د. مخلص الصيادي / أبو إياد
8 / 2 / 2025
في العشرين من نوفمبر / تشرين ثاني 2013 اختطفت أجهزة النظام السوري البائد “رجاء الناصر” بينما كان يسير راجلا في حي البرامكة، الاختطاف تم في وضح النهار قبيل ظهر ذلك اليوم، ومنذ تلك الساعة واليوم غُيٍب أبو طلال، ولم يعد يعرف، من اختطفه، ثم ماذا حل به، وتلجلجت أجهزة الاعلام السورية الرسمية في تغطيه هذا الحدث، إلى أن صار الانكار سيد الموقف لدى هذه الأجهزة، وكان هذا التلجلج المغلف بالإنكار التام أول مؤشر على قرارا النظام بتصفية أبي طلال.
ورجاء الناصر علم من أعلام المعارضة السورية التي اختارت ألا تغادر الوطن، وأن تناضل ضد نظام القمع والقتل والفساد متخذا من الكلمة والموقف والتحرك السياسي سلاحا له، متمسكا بالموقف الثابت لحزبه الذي ينتمي إليه ” حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي “وقد كان أمين سر اللجنة المركزية للحزب، ومتمسكا بموقف هيئة التنسيق الوطنية لقوى التنسيق الديموقراطي ـ وقد كان أمين سرها ـ التي آلت على نفسها أن تخوض معركتها ضد هذا النظام وقدمها ثابتة راسخة على تراب أرض الوطن السوري.
وقد عرفت أبا طلال في كل مشوار حياته، وكلها مشوار نضال وجهاد ضد الاستبداد والانفصال والطائفية والفساد، عرفته طالبا، وقاضيا، ومحاميا، عرفته رب اسرة عزيزة كريمة، عرفته في حياته الطبيعية اليومية، وعرفته معتقلا، ومطاردا ملاحقا، متواريا، عرفته مناضلا طليعيا وقياديا في التنظيم القومي، وقبلها معارضا لموقف حزبه الذي رضي الدخول في الجبهة الوطنية التقدمية، في العام 1972 وهو دخول لم يستمر إلا أشهرا قبل أن يغادرها في 24 / 4 / 1973 احتجاجا على ما ورد في ميثاق الجبهة والدستور التي أعطت حزب البعث مكانة خاصة ، وعرفته مهاجرا إلى لبنان يتخفى عن أعين أجهزة الأمن السورية التي كانت ترصد كل حركة في هذا البلد الشقيق، وخصوصا حركة المعارضين لنظام الأسد، عرفته في أوقات الراحة والسعة، وفي أوقات الضيق والضنك، في أوقات السعادة والبشر، وفي أوقات الفقد والحزن يوم ان فقد ابنه الشهيد الدكتور طارق الذي قتل بقصف قوات النظام في اعزاز/ حلب، في 17 / 9 / 2012، في وقت ذُكر فيه أن “طارق” كان قائدا لكتيبة “أبدال الشام” التابعة للواء “عمرو بن العاص” في حلب.
عرفته كاتبا صحفيا، وكاتبا سياسيا، ومجتهدا في مجال البحث السياسي والتاريخي، حاول أن يرسخ قدمه في مجال الدراسات العليا الإسلامية لكن الوقت لم يسعفه، فأصدر بعضا من أبحاثه في كتابه ” الإسلام وقضايا السياسة والحكم…أبحاث في الخلافة والإصلاح الديني” وكنت قد شاركته في العام 1986 في إصدار “كتاب الأحزاب والقوى السياسية في سوريا 1961 ـ 1985”.
في كل هذا المشوار كان رجاء الناصر مناضلا متميزا جمع بين القدرة غير المحدودة على الحركة والتفاعل والحوار والعطاء، إلى جانب مرونة وإمكانية على فتح القنوات المغلقة مع العديد جدا من الجهات والقوى التي يعتقد الكثيرون أن فتحها غير ممكن، كان براغماتيا إلى أقصى مدى ممكن، وفي الوقت نفسه متمسكا بقوة ببوصلة العمل الثوري الإيجابي، لم يكن مع حمل السلاح في الصراع مع السلطة الغاشمة، شأنه في ذلك شأن حزبه، وشأن هيئة التنسيق الوطنية، لكنه كان متفهما بعمق للمتغيرات التي دفعت الكثيرين لحمل السلاح، كان يتفهم موقفهم، وكان يمتلك القدرة على فتح الحوارات معهم في جهد مستمر لتمكين الصلات التي تجعل عمل الجميع في إطار الوصول الى الهدف وهو تغيير النظام.
بالنسبة لي كان هذا الرجل أكثر من أخ، وأكثر من رفيق درب، وأكثر من صديق مهما حملت هذه الأوصاف من معان وقيم عالية، كان في عيني كتابا مفتوحا، ومكتوبا بخط واضح جلي، بكل مكوناته، بكل الإيجابيات، وأيضا السلبيات، بكل أوقات القوة، وأيضا الضعف، وكان في كل حالاته رجلا متميزا حريا أن يُعطي كلَ موقع يستلمه، وكلَ مسؤولية يقوم بها، الأثر والقيمة الدالة عليه.
