“جون_بيركنز” – إندونيسيا
عرض ومناقشة: مصطفى عبد الرازق
“سوهارتو” يستثمر أمواله في الخارج ويغرق بلاده بالديون لصالح أميركا
يلقي المؤلف الضوء هنا على جوانب من خبرته في إندونيسيا في مجال التخريب الاقتصادي، مشيرا إلى أن التلاعب الأميركي هناك مر عبر الرئيس الإندونيسي الأسبق “سوهارتو”، الذي أغرق بلاده في الديون لصالح الشركات الأميركية بينما كان يستثمر أمواله الخاصة خارج إندونيسيا، وأن رجل الشارع الإندونيسي لم يستفد شيئا مما يشار إليه على أنه معجزة اقتصادية، بل دفع ثمنا باهظا لها، ويتطرق إلى الدور الأميركي في تيمور الشرقية، الذي قادته على الدوام الأطماع الأميركية في نهب الموارد الطبيعية الموجودة فيها.
في سياق استعراضه لأنشطته التي هدفت إلى تطويع موارد وإرادة العالم الثالث لصالح خدمة الأهداف الأميركية يشير المؤلف إلى أن ضحيته الأولى كانت إندونيسيا، وعلى ما يذكر فإن ذلك جاء على خلفية مجموعة التطورات السياسية التي جرت في الستينات، والتي في نهايتها أصبح من المعروف أن إندونيسيا تتمتع بثروة نفطية هائلة. غير أن ذلك لم يكن هو السبب الرئيسي وإنما جاء في إطار توافق السياسي مع الاقتصادي.
وحسب رواية المؤلف فقد كان الرئيس الأميركي الراحل “جون كيندي” يعتبر آسيا في ذلك الوقت بمثابة حصن في مواجهة الإمبراطورية الشيوعية عندما ساند عام 1963 انقلاب في فيتنام الجنوبية ضد “نجو دينه دييم” أول رئيس لفيتنام الجنوبية، والذي لقي مصرعه فيما بعد وسط مؤشرات على أن السي أي ايه هي التي أمرت بتصفيته.
لقد تم ذلك في إطار مجموعة من الانقلابات التي هندستها أو أدارتها الاستخبارات الأميركية ومن ذلك الانقلاب على “مصدق”، و”عبد الكريم قاسم” في العراق، و”أربينز” في فنزويلا، و”لومومبا” في الكونغو. وقد كان من نتائج سقوط نظام “دييم” إقامة قواعد عسكرية أميركية في جنوب شرق آسيا على نحو وصل في نهاية الأمر إلى حد اندلاع حرب فيتنام.
غير أن “بيركنز” يشير إلى أن الأمور لم تسر على النحو الذي أراده كيندي فقد تم اغتياله هو نفسه كما أن الحرب في فيتنام تحولت إلى كارثة على الولايات المتحدة على نحو أدى إلى مبادرة الرئيس نيكسون عام 1969 بسحب قوات أميركية من هناك، مع تبني إداراته استراتيجية العمل السري في محاولة للحيلولة دون حدوث نظرية الدومينو بسقوط دولة وراء الأخرى في إطار الشيوعية وكانت إندونيسيا هي المفتاح.
يشير المؤلف إلى أن من بين عوامل اختيار إندونيسيا الرئيس “سوهارتو” نفسه. فقد اكتسب صيتا دوليا بأنه شديد العداء للشيوعية ولا يتوانى عن اللجوء إلى أشد الأساليب وأكثرها فظاعة من أجل تنفيذ سياساته. ولعله مما عزز تلك الصورة أن “سوهارتو” خلال قيادته للجيش تمكن من سحق انقلاب شيوعي، الأمر الذي أدى حسب بعض التقديرات إلى الإجهاز على حياة ما يتراوح بين 300 ألف إلى 500 ألف شخص في واحدة من أكبر المذابح الإنسانية في القرن العشرين، مذكرة بتلك التي تسبب فيها “هتلر” و”ستالين” و”ماوتسي تونغ”. كما تم القبض على أكثر من مليون شخص ألقوا في السجون ومخيمات الاعتقال. وإثر هذه التطورات استولى “سوهارتو” على السلطة كرئيس عام 1968.
الشيوعية والنفط
يقول “بيركنز” إنه عندما وصل إندونيسيا عام 1971، كان هدف السياسية الخارجية الأميركية واضحا: وقف الشيوعية ومساندة الرئيس. ويضيف: لقد كنا نتوقع أن يخدم “سوهارتو” واشنطن على شاكلة ما قام به شاه إيران. لقد كان الرجلان متشابهان من حيث الاتصاف بالطمع والجشع وعدم الرحمة. وبالإضافة إلى الرغبة في الاستيلاء على النفط الإندونيسي فقد كانت الإدارة الأميركية تسعى إلى أن تقدم جاكرتا مثالا لبقية آسيا وكذلك العالم الإسلامي.
