الحلقة الثامنة
الفصل الثاني: الشيخ عبد الحميد بن باديس وجوهر الإصلاح الديني ـ 1
أولا – الرجل:
ولد عبد الحميد بن باديس في كانون الأول من عام ۱۸۸۹ ميلادي في مدينة “قسنطينة” * إحدى أهم المدن الجزائرية، لعائلة عريقة النسب والثراء، تمتد جذورها إلى الأسرة “الصنهاجية” المالكة، وهي من أعرق الأسر الامازيغية -القبائلية (1). والده محمد مصطفى بن باديس عضو المجلس الجزائري، وهو هيئة إدارية عليا أنشأتها السلطات الفرنسية المستعمرة لمساعدتها في إدارة شؤون البلاد، وجده مكي بن باديس كان قد حصل على وسام من يد الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث عام ١٨٦٤ نظرا لخدماته الكبيرة (2)، لكن أسرة ابن باديس رغم غناها، وتعاونها مع السلطات الفرنسية، إلا أنها كانت أسرة متدينة وتشجع العلم.
كان عبد الحميد منذ صغره متميزا عن أقرانه من أبناء الأثرياء، الذين يميلون إلى الترف ويخلدون للراحة والدعة، ووجد من والده، ومن فطرته المتحفزة للعلو المعرضة عن سفاسف الشباب اللاهي، باعثا على الرغبة في حفظ القرآن الكريم، واغتراف ما أخذه من معلومات دينية عن بعض فقهاء قسنطينة.
أتم ابن باديس حفظ القرآن في السنة الثالثة عشر من عمره، وأخذ مبادئ العربية ومبادئ الإسلام عن الشيخ حمدان الوينسي(3)، الذي أخذ عليه عهدا ألا يعمل موظفا في الحكومة، حتى يتفرغ لخدمة دينه وأمته بعيدا عن كل تأثير خارجي قد يفسد عليه حكمه، أو يبعده عن غايته، فيميل به عن جانب الحق، ونفذ عبد الحميد هذا العهد وطبقه – فيما بعد – مع من كان يتوسم فيه الخير من تلاميذه (4).
تطلع عبد الحميد إلى مزيد من المعرفة حيث لم تعد “قسنطينة” قادرة على منحه إياها، فشد رحاله إلى جامعة “الزيتونة” في تونس، وتلقى الدروس على أيدي مشاهير مشايخها، وحصل على شهادة التطويع، وأتم دراسته سنة ١٩٠٨م.
إلا أن الشرق كان يجذبه، فشد الرحال إليه سنة ۱۹۱۲م بقصد زيارة الأماكن المقدسة وتأدية فريضة الحج، وهناك التقى علماء الأزهر فأجيز بالعالمية – وهي شهادة عليا – من طرف الشيخ بخيت مطيعي، وفي الحجاز التقى بالشيخ بشير الإبراهيمي، والشيخ الطيب العقبي، وهذان العالمان الجزائريان كانا يدرسان في الشرق، الأول في سورية، والثاني في المدينة المنورة، واجتمع الشيخ عبد الحميد بهما وتدارس معهما ما آلت إليه البلاد الجزائرية من سوء الحالة في معنوياتها واعتقاداتها، وتذاكروا بالمسؤولية المفروضة على العارفين أمثالهم، وتعاهد الجميع على بناء خطة لإنقاذ الجزائر من هذا الكابوس المحضر لها، وعلى بث الروح الإسلامية في أوساطها (5). وعن تلك اللقاءات يتحدث الشيخ البشير الإبراهيمي قائلا: “أشهد على أن تلك الليالي من عام ۱۹۱۳ ميلادية هي التي وضِعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز إلى الوجود إلا في عام ١٩٣١. (6)
عاد الشيخ عبد الحميد إلى الجزائر، وكان الجامع الأخضر بـ “قسنطينة” ميدانه، وكانت أجواء هذا المسجد المبارك تتجاوب بنغمات الشيخ ابن باديس وهو قابع في حلقات التدريس، وتظل تحمل صوته إلى طلابه ساعات وساعات قد تبلغ الست يوميا أو تزيد، وأحاط به مجموعة من تلاميذه، فكوَّنَ منهم مجموعة صالحة، وإلى جانب تدريس الطلبة كان يقضي شطرا من ليله في وعظ وإرشاد العامة يفسر لهم القرآن الكريم، والحديث الشريف، ويبث في نفوسهم روح السلف الصالح.
