علي بكر الحسيني
خاص “المدارنت”
تبدو اللحظة السورية، اليوم، وكأنها لحظة ولادة ثانية، فالأكثر من عقد من الزمن عاشت البلاد تحت وطأة العقوبات الدولية الخانقة، وكان خلالها الشعب السوري محاصراً، والإقتصاد مشلولاً، والدولة غارقة في عزلة سياسية ومالية خانقة.
لكن مع سقوط نظام (الطاغية المخلوع) بشار الأسد، ورحيل رأس النظام الذي ارتبط اسمه بالدمار والقتل والفساد، تبدلت المعادلات فجأة، فلم تعد سوريا في موقع الدولة المنبوذة، بل تحولت إلى ملف مفتوح على كل الإحتمالات، فرفعت وزارة الخزانة الأمريكية العقوبات الفيدرالية العامة عن دمشق، وبدأت مرحلة جديدة قد تعيد ربط البلاد بالمنظومة المالية العالمية.
غير أن هذا التطور، لا يعني أبداً أن الطريق أصبح سهلاً أو معبّداً، فرفع العقوبات ليس سوى نقطة البداية، والنجاح الحقيقي مرهون بما ستفعله الحكومة الإنتقالية الجديدة داخلياً وخارجياً.
ولا ننسى أن التجارب الدولية تعطينا دروساً ثمينة، فالبعض أضاع الفرصة، والبعض الآخر نجح في تحويل رفع العقوبات أو تغيير العملة إلى نقطة إنطلاق نحو مستقبل مختلف، والسؤال هنا: هل تستفيد سوريا من هذه الدروس؟ أم تسقط في الفخاخ ذاتها التي إبتلعت آخرين؟
رفع العقوبات العامة لم يكن مجرد إجراء إداري أمريكي
في الثلاثين من حزيران/ “يونيو” 2025، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إنهاء البرنامج الشامل الذي فُرض على سوريا، منذ العام 2011، ودخل القرار حيّز التنفيذ مع بداية تموز/يوليو الماضي.
هذا الإعلان شمل رفع القيود عن المؤسسات المصرفية والصناعية، وإزالة أسماء مئات المرتبطين بشكل مباشر بنظام الأسد من قوائم الحظر “على الورق”، هذا يعني تحرير الإقتصاد السوري من قيود كبيرة، وفتح الباب أمام المصارف والشركات للعودة إلى العمل الطبيعي. لكن الأهم أن القرار جاء متزامناً مع سقوط النظام السابق وصعود حكومة ثورية إنتقالية.
وهنا؛ تكمن الرسالة الجوهرية بأن العقوبات لم تكن موجهة ضد سوريا، كدولة؛ ولا ضد الشعب السوري، وإنما ضد النظام الذي إختطف الدولة وأغرقها في الدم والفساد.
غير أن الحديث عن العقوبات، لا يكتمل من دون إستحضار “قانون قيصر”، ذلك القانون الذي صدر في العام 2019، والذي كان كالعصا الغليظة بيد واشنطن ضد الأسد وأركانه، وأرعب أي جهة خارجية تفكر في التعامل مع دمشق.
اليوم، لم يُلغَ القانون رسمياً، لكنه جُمّد بالكامل بعد سقوط النظام، وعملياً هذا يشبه شهادة براءة للحكومة الإنتقالية من جرائم الماضي. لكنه يظل سيفاً رمزياً مرفوعاً إذا إنحرفت سوريا الجديدة عن إلتزاماتها، فإن القانون قد يُعاد تفعيله بسهولة.
وإن الفارق الجوهري اليوم، أن المجتمع الدولي يتعامل مع قيادة جديدة لم تتلوث بجرائم الماضي، بل جاءت محمولة على شرعية ثورية، وهذا يمنحها فرصة لتوظيف رفع العقوبات كأداة بناء، لا كهدنة مؤقتة.
