موقع “درج”
ماريانا كركوتلي – محققة قانونية سورية
15 ، 03 ، 2024
لماذا يُعتبر الحصار من أسوأ التكتيكات العسكرية ضد المدنيين؟ والى أي مدى يتشابه الحصار الإسرائيلي لغزة مع تكتيكات اعتمدتها أنظمة قمعية ومجموعات مسلّحة في المنطقة؟
يرى حقوقيون أن الحصار من أخبث التكتيكات المستخدمة في الحرب، إذ لا توجـد عمليـة عسكرية تحرم المدنيين بشكل جذري متعمد ومنهجي من الحاجات الكفيلة باستمرار حياتهم مثــل الحصار.
تاريخياً،كانت تكتيكات الحصار مسؤولة عــن بعــض أطــول العمليات العسكرية، وعــن إيقـاع أفظع ما يمكن حصوله مــن معاناة إنسانية خلال الصراعات.
تُستخدم حــرب الحصار حين يعمد الطرف المحاصِر غير القادر على الاستيلاء على المدينة على تطويقها، وحصار أهلها كأسلوب لإجبار الطرف المحاصَـرْ علـى الاستسلام مـن خـال استنزافه.
في سوريا، استخدم النظام السوري في العقد الماضي، سياسة أطلق عليها اسم “الجوع أو الركوع” لفرض الاستسلام على المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة في مناطق مختلفة في سوريا. وأعلن النظام صراحة عن استخدام هذه السياسة من خلال شعارات كُتبت على الجدران وتصريحات رسمية أشارت الى الأمر، كما استُخدم الحصار كشكل من أشكال العقاب الجماعي المفروض على المدنيين والمدنيات في سوريا.
الحصار والتجويع في سوريا
في جنوب دمشق على سبيل المثال، استمر الحصار بين 2012 والـ2018، وكانت الفترة تتضمن فترة حصار جزئي وفترة حصار كلي مفروضة على مناطق مثل: اليرموك، القدم، بيت سحم، يلدا، ببيلا و الحجر الأسود.
خلال فترة الحصار وفرض التجويع، لم تكن المواد الغذائية متوافرة، وعمد النظام السوري إلى قطع إمدادات الطاقة الكهربائية الرئيسية عن المنطقة، ما تسبب بآثار كارثية مباشرة على عمل المرافق الصحية القليلة في المنطقة، والتي كانت مهمة جداً، خاصة في ظل ارتفاع عدد ضحايا قناصة النظام والقصف والاستنزاف عن طريق حرب التجويع.
حينها، لم يكن كل السكان قادرين على شراء مولدات للطاقة، وبالتالي أُجبر البعض على استخدام الحطب للحصول على التدفئة وطهي الطعام أو حتى حرق البلاستيك والأحذية والملابس، والتي كان لها أثر مزمن على الجهاز التنفسي عند البعض. وإضافة الى قطع الكهرباء، استُهدفت منشآت صحية ومخابز عبر قصف النظام المباشر لها، وبهذا قُطعت شرايين الحياة عن المنطقة.
في منطقة مثل مخيم اليرموك، حيث يتألف غالباً من أحياء سكنية وتندر فيها المناطق الزراعية، أدى الحصار الى وفاة الكثير من المدنيين والمدنيات بسبب استخدام التجويع كسلاح حرب، وصنّفته منظمة siege watch بالمستوى الأعلى والأشد من الحصار، إذ لم يكن بالإمكان إدخال أي مواد غذائية سوى ما ندر منها، واعتُبر السكان في هذا المستوى معرضين بشدة لخطر سوء التغذية والجفاف والحرمان من الرعاية الصحية.
قصور القانون الدولي
بالاطلاع على القوانين الدولية، نجد أن القانون الدولي الإنساني لا يحظر حـرب الحصار بشـكل كامل، إلا أنـه يفرض علـى الطـرف المسؤول عن الحصار في نزاع ما، أن يتصرف بما يتوافق مــع جميع القوانين الدولية العرفية ذات الصلة، وقانون المعاهدات الذي ينطبق علــى النزاعات المسلحة غيــر الدوليــة، بما في ذلك المبادئ الأساسية، التناسب والتمييز والاحتياط.
يحظر القانون الدولي التجويع المُتعمد للسكان المدنيين ويحظر استخدامه كأسلوب للعقاب الجماعي. ويُعرّف التجويع بأنه “المــوت بســبب الجــوع أو الحرمان مــن الغـذاء، فضلاً عـن الحرمـان أو عـدم كفايـة الاحتياجات مـن بعـض السـلع التـي لا غنـى عنهـا للبقــاء علــى قيــد الحيــاة. وبهذا المعنــى، يمكن أن يشمل تعريف التجويع مجموعــة مــن الأمــراض الناجمة عـن نقص الغـذاء والـدواء أو غيرهـا مـن الأعيـان التـي لا غنى عنها لبقاء المدنيين علـى قيـد الحياة، من دون أن تــؤدي بالضرورة إلى الموت”.
محكمة الجنايات الدولية أعلنـت أنـه بموجب القانون الجنائي الدولي، فـإن التجويع المتعمد للمدنيين في النزاعات المسلحة الدولية جريمة حرب؛ وذلك فــي كانون الأول/ ديسمبر 2019، بعد تعديل نظام روما الأساسي ليشمل جريمة التجويع.
هذا يعني أنه لا يندرج تحت هـذا النظام التجويع المتعمد إذا حصل قبـل ذلـك، ولكن في حالة الحصار الإسرائيلي التجويعي لغزة حالياً، وبما أن الجُرم وقع بعد الـ2019، فيجب أن يكون مشمولاً.
مراحل الحصار والتجويع
حصار المناطق السورية المذكورة أعلاه تم بشكل تدريجي، إذ شن النظام السوري بداية غارات جوية على أهداف مدنية متعددة، ومن ثم عمد الى تشديد السيطرة على الحواجز المُحيطة بالمنطقة.
في البداية، سمح النظام بإدخال كمية محدودة من المواد الغذائية والإمدادات الأخرى عبر الحواجز، لا تكفي لتلبية حاجة السكان. في المرحلة النهائية وهي مرحلة الحصار المطبق على المنطقة، منع النظام الوصول الى هذه المناطق بشكل تام.
خلال فترة الحصار، وحين بدأ السكان، بسبب التجويع الممارس عليهم، محاولة المغادرة عن طريق الحواجز إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، ارتُكبت جرائم عدة بحقهم على هذه الحواجز، في امتداد لسياسة العقاب الجماعيّ.
استراتيجيات الحصار نفسها نراها مطبّقة في سياقات أخرى في غزة بفلسطين وفي ماريبول بأوكرانيا وفي جنوب السودان وفي اليمن. وللأسف، حتى اليوم لم يُفتح ملف استخدام الحصار وتجويع المدنيين كسلاح حرب ضمن أي من الآليات القانونية الدولية، وذلك لصعوبة الوصول الى إثباتات مرتبطة بوفاة السكان آنذاك كنتيجة مباشرة لاستخدام هذا السلاح، وصعوبة إثبات النية الجرمية في المحاكمات الجنائية.
ومع كل يوم لا يُفتح فيه هذا الملف قانونياً، سيتكرر الجرم مرة ثانية وثالثة والجناة سيفلتون من الحساب، وستستمر إدارة الحروب على حساب حياة المدنيين وتجويعهم.