تأثر الشيخ عبد الحميد بالفكر الإصلاحي الديني القادم من الشرق خلال دراسته في تونس، وتعمق هذا التوجه لديه في بلاد الحجاز، حين اتصل بالحركة الوهابية، وبالمصلحين الشرقيين، أمثال محمد عبده، ورشيد رضا، وشكيب أرسلان، لم يلبث ابن باديس أن شعر بعد تفرغه للتدريس – تحقيقا لحلمه ـ بأن حلقات الدرس في الجامع الأخضر لا تكفي لتحقيق ما يطمح إليه من تغيير، وما يصبو إليه من تجديد (7) ، فأصدر صحيفة “المنتقد” عام ۱۹۲٥، وعندما أمرت السلطات الفرنسية بإغلاقها أصدر صحيفة جديدة باسم “الشهاب”. وساهم بتأسيس نادي الترقي في العاصمة الجزائرية، الذي أصبح مركزا لتدعيم الثقافة العربية والدين الإسلامي، وكتب مقالات في مجلة “بلاد العرب” التي كان يصدرها الأمير شكيب أرسلان.
في سنة ۱۹۳۰ دعا لتشكيل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كتجاوب عملي مع المناخ الشعبي السائد، إثر الاحتفالات الصاخبة التي أقامها المستعمرون في الذكرى المئوية لاحتلال البلاد الجزائرية، تلك الاحتفالات التي فجرت مخزون المقاومة الشعبية في أعماق الشعب الجزائري المسلم، والذي رأى فيها سحقا لكرامته وعقيدته وقيمه.
وفي العام ١٩٣١ تأسست الجمعية بشكل رسمي، وانتخب الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيسا لها، وقاد من خلالها معركته المتصاعدة من أجل عروبة الجزائر، ومن أجل النهوض الديني والثقافي لشعب الجزائر العربي المسلم، وحارب بجلادة التبشير والفرنسية، فاضْطُهِدَ وشُرِّدَ واعْتُقِلَ، ودُفِعَ إليه بمأجورين لقتله، لكنه لم تَهِنْ عزيمته، وإنما كان يخرج أصلب عودا مع كل معركة، واستمر في كفاحه إلى ان انتقل الى جوار ربه عام ١٩٤٠م عن عمر ناهز الخمسين سنة، واستمرت من بعده مسيرة الإصلاح والدعوة، وبقيت أرجاء الجزائر ومعها أنحاء المشرق تردد قصيدته التي جاء فيها (8) :
شعب الجزائر مسلم والى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله او قال مات فقد كذب
هذا نظام حياتنا بالنور خُط وباللهب
هذا لكم عهدي به حتى أوسد في الترب
فإذا هلكنا فصيحتي تحيا الجزائر والعرب
ثانيا: الحركة والتنظيم
من المفيد جدا أن نلقي الضوء على جمعية العلماء المسلمين التي أسسها وترأسها الشيخ عبد الحميد، لأن هذه الجمعية كانت الوعاء الذي احتوى قسما كبيرا من نشاطه وحركته، في العقد الأخير من حياته، وكانت التعبير الدقيق عن الممارسة المنظمة للأفكار التي اعتنقها في صراعها على أرض الواقع.
“الجمعية / المنظمة” لم تكن مجرد استمرار لابن باديس الرجل، وإنما هي أيضا الشكل الأرقى والمنظم لصراع شعبي إسلامي إصلاحي عربي بدأ منذ فترة ليست بالقصيرة فوق أرض الجزائر، فهي امتداد ووليد شرعي “لنادي الترقي”، وللجامعة الإسلامية والحركة السلفية الإصلاحية، لذا كان لزاما علينا أن نبدأ من البدايات الأولى في حركة تصاعدها عبر الإرهاصات المتوالية وصولا إلى شكلها الأرقى المتمثل في “جمعية العلماء المسلمين”.