الأهمية الرمزية لصدور القرار عن وزارة الخزانة الأمريكية، لا تقل عن القرار نفسه:
فالخزانة هي حارس النظام المالي العالمي، ولا تُقدم على خطوة كهذه إلا بعد دراسة معمقة. و صدور القرار عنها يعني أن سوريا، لم تعد تُعامل باعتبارها “خطرًا مالياً” مطلقاً، بل دولة قابلة للعودة التدريجية إلى القبول الدولي، فإنه أشبه بشهادة حسن سلوك أولية.
لكن هذه الشهادة مشروطة، فواشنطن، لن تمنح ثقتها مجاناً. لذا المطلوب هو إصلاحات جوهرية، وبناء جهاز مصرفي يلتزم بالمعايير الدولية، تماماً كما حدث مع السودان حين بقي تحت الرقابة لسنوات بعد رفع القيود السياسية.
في الداخل لا تزال التحديات أكبر بكثير من الإنفراجات
شبكات الفساد التي تغلغلت خلال عقود، لم تختفِ مع سقوط النظام، بل قد تحاول التكيّف مع المرحلة الجديدة للحفاظ على نفوذها.
فالمصارف المحلية تعاني ضعف الرسملة، وتفتقر لأنظمة الإمتثال الحديثة التي أصبحت شرطاً أساسياً لأي إندماج مالي.
والبيروقراطية المتجذرة، لا تزال عبئاً ثقيلاً يعوّق أي إصلاح، فضلاً عن الفراغ الإداري الذي خلفته سنوات الهجرة والنزيف البشري.
ومهمة الحكومة الإنتقالية، ليست فقط تنظيف الماضي، بل بناء مؤسسات جديدة تواكب العصر، وتُحصّن نفسها من الفساد والتدخلات الخارجية.
رغم رفع العقوبات، فإن دخول سوريا إلى النظام المالي العالمي، لن يتم بين ليلة و ضحاها، المصارف الدولية لا تزال مترددة، تخشى السمعة السيئة التي ارتبطت بالبلاد لعقد كامل، فالإنضمام الكامل يتطلب إصلاحات شاملة، منها:
تطبيق معايير “بازل”.
تحديث أنظمة مكافحة غسل الأموال
إن إقامة مصرف مركزي مستقل نسبياً يمنح الثقة للشركاء. فالعالم المالي، لا يتعامل بالنيات الحسنة ولا بالخطابات، بل بالأرقام والإلتزام الصارم بالقوانين.
ومن بين الخطوات الرمزية التي أثارت الانتباه، إعلان الحكومة الإنتقالية عن إطلاق عملة وطنية جديدة وحذف صفرين من العملة المتداولة. وللوهلة الأولى يبدو هذا مجرد إجراء تقني، لكنه يحمل دلالات عميقة، فالعملة التي فقدت قيمتها في عهد النظام السابق، لم تكن مجرد ورق مطبوع، بل مرآة لإنهيار الثقة بالدولة.
إن إعادة الإعتبار للعملة الوطنية، تعني إعادة الإعتبار لهيبة الدولة نفسها. وهذه الخطوة قد تسهّل المعاملات اليومية، وتبسط حياة السوق، وقد تبعث رسالة بأن سوريا الجديدة جادة في إصلاح نظامها النقدي.
التجربة العالمية تخبرنا أن تغيير العملة ليس عصاً سحرية
تركيا؛ مثال ناجح، في عام 2005 حذفت ستة أصفار من عملتها، وبعد سنوات من الإصلاح الإقتصادي والسياسات المنضبطة، تحولت الليرة التركية إلى رمز لفترة إستقرار نسبي.
ألمانيا؛ بعد الحرب العالمية الثانية مثال أكثر إلهاماً: حين أطلقت عملة “المارك الألماني الجديد” في العام 1948، ترافق ذلك مع إصلاحات إقتصادية جذرية عُرفت بـ”المعجزة الإقتصادية”، فأعادت ألمانيا الغربية بناء نفسها من تحت الركام.
على العكس من ذلك، نجد تجارب فاشلة مثل زيمبابوي، التي حذفت أصفاراً عدة مرات من عملتها في العقد الأول من الألفية، لكن من دون إصلاح إقتصادي حقيقي، فانتهى الأمر بإنهيار كامل للثقة وباستخدام الدولار الأمريكي بديلاً.
