سعيد يقطين
القدس العربي
الأربعاء , 23 أكتوبر , 2024
تفرز الحوادث الكبرى في التاريخ ثلاثة خطابات ـ مواقف. الأول يتخذ منها موقفا سلبيا لأنه يراها تتعارض مع مسبقاته الجاهزة. والثاني يتحمس لها من دون وعي أو بعاطفة متوترة. أما الثالث فكأنه لا يحس بها، أو هي غير موجودة. شددت على هذه الخطابات لأنها هي السائدة. أما التي أعتبرها جديرة بأن تكون في مستوى الحدث الأكبر، فهي التي تقرؤه في ضوء الصيرورة، وما يقع هنا والآن، وتستبصر مآلاته وآفاقه، فتدعو إلى الملاءمة الواقعية مع التغيرات بتصور جديد، ورؤية بعيدة المدى. وهذا الخطاب ـ الموقف يبدو لي بعيد المنال لأسباب متعددة. بدأت الحرب على غزة تدخل مرحلة جديدة في صيرورتها، وقد عرفتْ منذ بداياتها إلى الآن تداعيات وتفاعلات لعل أهمها في رأيي، وكنت أتمنى، لو كان ذلك منذ البداية، يكمن في تحول تدخل حزب الله من جبهة إسناد إلى مواجهة. وبذلك صارت الحرب على غزة والضفة هي الحرب نفسها على لبنان، بالهمجية نفسها، تجسيدا للجموح الصهيوني في توسيع دائرة الحرب، انطلاقا من اعتباره إياها حربا ضد «محور الشر» المختزل في إيران. وما عمله على إدراج سوريا في مخططه التدميري، سوى تجسيد للحلم الذي ظل يراود اليمين المتطرف، ويخطط له منذ أزمان.
وضع طوفان الأقصى العرب والمسلمين أمام موقفين ـ خطابين متناقضين: من يساندها ويدعمها، ومن يعتبرها أعطت المبررات لقيام إسرائيل بحربها التدميرية ضد غزة، فأدانها واستنكر فعلها. تباينت المواقف والخطابات منذ بداية الحرب إلى حين استشهاد السنوار: هناك من يقف ضد حماس، ويعتبرها المسؤولة عن كل ما يجري، ومن هو ضد حزب الله والحوثيين والميليشيات السورية والعراقية وإيران، ومن هو مع حماس وحزب الله، وضد إيران وأذرعها، هذا من جهة. ومن جهة أخرى نجد إسرائيل وأمريكا والغرب بكامله كان له موقف واحد موحد ضد «إرهاب حماس»، وكل ما يتصل بإيران، من جهة أخرى. فما الذي جعل الخطاب اليهودي ـ المسيحي موحدا ومتناغما، والخطاب العربي ـ الإسلامي متعددا ومتناقضا؟ فهل هي أزمة خطاب؟ أم تحليل خطاب؟ أم أنها مركبة للتعبير عن تهافت خطاب تقليدي يسرد خارج العصر؟
يمكن أن تتعدد وجهات النظر في تفسير هذه المواقف والخطابات، لكن القراءة السردية المؤسسة على محاولة فهم أي سردية تنطلق من الملاءمة في التحليل بلا مسبقات ولا مواقف جاهزة. إنها تسعى إلى النظر في الطبيعة قبل الوظيفة، معتبرة الزمن والرؤية وأبعاد كل منهما. جوابا على السؤال عن الخطاب الموحد المتناغم، نرى من حيث الزمن أنه ينطلق من أن بداية الحدث هي فقط السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ليؤسس عليها مجموع الأحداث الممارسة في الحاضر لتسويغ الإبادة من أجل مستقبل «إسرائيل الكبرى». أما من حيث الرؤية فتتمثل من خلال خلفية تنبني على ذهنية عصرية براغماتية يوحدها أصل يهودي ـ مسيحي ولا ترى إلا ما يضمن مصلحتها الدائمة في كل منطقة الشرق الأوسط. وما الحديث عن الإرهاب، وقتل المدنيين الذي تروج له الصهيونية وأمريكا، وكل الإعلام الغربي، وسكوت «المجتمع الدولي» عن الإبادة في غزة ولبنان، سوى دليل على ذلك. قد تطفو أحيانا بعض الاختلافات داخل إسرائيل، ومع أمريكا أو مع فرنسا، لكنها «مناوشات» العشاق التي لا تفسد للود قضية.
لكننا عندما ننظر في الخطاب الآخر لا نجد له تصورا للزمن، ولا رؤية له لما يمكن أن يقع تاريخيا. إنه ينطلق من ذهنية تقليدية ودوغمائية وغير تاريخية لطبيعة الصراع على مستوى الزمن. فمن يعتبر الطوفان بداية، حتى من بعض الفلسطينيين، يستنسخ الخطاب الصهيوني، ولكن بلا تفكير، أو تقديم بديل للحاضر أو المستقبل. وفي غياب هذا التفكير تفقد الرؤية أي معنى، عكس ما رأينا مع الخطاب السابق. ولا يؤدي هذا الغياب سوى إلى التفرج وانتظار تحقق دعوى السردية الصهيونية ضد من بدأ الحرب، وجر الدمار والإبادة إلى غزة ولبنان، والمنطقة.
لو وقف الأمر عند هذا الحد لاعتبرنا هذا التصور جزءا من «المجتمع الدولي»، وقد نفض يديه من قضية كانت عربية وإسلامية، ولا مندوحة له من الانصياع، بسبب العجز والخوف، عن الخروج عن الإرادة الأمريكية وتهديداتها. لكن ما نراه على هامش ما يجري من إبادة وتدمير وتهجير وتقتيل، على مستوى الخطاب، يدفعنا إلى التشديد على خاصية التخبط والتهافت الذي يطبعه. ولَّد الحدث القوي خطابات لا تاريخية ولا واقعية. وهنا مكمن التناقضات والصراعات التي لا ترقى إلى ما يفرضه الواقع. لقد انطلقت الخطابات المتنافرة ليس من خلال وضعه في سياق تاريخي وواقعي للصراع، لقد حولته الرؤية التقليدية إلى زمن آخر، فإذا هو صراع عرقي، وطائفي (عرب ـ غير عرب)، وديني، ومذهبي (شيعة ـ سنة)، وصار الكل يستحضر روزنامة معتقداته ومسبقاته لا للتفكير في تداعيات الحدث وآثاره على المنطقة بكاملها، هنا والآن، ولكن لتوسيع الفجوة والتناقض بين مختلف مكوناتها التي يسعى الآخر إلى إبادتها، بغض النظر عن عرقها أو دينها، وهو يعبر عن ذلك بخطاب موحّد ومنسجم، لا لبس فيه ولا غموض.
تكمن لا واقعية هذه الخطابات ولا تاريخيتها وتهافتها، في كونها تعتمد التاريخ لقراءة الواقع. تحدث أخطاء في التاريخ. فهل يمكن أن يصلحها الواقع الحالي؟ إن الهروب من الواقع إلى التاريخ تأويل العاجز عن صناعة المستقبل.