كان المدخل إلى “سوهارتو” في إطار المعرفة بطباعه بالغ التحديد. وفي إطار كون الشركة التي يعمل “بيركنز” بها تقوم في جانب من أعمالها على مشاريع في مجال توليد الكهرباء، تم عرض الأمر على “سوهارتو” والمسؤولين المتنفذين هناك باعتبار أن تشجيع مثل هذه المشاريع سيضع البلاد على عتبات التصنيع وهو ما سيمكنهم من تحقيق ثروات هائلة. كان ذلك، حسب “بيركنز”، يحقق هدف تعزيز الهيمنة الأميركية، وكانت مهمة المؤلف القيام على إعداد الدارسات الاقتصادية الضرورية للحصول على التمويل من البنك الدولي وبنك التنمية الآسيوي، والوكالة الأميركية الدولية للتنمية.
وعلى ذلك فبمجرد وصول المؤلف، عقد فريق شركته «مين» اجتماعا في مطعم فاخر بأحد فنادق إندونيسيا، ولخص “شالي إلينجوورث” مدير المشروع المهمة بقوله: نحن هنا لتحقيق مهمة إنقاذ هذا البلد من الوقوع في براثن الشيوعية. وأشار إلى المدى الذي يصل اليه اعتماد الولايات المتحدة على النفط، وأن إندونيسيا يمكن أن تصبح حليفا قويا في هذا المجال، وعلى ذلك دعاهم إلى العمل على ضمان أن تسير صناعة النفط وكل ما يتعلق بها من موانئ وخطوط أنابيب وشركات البناء على النحو المراد.
وخلال تلك الفترة وفي الفندق الذي كان يقيم فيه تعرف على امرأة هام بها حبا كانت في عمره تجمع بين الطبائع الغربية والملامح الآسيوية. ومن خلال هذه الحكاية يصحبنا المؤلف إلى أحد جوانب العمل في مجاله والمتعلق باستخدام الفتيات في تنفيذ بعض المهمات مضيفا أنه بمرور الوقت اكتشف أن وجود فتيات الجيش أمر ليس قاصرا على اليابان. ومن خلال لقاءات جمعته مع إحدى هذه الفتيات فقد راحت تخبره أن فتاة مثلها تلعب دورا حيويا في التوصل إلى أكثر الاتفاقات العالمية أهمية.
تأثيرات سلبية للقروض
يشير “بيركنز” إلى أن مهمته تطلبت زيارة إندونيسيا عدة مرات، وقد كان البنك الدولي ومنتسبوه وحكومة “سوهارتو” يعربون عن تقديرهم لرغبة الشركة في تزويدهم بالتقارير المطلوبة من أجل تأمين قروض يمكن أن تفيد الشركات الأميركية والحكام الإندونيسيين.
يقول المؤلف: لم يكونوا يهتمون بأن هذه القروض يمكن لها أن تترك الدولة في قبضة الديون على نحو كبير. بالنسبة للبنك كان ذلك جزءا من خطته، أما بالنسبة إلى “سوهارتو” فإنه فيما ركز على استثمار ثروته المتنامية بسرعة مذهلة بمشروعات خارج البلاد، فقد ورط بلاده في قروض هائلة ألقت بتأثيراتها السلبية عليها طويلا.
يحرص المؤلف في هذا الصدد على تقديم نماذج لبعض المشروعات التي تم تقديمها والتعاطي بشأنها ومن ذلك مشروع تنمية جزيرة “بورنيو” والتي قررت الحكومة الإندونيسية أن تجعلها نموذجا للتنمية، فيما أن الأميركيين رأوا أنها يمكن أن تمثل بقرة حلوبا للمعادن، وموارد الغابات، والمناطق الصناعية.
كما كان من بين المشروعات التي قام المؤلف على إعداد دراسات بشأنها مشروع منطقة “سولاويسي” التي كان ينظر إليها أيضا على أنها تمثل حجر الزاوية في برنامج الحكومة للتهجير، المشروع المماثل لما تم في الأمازون واستعمارها واستهدف نقل المناطق الحضرية من المدن في جافا .