فنزويلا؛ كذلك، جرّبت تغيير العملة أكثر من مرة، من “البوليفار القوي” إلى “البوليفار السيادي”، لكن التضخم المنفلت وغياب الإصلاح جعل هذه الإجراءات مجرد مسرحية شكلية.
وحتى يوغوسلافيا؛ في التسعينيات، جرّبت طباعة عملات جديدة لمواجهة التضخم الجامح، لكن غياب الإستقرار السياسي جعل العملة بلا قيمة حقيقية.
وكذلك فإن التجارب القريبة تذكرنّا بأن الفرص تضيع بسهولة إذا لم تُستثمر مثال:
إيران؛ بعد العام 2015، أهدرت فرصة ثمينة بعد الإتفاق النووي، حين عجزت عن بناء مؤسسات إقتصادية مستقلة وأُعيدت العقوبات عليها.
ليبيا؛ بعد العام 2003، نالت فرصة مشابهة، لكنها غرقت في الفوضى بسبب غياب رؤية إقتصادية واضحة للدولة.
التجربة العراقية تظل المرآة الأقرب
بعد 2003، رُفع الحصار الشامل، وتدفقت مليارات الدولارات من عائدات النفط، لكن العراق، لم يتمكن من بناء دولة مستقرة. ولم يكن السبب رفع العقوبات، بل غياب الإدارة الرشيدة، وتفشي الفساد، والتدخل الإيراني الذي قوّض كل محاولة للإستقلال الوطني.
ما يميز التجارب الناجحة عن الفاشلة، هو وجود إرادة سياسية صلبة تقترن بإصلاح إقتصادي شامل. فلا تكفي الأوراق الجديدة، ولا حذف الأصفار، إن لم تترافق مع محاربة الفساد، وضبط التضخم، وتوسيع قاعدة الإنتاج الوطني. وبالنسبة لسوريا، فإن نجاح مشروع العملة الجديدة مرهون بمدى قدرة الحكومة الإنتقالية على تحقيق هذه الشروط.
وبالنسبة لسوريا، فإن النجاح لا يتوقف على رفع العقوبات وحده، بل على حماية القرار الوطني من الإرتهان للخارج، وعلى منع شبكات الفساد من إبتلاع أي فرصة.
اللحظة السورية الحالية هي نافذة تاريخية
مع رحيل النظام ورفع العقوبات، بات لدى البلاد فرصة لإعادة كتابة مستقبلها الإقتصادي. لكن النافذة لا تبقى مفتوحة إلى الأبد، فيجب أن تتحول إلى جسر عبور من خلال قرارات سريعة وفاعلة، تعيد الثقة للشعب أولاً وللعالم ثانياً .
الخاتمة
لقد سقط نظام الأسد، الذي جلب العقوبات والعزلة، وانتهت معه الذرائع التي كبّلت سوريا لأكثر من عقد. ومع تسلّم حكومة إنتقالية ثورية جديدة، ورفع وزارة الخزانة الأمريكية للعقوبات العامة، دخلت البلاد مرحلة مختلفة تماماً. لكن رفع العقوبات ليس خاتمة المطاف، بل بداية إمتحان عسير. والمطلوب اليوم هو أن تثبت سوريا للعالم أنها قادرة على بناء مؤسسات مالية حديثة، وأن مشروع العملة الجديدة ليس مجرد إجراء شكلي بل مدخل لإصلاح شامل، وأن القرار الوطني محصن من التدخلات الخارجية. و لاحقا سيتبيّن إن كان رفع العقوبات محطة عابرة، أم بداية مسار إندماج كامل يعيد لسوريا مكانتها الطبيعية كفاعل إقتصادي وسياسي في قلب المشرق العربي. وكما أن اللحظة الآن ملك لسوريا وشعبها، والفرصة قائمة، لكن النجاح ليس مضموناً، و إنه إمتحان للإرادة، وإختبار للتاريخ.