما تبدأ جميع هذه الدول بسحب قواتها ليستلم مسار التهدئة نظام يمثل جميع مكونات الشعب السوري، الذي سيعمل على صياغة دستوره، واختيار نظامه السياسي عبر انتخابات حرة ونزيهة.
وهنا لابد من الإشارة، إنّ الجانب التركي أبدى استعداده للبدء بالحوار مع دمشق قابله عدم تجاوب دمشق ورفضها. وبناءً عليه، فمن حق القيادة الروسية أن تتخذ موقفاً في مواجهة من يعيق التفاهمات التي عملت عليها منذ العام 2016 في موسكو والتي أنتجت مسار أستانا للحل السياسي، وبالتالي لن يكون هناك أي تعاون في العلاقات الاقتصادية بين روسيا وسورية، لأن غالبية الشركات الروسية لن تشعر بأي أمان في خضم هكذا حالة، ما يحول دون القيام بأي مشاريع اقتصادية مجدية في ظل هشاشة الدولة وتعنت النظام الحالي وعدم قدرته على البدء في أية خطوات أو مبادرات فيما يخص عملية الانتقال السياسي أو العملية الدستورية أو العلاقات السورية التركية. كل ذلك متوقف على تطبيع العلاقات السورية التركية في إطار التفاهمات المعقودة والقرارات الدولية ذات الصلة.
صحيح أن روسيا – خلال هذه الظروف الدولية المتوترة – يهمها وتعترف بأهمية القاعدة البحرية في اللاذقية ولكن على الجميع أن يعي أن هذا التواجد منذ العام 2015 مرده ومهمته منذ البداية هو الحفاظ على السيادة السورية ووحدة أراضيها ومحاربة الجماعات الإرهابية المصنفة دولياً، إلا أنّ ذلك لا يعني أن ترضى روسيا البتة من يحاول ابتزازها أو استغلال تواجدها للتدخل في قمع شرائح واسعة من الشعب السوري وإعاقة تحقيق طموحاته في المشاركة الفعالة بمستقبل بلده والمشاركة المباشرة بعملية الانتقال السياسي السلمي.
ختاماً؛ منذ ثمان سنوات كتب أكاديمي سوري معارض؛ إن ما يجري في سورية هو انتحار متبادل بين النظام والمعارضة، وأنّ النظام السوري برفضه الحل السياسي إنما يتقاسم خسائر الدولة السورية مع المعارضة، وأن سورية قوة مضافة ببعدها العربي وخصماً على نفسها إذا عملت منفردة. اليوم؛ وقد خرجت الجميلة سورية عن بعدها العربي، وخسرت ما خسرت في محيطها الإقليمي، فتحولت إلى كابوس مخيف، في الوقت الذي مازال فيه النظام السوري منفرداً هذه المرة بانتحار سورية، ومكتفياً بقسمته من خسائر الأرض والدولة السورية.
أمام ذلك يتبادر لنا السؤال التالي: ما الذي بقي من سورية لتراهن على ابتزاز أو خسارة حتى أولئك الذين وقفوا لاجتراح الحل السياسي، وحالوا دون انهيار الدولة السورية وإحراق دمشق وهدم أسوارها؟.