يقول د. محمد عمارة في كتابه العرب يستيقظون:” في مواجهة الحرب الصليبية المعلنة، وغير المعلنة، ضد مقومات حياة العرب في الشمال الإفريقي، نشأت حركة المقاومة التي عرفت بالحركة السلفية” (9).
والحرب الصليبية التي تحدث عنها الدكتور عمارة هي تلك الفصول من الحرب التي بدأت مع استعمار فرنسا للجزائر عام /١٨٣٠/ م، ونطلق عليها تسمية حرب صليبية – رغم أن فرنسا كدولة مُسْتَعْمِرَة كانت قد تخلت عن الصفة الدينية لسلطتها السياسية، وتبنت مفاهيم العلمانية، وعلى رأسها عزل الدين عن الدولة – نظرا لكون فرنسا العلمانية تلك مارست في مستعمراتها سياسة صليبية مكشوفة حین ترافقت جيوشها مع الحملات التبشيرية رافعة راية الصليب المنكسة في بلد المنشأ “فرنسة”.
كان هدف المستعمرين العلمانيين مطابقا تماما لأهداف المستعمرين الصليبيين “المبشرين”، هدف غايته الأساسية طمس هوية الجزائر، وإلغاء وجودها المتميز، ليس ككيان فحسب، وإنما الأهم من ذلك إلغاء وجودها كشعب، ولعل ظلال حروب الأندلس كانت لا تزال مرتسمة في أذهان المستعمرين الجدد.
في المقابل كانت حركة المقاومة الوطنية التي انطلقت من الزوايا والطرق الدينية، وهي مقاومة سلبية في معظم الأحيان، قد مكنت من خلق جدار نفسي صلب في مواجهة الطارئ الخارجي، لكن ومع استمرار الضغط الخارجي، وفشل الانتفاضات الثورية، أخذت مؤسسات تلك المقاومة السلبية تفرز ذاتها ضمن اتجاهين وتعمق توجهاتها فيهما:
الأول: تمثل بتعميق حال التخلف والتراجع وانتشار البدع والشعوذة وصنميات المزارات
الثاني: تمثل بالاقتراب من السلطة، وظهور طبقة تجار الدين، الذين تهافتوا على المناصب الرسمية الشرعية، وعلى الألقاب التي تمنح من تلك السلطات.
أمام تلك الحالة، كان لا بد للمقاومة من أن تفرز ذاتها بصيغ ومفاهيم جديدة، عمادها الدعوة “للرجوع إلى منابع الإسلام الأولى، وأصول تعاليمه الأولى، والتي تلفظ الدجل والشعوذة وتجار الدين الذين باعوا مقومات حياتهم وحضارتهم في سبيل المنصب (المفتي والإمام) … كما استهدفت الحركة السلفية هذه إحياء التراث العربي والحفاظ على اللغة العربية”(10).
وكانت انطلاقة تلك الحركة السلفية من تونس، المتصلة بقوة مع حركة التجديد والإصلاح الديني، المنبعثة من المشرق على أيدي الشيخ جمال الدين الأفغاني وتلامذته، عبد الرحمن الكواكبي في سورية، ومحمد عبده في مصر، ومتأثرة أيضا بالحركة الوهابية في بلاد الحجاز.
كان الشيخ الطيب العقيبي أحد رواد تلك الحركة السلفية المتأثرين بحركة محمد بن عبد الوهاب بقوة، فأنشأ بعد رجوعه من الحجاز حركة إصلاحية دينية لمقاومة الخرافات، أولا في مسقط رأسه “سيدي عقبة”، ثم انتقل بها إلى الجزائر العاصمة، وأصدر جريدة “الإصلاح” كمنبر يدعو فيه لأفكاره (11).
أما الشيخ ابن باديس ـ العائد من الحجاز أيضا ـ فقد جعل من منبر الجامع الأخضر منطلقا لدعوته، وأصدر جريدة “المنتقد” ليخرج بها من نطاق التلاميذ والمريدين إلى رحاب الجزائر كلها. وعندما أُغلقت بعد صدور ثمانية عشر عددا فقط، أصدر شقيقتها “الشهاب”، وكان يتحين الفرصة للقيام بعمل أكبر وأرقى من حركته الفردية.