منذ اختطافه في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 وفي عمق تفكيري ما يشبه اليقين أن هذا النظام القاتل اختطفه ليتخلص منه، لكني كأسرته، وأحبائه، كنا نكذب ظننا، ونلاحق أملنا في أن يظهر أمامنا يوما ما.
لكن حين انتصرت الثورة وفتحت بوابات سجون النظام البائد، واكتشف العالم ما كان يحدث فيها، وعرف أن معظم من كان يعتبر مفقودا قد لقي حتفه في هذه “المسلخ البشرية”، انهزم الأمل عندنا، وبتنا ننتظر الإعلان الرسمي عن مصير المفقودين، حتى نستند إلى “رسمية الإعلان” في القطع بهذا المصير.
أمسُ حينما وقف “فريد ندى المذهان/ قيصر” المساعد في الشرطة العسكرية السورية، أمام الكاميرا يروي مشواره في الكشف عن جرائم النظام البائد، وما مر عليه من فظائع تلك الجرائم التي وثقها بالصورة بين 2011 ـ 2013، والتي أذهلت العالم الذي ما كان يصدق أي من رواياتنا عن إجرام النظام، وكان حَسَنِ الظن منهم يعتبر مروياتنا نوع من أنواع دعايات المعارضة ضد نظم الحكم، ومبالغاتها ضد خصومها من الحكام.
كانت صور قيصر قضية قائمة بذاتها وحينما ظهر بطلها ليرويها وقف الكثيرون مدهوشين من هول ما يسمعون، تماما كما وقفوا من قبل مدهوشين وهم يرون ويسمعون عن المكابس وحفلات الإعدام الجماعي اليومي والقتل في “سجن صيدنايا”، وغيره من المسالخ التي أقامها النظام للشعب السوري في سجون ومعتقلاته.
في اليوم التالي لظهور قيصر على شاشة الجزيرة وصلني تعليق للسيد “حسام ميرو” ـ وهو اعلامي وباحث سوري ـ يروي فيه جانبا من جوانب الكشف عن ملف قيصر يخص كيفية تأمين وصول صور قيصر إلى خارج سوريا، وفي روايته ذكر اسم رجاء الناصر كأحد الذين ساهموا في إخراج هذه الصور إلى الخارج عبر الأردن، وأنه اعتقل في اليوم التالي لعودته من هناك، أي أن هناك ربط مباشر بين دور “أبي طلال” في تأمين نقل هذه الصور بين اختطافه وبالتالي قرار التخلص منه.
هذه الرواية المفاجئة تستأهل أن تسجل بعد توكيدها ممن شارك في العملية، وقد ذكر ميرو أسماء أشخاص آخرين لهم صلة بهذا الأمر، هو أحدهم، والآخر هو “الدكتور سمير تقي”. كما هناك شخص ساعد في وصول هذه الصور إلى جنيف، قال فيه ميرو: ” إنه شاب نشيط من دير الزور يحمل الآن دكتوراة بالعلوم السياسية من أمريكا وقد ترك له حرية ان يقدم شهادته.
أنا لا استبعد أن يكون لأبي طلال دور في هذا الملف، فمن طبيعته العمل على جبهات عديدة، والتواصل مع كل جهات المعارضة، وأنه مصدر ثقة وأمان لكل من يتواصل معه، وكان دائب الحركة بين كل العواصم التي لها تأثير وعلاقة بالملف السوري.
أتمنى أن يساهم كل من لديه معلومة أو معرفة بهذا الملف بالمساهمة في القاء الضوء عليه. فالتوثيق قضية جوهرية، وقيمة حقيقية في أي حدث، فكيف ونحن أمام حدث قد لا يكون له مثيل في العصر الحديث.
أتمنى من كل من له معرفة بالساعات أو الأيام التي تلت خطف رجاء الناصر أن يدلي بدلوه في هذا المجال، سواء كان من العاملين في أجهزة الأمن في ذلك الحين، أو من الموقوفين والسجناء، أو ممن مر عليهم هذا الملف أو اطلعوا عليه.
أتمنى على السلطات السورية الجديدة التي حققت الإنجاز المشهود في دحر ذلك النظام، وتتطلع إلى بناء سوريا المستقرة والقوية والموحدة، أن تولي هذا الملف الاهتمام الواجب.
المسألة هنا ليست “رجاء الناصر” ـ على علو قدره وأهميته ـ وإنما المسألة تتصل بروح الشعب السوري وعطائه، بالكشف عن بيئة عمل الناس والمعارضة في مقاومة نظام الاستبداد والقتل والفساد، وكيف تنوعت فتكاملت أساليب المقاومة والمواجهة، وكيف أن الكلمة والموقف والصورة كانت تتضافر حتى بدون تنسيق مع العمل العسكري والسياسي في تجريد هذا النظام من الزيف الذي كان يغطي به نفسه، لتتركه عاريا مفضوحا لا يستره ساتر، فيصبح سقوطه تعبيرا عن حاجة إنسانية وأخلاقية قبل وبعد كونها حاجة وطنية، وقومية، ودينية.
أبا طلال الغالي… أينما كنت سلام من الله عليك ورحمته وبركاته