حيث الكثافة السكانية الأعلى في العالم إلى المناطق غير المسكونة. وعلى شاكلة النسخة الأميركية اللاتينية فقد تم دعم البرنامج من قبل وكالات التنمية الدولية كأحد أساليب تمويل المناطق المتخلفة لإعادة تسكين المناطق الريفية وفي الوقت ذاته على نحو يحد من احتمالات التمرد ضد الحكومة.
في انتقاد لهذه السياسة يشير المؤلف إلى أنها تواصلت على الرغم من أن الخبراء سرعان ما اكتشفوا أن مثل هذه البرامج، في كلا القارتين، غالبا ما تتحول إلى كوارث، فالسكان المحليون تم انتزاعهم من مواقعهم وأراضيهم وثقافاتهم تم تدميرها، فيما أن السكان الحضريين راحوا يصارعون من أجل زراعة غير ناجحة في تربة غير مؤهلة.
تقارير مبالغ فيها
يقول المؤلف أنه إثر وصوله “سولاويسي” كانت مهمته كالعادة تتركز في السفر إلى أي منطقة يحتمل أن تحوز موارد يمكن أن تستفيد منها الشركات متعددة الجنسيات والالتقاء مع قادة المجتمعات وجمع كل المعلومات المتاحة وكتابة تقرير يثبت أن قروضا كبيرة من أجل تطوير الطاقة الكهربائية ومشروعات بنية أساسية أخرى يمكن لها أن تحول هذا الاقتصاد الذي ينتمي إلى القرون الوسطى إلى اقتصاد حديث ناجح.
وفي سرد لتفاصيل العالم الخفي للشركات الأميركية والأساليب التي تتبعها يذكر المؤلف أنه في ضوء خبرته بإندونيسيا طلب ممثل إحدى الشركات الكبرى لقاءه قاصدا إياه أن يؤدي خدمة للشركة بحكم معرفته الوثيقة بالمتنفذين في إندونيسيا. وقد أشار ممثل الشركة المذكور إلى أن شركته تعتزم إقامة مشروع مجمع لمعالجة المواد الكيمائية هناك. وأنه سيكون واحدا من أكبر مشاريع الشركة في تاريخها الذي يتجاوز المئة عام، حيث تقدر تكلفة المشروع بنحو مليار دولار، غير أنه أشار له مخفضا صوته إلى أن الشركة لا تستطيع السير في المشروع قبل أن تصل إلى طريقة لدفع مبلغ 150 مليون دولار رشوة لأحد أفراد عائلة “سوهارتو”، وأنه على هذا الأساس يقصده في ضوء خبرته الطويلة التي قضاها في إندونيسيا. ويسأله كيف يمكن له أن يحقق هدفه؟
هنا يتوقف المؤلف ليقدم رؤية انتقادية بشأن التجربة التي خاضتها الإدارة الأميركية وشركاتها في إندونيسيا فيقول: أن بلاده لم تقدم للأغلبية من الناس شيئا يذكر مضيفا: لقد وصل بنا الحال فيما بعد أحداث 11 سبتمبر إلى أننا هزمنا الاتحاد السوفييتي الإمبراطورية البازغة العالمية والتي لم يكن من الممكن تحديها من قبل أية قوة عظمى أخرى.
نحن نفخر بشأن التقدم والتصنيع. نحن أنشأنا طبقة جديدة في العالم الثالث تخدم أفرادا قلائل من أصحاب الشركات متعددة الجنسيات. ولكن ماذا بشأن الأغلبية من الناس في الأماكن التي أخضعناها. يبدو أن ذلك الأمر من القضايا التي تجعله يشعر بالندم وهو ما يشير إلى أنه نذر نفسه لتغييره بشكل أو بآخر، الأمر الذي يتأكد للقارئ في أكثر من موضع.
إحصائيات دولية خادعة
ويستعيد “بيركنز” هنا النشاط الذي قام به على صعيد الدولة التي بدأ منها وظيفته إندونيسيا وفي مراجعة لأوضاعها يتطرق إلى الأزمة النقدية التي أطاحت بالنمور الآسيوية عام 1997 والتي ألقت بتأثيرها على ملايين الأفراد وأدت إلى آلاف ـ وربما ملايين ـ الوفيات جراء المرض والجوع والانتحار وانتشرت عبر مختلف أنحاء العالم.
ويقدم في هذا الصدد تفنيدا لما ذهبت إليه رؤى صندوق النقد والبنك الدوليين قائلا إن الإحصائيات الرسمية تشير إلى أن عملنا في إندونيسيا منذ السبعينات أدى إلى قفزات اقتصادية ساد الإعجاب بها على الأقل حتى 1997، هذه الإحصاءات تفخر بالحد من التضخم وزيادة النقد الأجنبي بما يقدر بنحو 20 مليار دولار وفائض في التجارة الخارجية، وقطاع بنكي قوى، فضلا عن ارتفاع معدل الناتج القومي في البلاد.