في عام ١٩٢٦ تأسس نادي الترقي في العاصمة الجزائرية، وضم النادي نخبة علماء الجزائر ومثقفيها، وسعى هؤلاء لمنع تمادي السلطات الفرنسية بالتدخل في كل أمور الدين، ومحاولة السيطرة على الشؤون الدينية كافة، وجعلوا ناديهم مركزا للثقافة العربية والدين الإسلامي (12).
صحيح أن نادي الترقي لم يكن يضم مجموعة متجانسة من رجال العلم وثقافة، إلا أن دور المصلحين كان بارزا في أروقة هذا النادي.
وعن تلك المرحلة يتحدث الأستاذ أحمد توفيق المدني “كنا نسير بالنادي ـ رغم القوانين الصارمة – في طريق الدعوة المِلِّيَّةَ الوطنية من جهة، وفي طريق الدعوة الإسلامية والعروبة الشاملة من جهة أخرى”. وقاوم النادي نزعات الاندماج، كما قاوم طلب الجنسية الفرنسية .(13)
وفي أروقة النادي وكواليسه أخذت تنضج الفكرة التي تناقش حولها ان بأديس وإخوانه عندما كانوا في أرض الحجاز، فكرة تشكيل جمعية العلماء المسلمين المصلحين، كان كل شيء جاهزا عند هؤلاء الرجال، لكنه ينتظر فقط التوقيت المناسب.
في عام ١٩٣٠ هاج المستوطنون الأوروبيون، وسكروا في الشوارع فرحا ونشوة، في الذكرى المئوية لاحتلال الجزائر التي أخذ يطلق عليها تسمية “جنوب فرنسا” و “الجزائر الفرنسية”، مما ولد إحساسا عميقا بالنقمة لدى عموم الجزائريين.
في هذه الأجواء وفي ظل تصاعد حملة التجنيس والتنصير، ومحاولة محو الهوية الوطنية والشخصية الإسلامية، أعلن الشيخ عبد الحميد وكوكبة من زملائه، على رأسهم البشير الإبراهيمي، والطيب العقيبي، واحمد توفيق المدني، وعشرات غيرهم، عن تشكيل جمعية للعلماء المسلمين الجزائريين.
وفي عام ۱۹۳۱ تألفت هذه الجمعية، وأخذت ترخيصا رسميا بذلك، وقد حاولت الجمعية أن تتجنب الصدام المبكر مع الإدارة، فنصت في قانونها الأساسي على عدم الاشتغال في السياسة، وصبت جهودها أول الأمر على برامج شبيهة ببرامج السلفية الهادفة إلى تنقية الدين من البدع والخرفات (14).
وطرحت الجمعية برنامجها الذي يتلخص بـ “حرية إقامة شعائر الدين الاسلامي وجعل اللغة العربية رسمية وتعليم الجزائريين العربية والفرنسية – بعد أن كانت مقتصرة على الفرنسية – وحرية الحج إلى مكة”، وأطلقت شعارا يختصر جميع تطلعاتها “الجزائر وطننا ـ الإسلام دينا – العربية لغتنا” (15)
وتحت هذا الشعار، وخلف هذا البرنامج، فُتِحَتْ المئات من المدارس العربية، وانتشرت فروع الجمعية على طول البلاد وعرضها، وسخرت منابر المساجد، وأوراق الصحف لدعائها، ليشنوا حربا لا هوادة فيها ضد قلاع التخلف، والمراكز الطريقية، وضد البدع والجهالات، ودخلت أتون حرب سياسية ضد الدمج والتجنيس والتنصير، رغم أن غايتها الظاهرية كانت العمل على الإصلاح الديني …. والدفاع عن حقوق المسلمين المهضومة. (16)
واستطاعت الجمعية أن تؤدي دورا بالغ الأهمية في مقاومة الاستعمار الفرنسي، وفي تدعيم البنية التحتية لمقاومة صلبة متينة حين اعتمدت العلم مدخلا للتحرر، حيث يقول الأستاذ الفضيل الورتلاني أحد قادة الجمعية المتأخرين” … مبدأ الجمعية هو العلم، والغاية هي تحرير الشعب الجزائري، والتحرير في نظرها قسمان: تحرير العقول والأرواح، وتحرير الأبدان والأوطان، والأول أصل للثاني، فإذا لم تتحرر العقول والأرواح من الأوهام في الدين وفي الدنيا وفي الحياة، كان تحرير الأبدان من العبودية والأوطان من الاحتلال متعذرا أو متعسرا، حتى إذا تم منه شيء اليوم ضاع غدا، لأنه بناء على غير أساس”. (17)
