عبدالله السناوي
5يونيه 2022
بدت الهزيمة العسكرية في 5 يونيو/حزيران (1967)، قبل خمسة وخمسين عاماً، مباغتة ومروعة. كان رأي جمال عبد الناصر، أن النظام الذي يفشل في صيانة ترابه الوطني لا يحق له البقاء.
في لحظة الهزيمة تقوضت الشرعية وسقط النظام، غير أنه تبدت في تظاهرات 9 و10 يونيو/حزيران شرعية مستأنفة رفضت تنحيه وفوّضته الحكم من جديد لإزالة آثار العدوان دون أن يكون ذلك تفويضاً على بياض.
لم يسبق لأمة مهزومة ومجروحة في كبريائها الوطني أن راهنت على قائدها المهزوم، باعتباره أملها في رد اعتبارها وتحرير أراضيها التي احتلت.
المفاجأة أخذت عبد الناصر نفسه، الذي كان يتصور أن تُنصب له المشانق في ميدان التحرير.. لا أن تخرج الملايين تعرض المقاومة وتطالبه بالبقاء.
«غادرت الجريدة إلى الشارع وكان الظلام ينتشر بسرعة والناس تجري في كل اتجاه وهم يصيحون ويهتفون. ثم أخذوا يشكلون اتجاهاً واحداً إلى مصر الجديدة. وهم يرددون في جنون اسم ناصر. وظهرت بعض الأنوار في المحال والمنازل ثم دوت أصوات مدافع فوق رؤوسنا فساد الظلام من جديد». تلك الصورة التقطها صنع الله إبراهيم في روايته (١٩٦٧) من أحداث ومشاعر عاين عمقها بنفسه انفجار بالبكاء وتشنج وانهيار وخروج بعفوية للشوارع عند إعلان عبد الناصر تنحيه.
كان الروائي الشاب في ذلك الوقت مطارداً سياسياً. خرج من المعتقل عام 1964 بعد أن قضى خلف جدرانه خمس سنوات كاملة.
ضُرب مشروع جمال عبد الناصر من بين ثغرات نظامه. وصف الشاعر السوداني محمد الفيتوري ما جرى في يونيو، وما بعده ب«جلال الانكسار».
كان ذلك التعبير قريباً في معناه ودلالته مما أطلقه الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري في وصف عبد الناصر ب«عظيم المجد والأخطاء». معنى مقارب ذهب إليه الشاعر أحمد فؤاد نجم في قصيدة كتبها بعد سنوات طوال من رحيل الرجل الذي هجاه في حياته: «عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت.. وعاش ومات وسطنا على طبعنا ثابت.. وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت.. ولا يطولوه العدا مهما الأمور جابت».
بعد صدمة يونيو جرت مراجعات واسعة لأسباب الهزيمة وأوجه الخلل في بنية النظام السياسي قادها عبد الناصر بنفسه.
في محاضر رسمية حاكم نظامه بأقسى ما يمكن تصوره من عبارات، «في رأيي أن النظام الحالي استنفد مداه ولا بد من نظام جديد». «لا أريد معارضة ممسوخة». «أنا ضد نظام الحزب الواحد لأن الحزب الواحد يؤدي غالباً إلى قيام ديكتاتورية مجموعة معينة من الأفراد».
«لم يبق في عمر معظمنا أكثر من عشر سنوات، خاصة بالنسبة لي مع المرض اللي عندي والجهد الذي أتعرض إليه. لذلك أنا شايف ضرورة تغيير نظامنا؛ بحيث لا يسمح النظام الجديد لشخص أو لشلة غير واعية أو جاهلة سياسياً أن تحكم البلد. البلد الذي أعطانا ثقته المطلقة بلا حدود».
وفق محضر جلسة تالية طرح السؤال الآتي: «إلى أين المسير بهذا النظام القديم؟».
«لا بد من أن يكون نظامنا مفتوحاً، ولا بد أن تكون هناك معارضة، كما يجب أن نفتح الباب للجرايد أن تكتب بالمفتوح لأنني أعتقد أن الطهارة الثورية بعد خمسة عشر عاماً (من الثورة) أصيبت كثيراً، وحتى الوحدة الفكرية بيننا أصبحت غير موجودة».
بدا عبد الناصر كمن يثور على نظامه. ولم تكن أول مرة. في مطلع الستينات ثار على نظامه بتحولات اجتماعية غيرت في البنية الطبقية، وأحدثت حراكاً غير مسبوق.
كأي تجربة إنسانية كانت هناك أخطاء بعضها أقرب إلى الخطايا، غير أن المسار العام حكمه مشروع واضح في معالمه وتوجهاته.
المراجعات جرت في توقيت واحد مع إعادة بناء القوات المسلحة والدخول التدريجي في مواجهات عسكرية مباشرة.
كان عبد الناصر مستعداً أكثر من غيره لتقبل كل نقد لأسباب الهزيمة وتفهم دواعي أصحابها مهما بدت العبارات قاسية كما فعل الشاعر نزار قباني في «هوامش على دفتر النكسة»، التي كتبها بحد سكين غضبه.
«أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغة القديمة والكتب القديمة.أنعي لكم.. كلامنا المثقوب، كالأحذيةِ القديمة»
تعرضت أعمال نزار قباني للمصادرة في مصر. جرت حملة صحفية عليه بدواعي الغيرة في النفوس، تصدرها الشاعر صالح جودت.
بنصيحة من الناقد الأدبي رجاء النقاش، كتب نزار خطاباً إلى عبد الناصر، الذي لم يكن قد قرأ الديوان الغاضب. عندما أطل على نصه أشّر عليه بالنشر في مصر دون حذف حرف واحد.
بعد سنوات قليلة من هذه القصة المثيرة اختلفت المواقع. هاجم صالح جودت عبد الناصر بضراوة فيما أنشد فيه نزار قباني قصيدة رثائية فاقت شهرتها «هوامش على دفتر النكسة»: «قتلناكَ.. يا حبّنا وهوانا.. وكنت الصديق، وكنت الصدوق، وكنت أبانا.. وحين غسلنا يدينا.. اكتشفنا.. بأنا قتلنا منانا.. وأن دماءك فوق الوسادة.. كانت دمانا..».
الفارق الزمني بين القصيدتين ثلاث سنوات. والفارق الموضوعي هو نفسه الفارق بين نظام أخفق في حفظ سلامة حدوده ومشروع ألهم العرب ذات يوم أنهم يستطيعون أن يصنعوا مستقبلهم بأنفسهم.