ويشير المؤلف إلى أن اقتصاديي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وشركات الاستشارات والمؤسسات الأكاديمية كانوا يستخدمون مثل هذه الإحصاءات من أجل التأكيد على أن سياسات التنمية التي لعب المجرمون الاقتصاديون المحترفون دورا أساسيا فيها أثبتت نجاحها.
غير أنه يؤكد على أن هذه الإحصاءات لا تكشف الثمن الفادح الذي دفعه الشعب الإندونيسي من اجل ما يشار إليه على أنه معجزة اقتصادية، فالفوائد كانت محدودة وقاصرة على أولئك الذين كانوا في قمة السلم الاقتصادي. لقد تحقق التقدم السريع في الدخل القومي عبر استغلال العمالة الرخيصة والأيدي العاملة الوفيرة في مواقع العمل الشاق، حيث يقضي العمال ساعات عمل طويلة ويعانون من ظروف حياة سيئة. كما تحقق هذا النجاح المزعوم في ظل سياسات تمنح الشركات الأجنبية الرخصة لتدمير البيئة وممارسة أنشطة ممنوعة في شمال أميركا وبقية العالم الأول.
وعلى الرغم من أن الحد الأدنى للأجور ارتفع إلى نحو ثلاثة دولارات في اليوم، فإن ذلك ليس بالرقم الذي يعول عليه. وفي 2002 فإن ما يقدر بنحو 52% من السكان الإندونيسيين كانوا يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، الأمر الذي يمكن مقارنته على نحو أو آخر بتجربة العبودية، وحتى ثلاثة دولارات يوميا تعد غير كافية لتزويد الإنسان باحتياجاته الأساسية وأسرته.
أعباء على الإندونيسيين
وعلى ذلك يخلص إلى أنه لا يوجد شك في أن إندونيسيا إنما سلكت سياسات مثلت أعباء على شعبها. ثم أن القروض المخيفة والتي أصبحت مجالا لثروة هائلة على مستوى النخبة في الدولة لم تترك خيارا. وطبقا لتقرير تمويل التنمية الدولية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي فإن نسبة القروض الخارجية لإندونيسيا إلى الناتج القومي زادت مقارنة بكل الدول الآسيوية الأخرى. وأما فوائد الديون فقد بلغت نصيبا كبيرا.
ويقرر “بيركنز” بثقة: لقد كان من الواضح أننا ألقينا بالعبء على هذا البلد مع هذه المبالغ فيها من القروض على نحو لا يمكنه من إعادة سدادها، وقد وجد الاندونيسيون أنفسهم مجبرين في المقابل على إرضاء رغبات شركاتنا على نحو أكد أننا – المجرمون الاقتصاديون المحترفون – حققنا أهدافنا.
ومرة ثانية فإن مؤشرات الاقتصاد القومي أثبتت خداعا كبيرا، ففي إندونيسيا فإن التبادل الأجنبي المزدهر والتجارة المفضلة وذات المخرجات الجيدة وكذا الناتج القومي ذو النتائج المزدهرة إنما يعكس وضع قطاع صغير فقط من السكان وليس كلهم. وهنا يعرض المؤلف في سياق التدليل على صحة رؤيته بعض الرؤى والشهادات بشأن الأوضاع السيئة التي يحياها عمال في إندونيسيا يعملون في شركات متعددة الجنسيات مشهورة تنتج لنا ماركات معروفة من الأحذية والملابس.
وفي إطار إشارته إلى التجربة الإندونيسية يقرر المؤلف أن من بين أكثر أوضاع حقوق الإنسان والانتهاكات البيئية سوءا تلك التي حدثت في تيمور الشرقية، الجزيرة النائية الغنية باحتياطات النفط والغاز، فضلا عن الذهب والمنجنيز. وعلى عكس “سولاويسي” والتي تعد جزءا من إندونيسيا، فإن تيمور الشرقية كانت تحكم من قبل البرتغاليين لنحو أربعة قرون، ويشكل المسلمون الإندونيسيون نحو 90% من سكانها. وقد حصلت تيمور الشرقية على استقلالها عن البرتغال عام 1975 وبعد نحو تسعة أيام غزتها القوات الإندونيسية حيث قضت على نحو 200 ألف شخص ثلث سكان الإقليم، الأمر الذي تحقق، حسب المؤلف، بمساندة أميركية.