ثالثا: جوهر الدعوة الإسلامي
إن جوهر الدعوة عند الشيخ ابن باديس تتمثل بتنقية الدين الاسلامي من الشوائب التي علقت به، والعودة به إلى ينبوعه الأصلي الذي أتى به الله عزَّوجل، وأنزله على نبينا f ، فطبقه ومارسه السلف الصالح من بعده، إنه دين المساواة والعدل والإحسان، دين العقل الذي يدعو إلى بناء الحياة كلها على التفكير، وينشر دعوته بالحجة والإقناع، والتوحيد أساس الدين. (18)
التوحيد في الإسلام هو جوهر الدين، والتوحيد هو الإيمان بالله وحده لا شريك له، وخلوص العبودية له، ويدخل في الشرك ـ الذي هو عكس التوحيد ـ كل التصرفات والقناعات والممارسات التي تنصب على أن هناك من يشترك مع الخالق في بعض صفاته وأعماله، من القدرة على النفع أو الضرر.
والتوحيد يحرر الإنسان من عبودية أخيه الإنسان، ويحرر عقله وذهنه وفكره، فيدفعه للتقدم والتطور، أما الشرك وعبودية غير الله، فهي تدفع نحو التخلف والتحجر، لأنها تقوم على قمع العقل عن تأدية واجباته في التفكير.
إن العمل الصالح المبني على التوحيد، وحده النجاة والسعادة، أما التماس السعادة في العيش بالأوهام، والاستسلام للأحلام، فهي ضلالة وشقاوة، وإن مصادر التشريع الإسلامي هي القرآن والسنة الصحيحة وسلوك السلف الصالح من صحابة وتابعين وأتباع التابعين. (19)
أما ما تدعو إليه الدعوات الطريقية، من تقديس للمشايخ، وبناء القباب على قبورهم، والاستغاثة بهم، واعتقاد الشفاعة بواسطتهم، فهي بدع، لم يدع لها الرسول محمد ﷺ أو أصحابه، بدع ضالة، وعملية استغلال للدين، وتشويه لمقاصده، وتجميد لعقول المسلمين، وإماتة لهممهم.
فسيدنا محمد ﷺ هو الذي أخبر فاطمة ابنته وأحب الناس إلى قلبه، أنه لا يشفع لها عند الله كونها ابنة محمد ﷺ، لا يشفع لها سوى عملها وحده، فهل هؤلاء يعتقدون أنهم يملكون غير ما ملكه سيدنا محمد ﷺ. ووضع ابن باديس مقياسين يقيس عليهما حركة التجديد:
الاول: مقياس للتجديد في الدين … حيث إن كل ما أحدث على أنه عبادة وقربة ولم يثبت عن النبي فعله فهو بدعة وضلالة (20)، وكل ضلالة تؤدي بمُتَّبِعِها إلى النار.
الثاني: مقياس للتجديد في الحياة… حيث إن الإسلام يجيز كل ما فيه مصلحة، والمصلحة هي كل ما اقتضته حاجة الناس في أمر دينهم، ونظام معيشتهم، وضبط شؤونهم، وتقدم عمرانهم، مما تقره أصول الشريعة. (20)
من خلال هذين المقياسين سقط معه كل أصحاب الطرائق وتجار الدين، وسقط معه كل ما يدعون إليه على مستوى ما يقولون له دين ودنيا. فشفاعة المشايخ مرفوضة، والتزهد في الدنيا مرفوض، والانشغال عن السعي في الدنيا غير مقبول، وبناء القباب، وتزيين المساجد، وعدم إشغال العقل في العبادة، وفي شؤون الدنيا، خروج عن سنة النبي محمد ﷺ .
كذلك عدم التجديد بما فيه مصلحة العباد من أمور الدنيا، وشؤون معيشتهم، وعدم مواكبة تطورات العلوم، هي أيضا ضلالة. والمذهبية هي أيضا بدعة وضلالة، فالدين واحد هو الذي أنزل على سيدنا محمد ﷺ ، أما الصراعات المذهبية، فهذا خروج عن غاية الإسلام ووضع لاجتهادات الرجال فوق أصل الشرع.
ومن أجل المصلحة العامة، “يجب تناسي كل خلاف يفرق وحدة الكلمة، ويصدع الوحدة، ويوجد لله ثغرة، ويتحتم التآزر والتكاتف، حتى تفرج الأزمة وتزول الشدة” (22).
هذا هو الإسلام الذي يدعو إليه الشيخ ابن باديس، إسلام يتحرر به العقل ويتسلح بالعلم، ومن هنا كانت دعوته للعلم وللتعليم، حيث رأى في التربية والتعليم أصل الإصلاح، وتعليم الدين يحتاج إلى التفقه بلغة الدين ولسانه. “لن يصلح الدينَ المسلمون حتى يصلح علماؤهم، ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم، ولن يصلح التعليم إلا إذا رجعنا الى التعليم النبوي” (23)، وسنمضي بعون الله في تعليم ديننا ولغتنا رغم كل ما يصيبنا. (24)
إذن الدين عند الله هو الإسلام، وجوهر الإسلام التوحيد، وجوهر الإصلاح هو التعليم، والعربية هي لغة القرآن، والعرب هم القوم الذين حملوا رسالته.
يتبع الحلقة / 9
الهوامش:
* قسنطينة هي مدينة جزائرية وثالث أكبر مدنها بعد كل من الجزائر العاصمة ووهران، تسمى مدينة الجسور المعلقة وهي عاصمة الشرق الجزائري، وتعتبر من كبريات مدن الجزائر تعدادًا، يطلق عليها عدة تسميات منها «مدينة الصخر العتيق» نسبة للصخر المبني فوقه المدينة و”سيرتا” اسمها النوميدي، أم الحواضر باعتبار أن قسنطينة من أقدم المدن في العالم وتعاقبت عليها عدة حضارات، تتميز المدينة القديمة بكونها مبنية على صخرة من الكلس الصلب، مما أعطاها منظرًا فريدًا. [ويكيبيديا]
1 ـ محمد الميلي ـ عروبة الجزائر ص ٧
2ـ الميلي المرجع السابق، ص ٩
3 ـ الميلي المرجع السابق، ص ١١
4 ـ محمد قاسم الإمام ـ عبد الحميد الزعيم الروحي ـ ص 16
5 ـ زار مصر في طريقه للحجاز والتقى بعلماء الأزهر فيها. مجموعة مؤلفين ـ ابن باديس في ذكراه الخامسة عشرة، عن جمعية الطلبة الجزائريين ص ٨
6 ـ د. أسعد السحمراني: الاستبداد والاستعمار ص ۹۲
7 ـ الميلي ـ المرجع السابق ـ ص12
8 ـ عبد الحميد بن باديس ـ الآثار الكاملة ـ ج4 ـ ص 334 ـ 335
9 ـ محمد عمارة ـ العرب يستيقظون ج ٢ ص ١٤٧
10 ـ محمد عمارة ـ المرجع السابق، ص ٢٥١
11 ـ محمد البجاوي ـ حقائق عن الثورة الجزائرية ص ١٤.
12 ـ زاهية قدورة ـ تاريخ العرب الحديث ص ٥١٢
13 ـ أحمد توفيق المدني ـ هذه هي الجزائر ص ١٦٥
14 ـ زاهية قدورة ـ المرجع السابق ـ ص 513
15 ـ محمد البجاوي ـ المرجع السابق ـ ص ١٥
16 ـ احسان حقي ـ الجزائر عربية ـ ص ٢٣٣
17 ـ فيصل الورتلاني ـ الجزائر الثائرة ـ ص ۲۰۰-۲۰۱
18 ـ عبد الحميد بن باديس ـ الأثار الكاملة ج ٣ ص ۱۳۱
19 ـ المرجع السابق ـ ص 132
20 ـ المرجع السابق ص ۱۳2
21 ـ المرجع السابق ص ١٣2
22ـ المرجع السابق ج ٣ ص 134
23 ـ الآثار الكاملة، ج 2 ص217
24 ـ م . س . ج4 ـ ص21