في تيمور الشرقية
حسب الوثائق التي تم الإفراج عنها من قبل أرشيف الأمن القومي، فإن الحكومة الأميركية لم تقم فقط بتزويد الجيش الإندونيسي بالأسلحة التي استخدمت في ذلك الوقت، وإنما أيضا أقرت ما حدث بوضوح. وطبقا لهذه التقارير فإن الرئيس جيرالد فورد ووزير خارجيته هنري كيسنجر اجتمعا مع “سوهارتو” في السادس من ديسمبر 1975 ووافقا على خطته للهجوم والتي انطلقت في اليوم التالي.
كانت الفكرة ان معظم المتمردين تسوقهم الرغبة اليائسة من أجل التحرر من قيد نظام “سوهارتو” القمعي وأنهم يمكن أن يتحولوا إلى أقطار مثل الصين كملاذ أخير من أجل الحصول على المساعدة العسكرية والطبية. هنا يذكر المؤلف أن القضية التي تم التعتيم عليها في الإعلام الأميركي أن دعم “سوهارتو” يخدم مصالح الشركات متعددة الجنسية الذين يديرون عملية صنع القرار في أميركا، وقد انعكس هذا الدعم في تأييد واشنطن “وول ستريت” لخطة “سوهارتو” السيطرة على الأرخبيل بالكامل حتى المناطق التي لم تكن تمتلك موارد.
وحسب “بيركنز” فقد كانت «المؤسسة» أو النخبة المسيطرة من أصحاب الشركات الكبيرة تدرك وجوب مساندة الدكتاتور “سوهارتو” إذا كانت تريد أن تتمتع بسيطرة على المناطق التي يوجد بها الموارد التي تسعى تلك النخبة إلى استغلالها وتكوين ثروات مالية منها.
التنمية الوهمية
في إطار سرده للجوانب السلبية لما جرى في إندونيسيا يشير المؤلف إلى أنه في الجزء الشمالي من “سومطرة”، وحيث توجد منطقة “أتشه” المنطقة الغنية بالنفط والغاز قتل أكثر من عشرة آلاف شخص على يد الجيش على مدى السنوات التي قضاها “بيركنز” في إندونيسيا. كما لقي آلاف آخرون حتفهم في مواجهات حدثت بجزر الملوك وغرب “كاليمانتان” و”إيريان جايا”. وفي كل هذه الحالات فقد كان الهدف الحقيقي للقوات المسلحة تأمين الموارد التي تسعى الشركات متعددة الجنسيات للاستحواذ عليها والتي على نحو أو آخر تمول أنشطة حكومة ونظام “سوهارتو”.
ومن خلال هذا التناول يشدد المؤلف على الفكرة الرئيسية التي يعمل على تأكيدها من خلال الكتاب في أجزائه المختلفة وتتمثل في أن إندونيسيا تعد مثالا محوريا على الاستثمارات القائمة على التمويل الدولي والقروض، وأنها ذهبت بعيدا في تمويل بنيتها الأساسية عبر هذا الطريق على النحو الذي ولد طلبا على الفنادق والمطاعم والمراكز التجارية وأعمال البناء والخدمات والأعمال البنكية وأنشطة النقل التي تصاحب مثل تلك العمليات، وهى عمليات بدت خادعة واستغلت في تسويق نموذج للنمو يقوم على الاقتراض لمصلحة مجموعة شركات فيما لم تعد بالفائدة الكبيرة على الجمهور الكبير والأشمل ..الشعب الإندونيسي.. في هذه الحالة، فالأثرياء من الإندونيسيين والأجانب يحصلون على معظم الثروة والعوائد فيما الغالبية من الشعب تعاني.
وعندما وقعت الأزمة الاقتصادية واستفحلت في دولته لم يجد “سوهارتو” أمامه سوى أن ينخرط في تنفيذ برامج صندوق النقد الدولي للهيكلة حيث أوصى الصندوق بالحد من إمدادات الوقود والطعام والكثير من الخدمات الاجتماعية الأخرى من أجل تخفيض الإنفاق، وقد أنتجت هذه السياسة مجاعات أكثر وأمراضا ومعارضة، حيث خرجت الجماهير في النهاية إلى الشوارع. وأخيرا لم يجد “سوهارتو” أمامه سوى الاستقالة في مايو 1998 منهيا 32 عاما من الحكم الديكتاتوري، الأمر الذي استتبعه أميركيا قطع إدارة كلينتون كل علاقاتها العسكرية مع الجيش الإندونيسي، فيما يكشف عن البراجماتية التي تتسم بها السياسة الأميركية.